سمية سهيل سعد السويركي، 19 عاما، آنسة، سكان حي النصر في مدينة غزة.
أسكن مع عائلتي المكونة من والديّ، وأشقائي: تالا، 12عاماً، وسعد 18 عاماً، ومحمد 5 أعوام، في الطابق السادس من عمارة الجذور الكائنة في مربع ملعب فلسطين في مدينة غزة.
منذ بداية الحرب الإسرائيلي على غزة في 7 أكتوبر 2023، ونحن نعاني من الخوف الشديد جراء القصف الشديد الذي يكاد لا يتوقف في مدينة غزة. عندما ألقى الاحتلال منشورات بإخلاء غزة والشمال في 13 أكتوبر قررت عائلتي البقاء في المنزل ورفض النزوح. لم نفكر بالذهاب إلى الجنوب: أين نذهب إلى مكان مجهول؟ وكيف نخرج من ديارنا؟
كانت الأيام صعبة مع توالي القصف وأخبار الشهداء والجرحى والتدمير في مكان مع أزمات الكهرباء والمياه واشتداد وتيرة الحصار، وكنا نحاول البقاء على قيد الحياة.
خلال أواخر شهر نوفمبر، بدأت طائرات الاحتلال بشن حزام ناري شديد في المنطقة التي نسكن فيها، فنزلنا إلى الطابق الأول ولم نستطع الهروب من شدة الدخان في المكان. علمنا بعد ساعة أن القصف الإسرائيلي استهدف مكتب لحركة حماس، فاعتقدنا أنه لن يحدث أي قصف في المنطقة بعد ذلك.
ذهبنا إلى منزل جدتي القريب من عيادة الوكالة في النصر لأنها مريضة بقينا في منزلها خشية قصف عمارة الجذور كون أنهم كانوا يقصفون عمارات وأبراج في ذلك الوقت.
بدأت الأحزمة النارية التي يشنها الاحتلال في منطقة النصر بغزة تشتد ليلة بعد ليلة ونحن صامدون في البيت. وقد وصلت دبابات الاحتلال محطة أبو حليمة وهي منطقة قريبة جداً من منزلنا، فاضطررنا للذهاب إلى بيت خالتي في منطقة الصحابة. ومكثنا هناك إلى أن بدأت الهدنة في 24/11/2023، وخلالها عدنا إلى بيت جدتي فوجدناه مهدوما، فذهبنا إلى منزلنا في عمارة الجذور وجلسنا فيه مدة الهدنة.
لقد تجهزنا وكنا ننتظر: هل ستمتد الهدنة فنبقى في المنزل، أم ستنتهي فنخرج؟ عند الساعة السابعة ودقيقة اخترقت الهدنة في 1/12/2023، إلا أننا لم نستطع الهروب فطائرة الكواد كابتر بدأت بإطلاق النار قريب منا.
بتاريخ 2/12/2023 وتحديدًا الساعة 11:30 مساءً أي بعد يوم من انتهاء الهدنة، أطلقت طائرات الاحتلال صاروخًا تجاه المنزل دون سابق انذار. فقد كنا نائمين بالقرب من باب الشقة ظناً أنه أكثر الأماكن في بيتنا أمانًا إلا أنه هو المكان الذي نزل به الصاروخ. استشهد على الفور أخوتي: تالا (12عاماً)، وسعد 18 عاماً)، ومحمد(5 سنوات)، وسقط أبي من الطابق السادس إلى الأول، بينما بقيت أنا وأمي مصابتين في الطابق السادس. لقد قطعت رجلها اليمنى إثر القصف وبقيت تنزف. وعند حلول الصباح الساعة السادسة تقريباُ أتوا الناس ليسعفونا أخذوا والدي إلا أنهم حين صعدوا إلينا بدأت طائرة الكواد كابتر الإسرائيلية تطلق النيران بشدة، فوضعوني على الفرشة ورجلي شبه مقطوعة من عند الركبة والثانية بها شظية أيضاً، وأخبروني أنهم سوف يرسلوا الإسعاف لينقذني، وعلمت لاحقا أن الاحتلال قصف سيارة الإسعاف في طريقها للقدوم إليّ.
بقينا أنا وأمي، في شقتنا المستهدفة، ولم نملك أي شعور سوى أننا نتمنى أن نستشهد ونلتحق في إخوتي الباقين. لم نتحدث كثيراً خلالها فقد كانت تتألم عندما تتحدث وكانت كل واحدة منا مشغولة في آلام النزيف الذي تعاني منه.
لم يكن لدينا ماء أو طعام، أكلت مصاصة فقط. بعد 7 أيام تحديدًا بتاريخ 8/12/2023، رأيت على وجه أمي ذبابة فقلت لها أمي أبعديها عنك فلم ترد أعدت عليها فلم ترد بدأ صوت نفسها يعلو حتى انقطع واستشهدت هي الأخرى، صرخت بأعلى صوتي من القهر وانهرت من البكاء بعدها.
لقد كان استشهاد أمي في النهار ولا أستطيع تحديد أي وقت فلا أملك شيء، وفي الليل من نفس اليوم عاودت طائرات الاحتلال وقصفت العمارة بثلاثة صواريخ، لقد كانت العمارة مقسومة من المنتصف إثر القصف والصواريخ سقطت في تلك الفجوة وأنا على الجانب الأيمن منها أرى كل شيء. لم أخف لقد كنت في اللاشعور، لا أريد سوى أن أموت وألحق بعائلتي.
في اليوم التالي صباحاً، اقتربت طائرة كواد كابتر (طائرة صغيرة الحجم) للاحتلال مني جداً وأنا ملقاة على فرشتي داخل المنزل، فمثلت أني ميتة كي لا تطلق النار وتزيد ألمي دون أن أموت. يومها عطشت كثيراً، فأصبحت أدعو الله أن تمطر. وبالفعل استجاب لي وأمطرت الدنيا إلا أنني لم أستطع الوصول إليها، فدعوت الله بشدة أن يدخل المطر عليّ، دقائق حتى بدأت المياه تتسرب من السقف امتلأت الفرشة بعدها كثيراً بالمياه، وبدأت أعصر فيها وأشرب حتى ارتويت بعض الشيء.
لقد مكثت حوالي 12 يوما لم يغمض لي جفن نهائياً ولا أعرف ما السبب. ولكني تمنيت أن أنام ذات يوم، فحدثت نفسي أنني يجب أن أقوى للعودة إلى الفرشة. فقد تعبت من الجلوس على الحجارة. إن رجلي اليمنى تتدلى من عند الركبة عندما أحاول التحرك ولا أستطيع حملها بالرجل الأخرى لأنها مصابة هي الأخرى والجرح ينزف منها، وربطتها بجراب وبقي ينزف لكن بشكل أقل.
بعد 5 أيام عطشت مرة أخرى، بدأت أصرخ ” أريد مياه” والدبابات تقف تحت العمارة، فخرج الجندي وقال في الميكرفون من يصرخ يريد مياه فارتعبت خوفاً ولم أجب وبعدها شربت زجاجة دواء كانت قريبة مني ولا أعرف ما هي إلا أنني كنت بحاجة شديدة للمياه.
طوال فترة وجودي وحيدة قرب جثمان والدتي وكل هذه الأيام بلا طعام أو شراب، بلطف الله بقيت على قيد الحياة ولكن كنت منهكة ومتعبة وانخفض وزني كثيرًا.
انسحبت الدبابات بعد 21 يوما من حصاري واستشهاد عائلتي وذلك بتاريخ 21/12/2023، فأتى جيراننا لينقذوني. وما إن بدأوا يسحبوني حتى بدأت الكواد كابتر الإسرائيلية بإطلاق النار، فقلت لهم اتركوا لي مياه واذهبوا أستطيع البقاء إلا أنهم رفضوا بشدة وقالوا لي مستحيل أن نتركك بعد كل هذا العذاب. بعد وقت ذهبت الطائرة وربطوني بالفرشة وبصعوبة بالغة أنزلوني لأن الدرج كان محطما.
خرجت وذهبت إلى مستشفى الشفاء وهناك التقيت بوالدي المصاب. واستطعت أن أعمل العملية بتاريخ 9/1/2024، والآن أنتظر هدنة إنسانية كي أستطيع السفر لمعالجة رجلي الأخرى.
رغم أنني فقدت عائلتي، وعانيت معانة لا يمكن لأي عقل بشري تخيلها إلا إنني ما زلت أحب بلدي ولن أتركها، وسأخرج من الحرب وأقدم الدعم النفسي لأبناء شعبي قدر المستطاع. إذ إنني في العام الثاني من دراسة علم النفس.
نسخة تجريبية