مارس 18, 2024
35 ساعة تحت الأنقاض
مشاركة
35 ساعة تحت الأنقاض

هند خليل محمد ميمة، ٢٣ عامًا، مشروع بيت لاهيا وحاليا نازحة في دير البلح

كعادتها كما في كل حرب غاشمة تُشَن على قطاع غزة أمضت أختي سلام ميمة (المصري)، ٣٠ عاماً، أيامها الأخيرة -دون أن تعلم أنها الأخيرة- في تداول الأخبار والتحليل السياسي حسب آرائها وطبيعة عملها كصحفية ولكن في 10/10/2023 تحديداً الساعة الثانية فجراً كانت هي الخبر، فقد استهدف الاحتلال البيت المجاور لبيتها مما أدى لتدمير منزلها الذي تقطن فيه في منطقة الفالوجا (الاتصالات) شمال القطاع، لكننا لم نتمكن من معرفة كل هذا إلا في ساعات الفجر الأولى بسبب انقطاع التيار الكهربائي والإنترنت. 

لا نعرف كيف أنا وأبي وأمي وأخواتي ذهبنا إلى منزلها لنتأكد من الخبر، حيث كان القصف في كل مكان. لم نشعر كيف وصلنا ولكن الحقيقة كانت أقوي من أي شيء، فما سمعناه كان أقل مما شاهدته، حيث منزلها المكون من ٤ طوابق مدمر ومن شدة القصف وجدنا زوج أختي سلام محمد المصري ملقى بجانب البيت جثة هامدة. أيقنت لحظتها أن أختي سلام وأولادها الثلاثة هادي، ٨ سنوات، وعلي، ٦ سنوات، وشام، ٣ سنوات، مصيرهم مجهول تحت الأنقاض. ومن هنا بدأت رحلة معاناتنا في محاولة انتشال أختي وأطفالها من تحت الأنقاض .. أرسلنا عدة مناشدات للدفاع المدني ولكن دون جدوى. بسبب كثرة الاستهدافات في شمال القطاع لم تتمكن سيارات الدفاع المدني من الحضور، الأمر الذي دفع جميع أفراد العائلة بالعمل باقل الإمكانيات والأدوات المتوفرة بالحفر تحت الانقاض، وهكذا مر اليوم الأول لحبيبة قلبي وحيدة تحت الركام نجهل ما حل بها.

وفي اليوم التالي وبالرغم من القصف الكثيف في شمال غزة إلا أن أبي وأخوتي وبعض الأقارب أصروا للعودة لمنزل سلام لمحاولة فعل شيء ما. فجأة وأثناء التنقيب سمعوا صوتاً من تحت الركام كان صوت سلفة أختي. قالت بلهفة الذي يتشبث بالحياة (أنا عايدة أنا عايشة ). بدأ الجميع بالتهليل وان هناك أمل أن يكون الجميع بخير، بذلوا جهدهم بالإمكانيات المتاحة لإخراجها من تحت الركام حية بعد أكثر من ٢٤ ساعة. وهنا تجدد الأمل في إيجاد سلام لربما حية! بعدما أخبرتهم بأنها سمعت صوت أنين فاستمروا بالحفر حتى اليوم التالي هو 12/10.  إصرار أفراد العائلة وأملهم بإخراج الجميع من تحت الركام كان تحدي لصوت القصف والطائرات في سماء شمال غزة، وبالفعل بدأ الأمل يتحقق حيث كنت أقف أراقب ربما تتحقق أمنيتي بسلامة سلام وأولادها الثلاثة. استمر الحفر، وفي حوالي الساعة ١١ صباحا تم انتشال علي ابن أختي سلام الأصغر وطبعاً كان في حالٍ يرثى لها. دون أن أشعر ركبت معه سيارة الإسعاف فقد مكث تحت الأنقاض أكثر من ٣٥ ساعة متعبا وحيدا خائفا وجائعا، حيث تم نقلنا إلى مستشفى الأندونيسي ومن هناك تم تحويله إلى مستشفى الشفاء إلى قسم العناية المركزة نظراً لخطورة حالته وتدهورها. وعندما أنظر إليه الآن لا أصدق أنه نجا من كل ما مر به على الأقل جسدياً فقد مكث في العناية المركزة ٣ أيام ومنع من الطعام والشراب نظراً لوجوب خضوعه لعدة عمليات. ولكن لم يكن الموضوع سهل أبداً نظراً لعدم توفر الأسرة والازدحام الشديد بسبب كثرة الإصابات إثر الاستهدافات الوحشية للاحتلال. كان المصابون ملقون بين الممرات وكانت الطواقم الطبية تعمل بكل ما واتوا من إمكانيات. 

شاهدت الكثير من المصابين أيقنت أن ما يحدث لغزة هو قتل مع سبق الإصرار وإبادة بالمعني الحقيقي كل لحظة كان يصل المئات من المصابين والشهداء ومعظمهم اطفال ونساء. 

في اليوم الثالث الساعة ١١ ليلاً قرر الأطباء إجراء ٣ عمليات لعلي فقد كان يعاني من قطع في أوتار اليد وخلع بالكتف ومشكلة أخرى في الرأس وتكللت بالنجاح.

ومن هنا بدأت معاناة جديدة مع علي فقد وجدَ نفسه صفر اليدين وتدمرت أحلامه وفقد ماضيه ومستقبله وعائلته وكل ما كان يملك دون أن يدري كيف سرق منه الموت أعز ما يملك كان لديه الكثير من التساؤلات ” وين أمي وأبوي واخواتي؟ .. طيب دارنا؟ وألعابي؟ ” لم أملك القدرة على اخباره الحقيقة طمأنته أنهم بخير وينتظرون خروجه.

في 16/10 تقرر خروجنا من المستشفى وتوجهنا إلى دير البلح حيث نزحت عائلتي قبل يومين بناءً على تعليمات قوات الاحتلال الإسرائيلي الذي أمر سكان شمال قطاع غزة بالتوجه إلى جنوب الوادي، أما بالنسبة لسلام أختي وطفليها هادي وشام فقد تم انتشالهم أموات من تحت الركام بتاريخ 13/10.

اسمحوا لي أن أقتطع من الزمن لحظات لأخبركم عن فقيدة قلبي سلام كانت حقاً رائعة بتفاؤلها وحيويتها وأحلامها فقد كانت كباقي الأمهات تحلم أن ترى فلذات أكبادها يكبرون أمام أعينها وهي تحفهم بالحب والاهتمام، تمنت أن يكون هادي طبيباً فلطالما تحدثت لي عن حلمها ذاك ” نفسي أشوفه دكتور يا هند” وما زالتُ لا أصدق كيف سرقها الموت مبكراً قبل أن تتمكن من تحقيق ما كانت تحلم به حالها حال الكثيرين من نساء غزة.

بدأت معاناة علي تتفاقم فقد استقبله الجميع بالبكاء وبين كل الوجوه لم يجد أثراً لأفراد عائلته فكانت صدمته كصفعة مدوية جعلته يربط الأحداث ويدرك ما يخشى حدوثه …لقد علم أنه فقد كل شيء ولكنه كان ينكر، لم يشأ أن يصدق .. – سمعناه يحدث أصدقائه “دار جيرانا وقعت على دارنا وصارت زي البسكوتة وشكلوا أهلي راحوا فيها”- وازداد إلحاحه يوماً بعد يوم ليرى عائلته أو يحدثهم وكنا نختلق الأعذار فتارةً نخبره أنّه لا يوجد شبكة اتصال وتارةً نخبره أن الطريق مغلقة ولم يمتلك أي منا الشجاعة الكافية لمواجهته بالحقيقة المؤلمة. 

لم يجد علي أي إجابات شافية لأسئلته وكل ما كان يجده هو المراوغة مما جعله يلجأ للعنف فقد صار عنيفاً ومؤذياً لنفسه وغيره ..يبكي بهستيرية وتصيبه نوبات غضب ويصر على البقاء وحيداً إذا رأى أحداً من أقارب أهله أو أصدقائهم. 

من يعرف علي الطفل كثير الحركة والابتسامة اجتماعي كل العائلة تحبه، كان هو وأخيه هادي كأنهم توأم لا يفارق أحدهم الآخر حتى عندما كانت سلام تشتري لهم الملابس فتكون متطابقة، الكلام كثير عنهم ولكن في القلب غصه عندما تنتاب علي حالة الغضب، لا يمكن أن أصف الحالة النفسية التي يمر بها فهي صعبة جدا وفي تدهور مستمر. 

أصبح كثير التعلق بأبي -جده- ويذهب معه إلى كل مكان كظله فهو يخاف إن أفلت يده مرة أن لا يعود أبداً كما فعل أهله.

في مرة من المرات بينما كان علي يرافق جده-كعادته- وأنا معهم شاهد طفلة في عمر أخته شام تلعب لفتتني نظراته لها كانت غريبة ومُحملة بالوجع وأول مرة ينطق اسم اخته شام فقال (زي عروسة شام) وبعد عودتنا إلى البيت بدأ بالصراخ والبكاء الهستيري دون أن ينطق بكلمة واحدة وأصر على البقاء وحيداً في الغرفة واستمر في نوبة حزنه ٣ أيام يرفض الطعام أو الحديث مع أي شخص غير أبي (جده).

لا نعرف كيف نخبر علي بالحقيقة التى يرفض عقله ان يدركها، نحن على يقين بأنه يعرف أنه لا يمكن أن يرى هادي وشام وأمه وأبوه مرة ثانية فقد سرق الموت عائلته وتركه وحيدا يصارع مستقبله المجهول. 

علي مثال حي لمعاناة أطفال غزة الذين فقدوا كل شيء، وسرقت الحرب منهم أهلهم وذويهم وأحلامهم ومستقبلهم وماضيهم ولا يعلمون هل سينالون فرصة البدء من جديد!

أما آن لهذا العالم أن يتحرك ويكسر صمته أمام الإبادة الجماعية لسكان غزة ويرحم هؤلاء الأطفال.