لم أودع ابني ولم أجد جثمانه.. أريد قبرًا له يخفف وجعي

يوليو 22, 2025

تاريخ الإفادة: 28/6/2025

أنا غدير جواد أسعد أبو العيش، 39عاماً، سكان غزة – الشيخ عجلين، متزوجة من يوسف محمد أبو العيش، وأم لخمسة أبناء: هيام، 19 عامًا، والشهيد محمد 16 عامًا، والشهيد رمزي 14 عاماً، وياسر 16 عامًا، ويزن 14 عامًا.

منذ بداية الحرب في 7 أكتوبر 2023، كنا نقيم في منزلنا بحي الشيخ عجلين. في ظهيرة 30 أكتوبر، قصفت الطائرات الإسرائيلية الطوابق العليا من منزلنا، واستهدفت كل المنازل المجاورة. جاءتنا رسائل تهديد تطالبنا بالإخلاء والتوجه جنوبًا. رحل الجميع وبقينا وحدنا. انتقلنا لاحقًا إلى بيت شقيقة زوجي في الشيخ رضوان.

في صباح اليوم التالي، ذهبتُ مع أطفالي إلى مستشفى القدس، فيما بقي زوجي يوسف وابني ياسر في منزلنا. كان ابنيّ محمد ورمزي في طريقهما إلى البيت عندما استهدفتهما الطائرات الإسرائيلية قرب مسجد الشيخ عجلين. سمع زوجي يوسف الانفجار، وأدرك في داخله أن أبناءه قد أُصيبوا، فاندفع هو وياسر إلى المكان ليجدا محمد ورمزي وقد استُشهدا، وقد مزّقت شظايا القصف جسديهما، ملقيين على الأرض.

اتصل بي زوجي من هناك، وأنا في مستشفى القدس، ليبلغني بالخبر الذي كسر قلبي. ركضت مع ابني يزن أبحث عن وسيلة لإنقاذهما، توسلت للمستشفى لتسيير سيارات إسعاف، وبعد بكاء وصراخ، خرجت أربع سيارات. ركبت أول سيارة، وأملي الوحيد أن أجد ابنائي أحياء. طوال الطريق كنت أردد: “يا رب، لا حول ولا قوة إلا بالله“، وأدعُو الله بنجاتهم.

حين وصلتُ إلى موقع القصف، طلب مني أحد المسعفين الاتصال بزوجي، لكنه لم يُجب. قال لي سائق الإسعاف: “يبدو أنهم جميعًا استُشهدوا”، فازداد قلقي. وبعد دقائق، خرج زوجي وابني ياسر، كانا ينتظران انتشال الجثامين. وحدها سيارة الإسعاف التي كنتُ فيها تقدّمت إلى مكان القصف، بينما بقيت باقي السيارات خلفنا. أحد المسعفين خرج من السيارة الخلفية وبدأ بتصوير جثامين أولادي، فصرخت عليه، وأنا في قمة الانهيار، جاثية على ركبتي من هول المشهد.

رأيتهم يحملون جثمان رمزي في كيس مبلل بالدم، وعندها أيقنت أنه قد استُشهد. كنت أمني نفسي برؤيتهم على قيد الحياة. رددت: “لا حول ولا قوة إلا بالله، أشهد أن لا إله إلا الله”.

طلبت من الطاقم إحضار جثمان محمد، لكنهم رفضوا بسبب تحليق الطائرات الإسرائيلية، وخوفًا من قصف جديد. توسلت إليهم، لكنهم أصرّوا على المغادرة.

عدت في سيارة الإسعاف مع جثمان رمزي، وأنا ممسكة بيده، مرددةً: “لا حول ولا قوة إلا بالله”. أحسست بنبض في يده، وكانت عيناه مفتوحتين، كأنه لا يزال حيًا. وصلنا إلى مستشفى الشفاء، وتم إدخال رمزي إلى الثلاجة فورًا. وبعد تكفينه، نظرت إلى يديّ الملطختين بدمه وقلت لزوجي، باكية: “بديش، والله ما بغسلهم من الدم، كيف بدي أنام بحضن ولادي يا يوسف؟”

حاولت لاحقًا عبر الصليب الأحمر استعادة جثمان ابني محمد، لكن المحاولات باءت بالفشل بسبب صعوبة الأوضاع الأمنية. في النهاية، لم يتمكن أحد من الوصول إليه، وبعد 40 يومًا، بحث ابني ياسر عن جثمان شقيقه، لكن دون جدوى. علمنا لاحقًا أنه قد تم دفن العديد من الجثث مجهولة الهوية تم انتشالها بعد خمسة أيام من القصف. وحتى اليوم، لا أعلم ان كان جثمان ابني محمد بينهم ام لا.

كل ما أريده الآن هو أن أجد طفلي، ولو كانت عظامه فقط، لأدفنه.

فقدت والدي وأنا في الرابعة من عمري، ولم يُعثر عليه حتى اليوم، ولا قبر أزوره له. كنت دائمًا أرى الناس يزورون قبور أحبائهم، وأحس بحرقة الحرمان. ظننت أنني سأنسى هذا الوجع يوماً ما، لكن الفقد تجدد، والوجع تعمّق.

بعد زواجي انا ويوسف بعامين، أنشأنا مشروعاً صغيراً عبارة شاليه قرب منزلنا. كان مساحة أمل، لكنه ذهب مع كل شيء فقدته: بيتي، أولادي، وحتى حلمي الصغير. والأصعب أنني لم أدفن محمد. وجعي مضاعف، لأن محمد يُعيد حكاية والدي، فكلاهما بلا قبر. لم يتبق لي سوى ذكريات: بلوزة محمد التي وجدتها بين الركام وغسلتها يومين متواصلين، عصي الخيل التي كان يحبها، وقطعة قماش ملوثة بدم رمزي ما زلت أحتفظ بها.

اليوم، لا أستطيع النوم، أسمع أصواتهم في كل مكان، وأراهم كل ليلة في أحلامي. أمنيتي الوحيدة الآن أن أجد محمد، أن أدفنه بيدي، أن يكون له قبر أزوره. لم أعد أرغب في بيت ولا مال، كل ما أريده هو فرصة لحياة أفضل لمن تبقى لي من أبنائي.