تاريخ تحرير الإفادة: 4/8/2025
اسمي عائد إبراهيم محمد أبو خاطر، 48 عاماً، وزوجتي سائدة يحيى أحمد أبو خاطر، 45 عاماً.
نحن عائلة فلسطينية من مشروع بيت لاهيا شمال قطاع غزة وسكانها، كنا نعيش في شقة صغيرة أهداني إياها والدي – رحمه الله – كما فعل مع جميع إخوتي العشرة، ليؤمّن لكل واحد منا بداية طريق. حياتنا لم تكن مترفة، لكنها كانت مستورة، يسودها الدفء الأسري والرضا. حالياً نعيش في خيمة مقابل مبنى الولادة، مستشفى الشفاء الطبي.
أنجبت وزوجتي ستة أبناء: إبراهيم، 23 عاماً، نعمة، 21 عاماً، عاطف، 18 عاماً، محمد، 15 عاماً، يحيى، 11 عاماً، وزياد، 8 أعوام. اليوم، وأنا أروي شهادتي، فقدنا اثنين منهم: زياد وعاطف، كلٌّ منهما رحل بطريقة مأساوية، في ظل حرب لم تبقِ لنا من الأمان شيئاً.
مع اندلاع حرب الإبادة الجماعية منذ السابع من اكتوبر، تحولت منطقتنا إلى جحيم، بحكم قربها من الحدود ومحاصرتها بالأراضي الزراعية التي صارت أهدافاً مباشرة للقصف. الانفجارات لا تهدأ، والرعب لا يفارقنا. بعد أسبوع فقط من بدء الحرب، قُصف منزل مجاور لنا، فاضطررنا للنزوح على عجل، تاركين كل شيء خلفنا. حتى مشروع ابنتي “نعمة” الصغير لصناعة مواد التجميل والصابون، الذي استثمرت فيه أكثر من 4000 دينار، بقي في البيت مع مواده وخططه. لم نخرج إلا بملابسنا، ولا نعلم حتى الآن كيف نجونا.
نزحنا أولاً إلى معسكر جباليا، ثم إلى جنوب القطاع في مدرسة الرياض في النصيرات، حيث بقينا حتى يناير 2024، نتقاسم الصف مع ثلاث عائلات أخرى وسط ظروف معيشية قاسية. ولتأمين احتياجاتنا، بدأ ابناي محمد وعاطف ببيع “الكاسترد” داخل المدرسة. كنا نحاول أن نعيش بكرامة دون طلب المساعدة من أحد.
استمر الوضع على هذا الحال، حتى وصلت أوامر بإخلاء المدرسة بسبب العمليات العسكرية في البريج، نزح الجميع، ووجدنا أنفسنا وحيدين في مواجهة المجهول. أذكر في أحد الأيام، وبينما كنا لانزال نعيش في المدرسة تفاجأنا بإطلاق نار مباشر باتجاه العلم الموجود في ساحة المدرسة، حيث كانت قوات الاحتلال الاسرائيلي في الجهة المقابلة تمامًا فقلت لزوجتي حينها: “هذه إشارة، خلص لازم نطلع.”
انتقلنا إلى رفح، تل السلطان، وبقينا هناك حتى شهر مايو 2024، ثم اضررنا للنزوح مجدداً إلى منطقة الإقليمي بين رفح وخان يونس. عشنا هناك 20 يومًا من العذاب، كانت أصعب مهمة هي تعبئة المياه، كان أولادي يخرجون من الساعة الخامسة صباحًا وحتى العصر فقط ليملئوا بعض “الجالونات” من الماء. كانت الحياة في تلك الفترة أشبه بالصراع من أجل البقاء.
استيقظت في يوم وقلت لأولادي: “بدنا نطلع من هذا المكان، أنا مش مرتاح.” وبالفعل، تواصلت مع سائق صديق ليساعدنا في الوصول إلى دير البلح.
ولكن في صباح يوم 23 يونيو 2024، خرجت زوجتي وابنتي نعمة إلى دير البلح للقاء معلمتها ليتشاركا معاً في مشروع صغير، ولتستلم منها المشروع الذي عملت عليه لإنتاج المواد التجميلية والصابون. سمحت لنعمة بالذهاب مع والدتها بشرط ان يصطحبوا أخاها زياد معهم، ولكنه جاء إليّ وقال: “بدي أضل عندك، وماما بدها تجيبلي حاجات معها.” وذهب ابني إبراهيم إلى السوق، وخرج محمد وعاطف لبيع الترمس. كنت أقف أمام الخيمة، فجأة، دوى انفجار هائل استهدف براميل المياه المقابلة لخيمتنا. شعرت بالدم ينزف من رأسي ويداي وقدماي مثقبتان بالشظايا. في تلك اللحظة كان زياد يتناول الطعام مع يحيى، فأصابت شظية رأسه مباشرة واستشهد على الفور.
نُقلت إلى المستشفى البريطاني الميداني، ودخلت في غيبوبة نتيجة الإصابة، وعندما استيقظت، كان أول ما تبادر إلى ذهني هو ابني يحيى، لأن البسطة التي كان يعمل عليها كانت قريبة من مكان القصف. لم أكن أعلم حينها أن الأولاد كانوا في الخيمة، ولم يخطر ببالي أبدًا أن زياد قد أصيب؛ كنت أظنه يلعب عند أولاد خالته.
قبل الاستهداف بدقائق، كان زياد قد أحضر “مفتول” ونادى أخاه ليتشاركا الطعام معًا، تاركًا عمله. وعندما سألت أخي عن يحيى، أجاب: منيح. لكن صوته كان يحمل شيئًا من الحزن لا يمكن إخفاؤه. حضر والدي وابني إبراهيم وأبناء إخوتي لزيارتي في المستشفى، وأُبلغت أنني سأخضع لعملية جراحية مباشرة، لكنني رفضت حتى أعرف ما حلّ بأبنائي، فقد أيقنت من هيئاتهم أنني فقدت أحدهم.
ما إن وقع بصري على إبراهيم حتى اجتاحني ذلك الشعور مجددًا. سألت عن يحيى مرة أخرى، فأخبروني أنه أصيب بشظيتين في كتفه وخرج من المستشفى، لكن قلبي لم يطمئن. رفضت الدخول إلى غرفة العمليات، وقلت بوضوح: “مش رايح أعمل العملية إلا لما تحكولي مين من أولادي راح.” أصررت على موقفي، وبدأ ابني إبراهيم بالبكاء، حتى اضطر أحدهم أن يقولها: الله يرحمه. صُدمت، وسألت: مين؟! قالوا: زياد. لم أكن أعلم أنه كان في الخيمة وقت الاستهداف. أعمامه هم من تولوا دفنه، ولم أودّعه، ولم ألقِ عليه النظرة الأخيرة، ولم أحتضنه.
زياد لم يكن طفلًا عاديًا بالنسبة لي. كل أولادي أعزاء على قلبي، لكن زياد كان الأقرب. وُلد بعد تقاعدي، وكان رفيقي في كل مكان. كبر أمام عينيّ، وكان أصدقائي يلقبونه بـ شنطتي لأنه لا يفارقني. في كل صلاة عيد كنا نذهب معًا، وكان يملأ حياتي ضحكًا وخفة ظل. كان ذكيًا، لبقًا في الحديث، محبوبًا من الجميع، والكل يحب أن يسمعه وهو يحكي. والآن.. رحل، دون وداع، دون نظرة، دون حتى لحظة أخيرة.
بعد استشهاد زياد، انتقلت زوجتي واولادي عند اخوتي في منطقة “أصداء” وواصل أبنائي محمد وعاطف بيع الترمس لتأمين لقمة العيش. كانت أمهم لا تنام، تجلس على تلة الرمل تترقب عودتهم. المنطقة كانت مخيفة، خالية من الناس، مليئة بالخوف والكلاب الضالة. وخلال فترة وجودي في المستشفى، كنت أرسل لهم الطعام الذي كان يُصرف لي بين حين وآخر، ليقتاتوا عليه. كانت أمهم تصطف لساعات أمام المخبز لتحاول جلب ربطة خبز، وكنا نعيش على هذا القدر فقط.
بعد خضوعي لعملية زراعة عظم، بقيت أتلقى العلاج في المستشفى لفترة طويلة، بينما اضطرت زوجتي، قبل رمضان بثلاثة أيام تقريباً تحديداً في أواخر فبراير 2025، للعودة إلى الشمال مع أولادنا دون مأوى، بعد أن دُمّر منزلنا. أقامت مع الأولاد عند معارف لمدة أسبوع، ثم بدأت تبحث بكل الطرق عن خيمة من خلال المؤسسات أو أي جهة تقدم المساعدة، لكن دون جدوى. كانت تمضي ساعات النهار في الشارع، تبحث عن مأوى، عاجزة عن نقل ما كان بحوزتنا من شوادر وخشب، إذ كانت قد عادت من الجنوب سيرًا على الأقدام، من دوني بسبب إصابتي، ومن دون أي وسيلة مواصلات.
بعد جهد طويل، حصلت على خيمة وأقامت بها في مدرسة “خليفة بن زايد” في بيت لاهيا، لكنهم أُجبروا لاحقًا على النزوح إلى منطقة الأمن العام، ثم إلى الشفا قرب سلطة الطاقة، حيث عاشوا أسبوعًا بلا نوم بسبب البرد، والخوف، والحشرات، والفئران. لم تتوقف المعاناة، فانتقلوا مجددًا إلى منطقة الشاليهات على شاطئ البحر، حيث زادت الرطوبة والبرد من معاناتهم وأصابت ابنتي نعمة بحساسية في عينيها، فيما قضوا خلال النزوح ثلاثة أيام بلا طعام، ينامون جائعين ويستيقظون أكثر إنهاكًا، ومن بينهم ابني عاطف الذي أنهكه الجوع والتعب.
في أحد أيام الجمعة من أواخر يونيو 2025، وصلتنا ورقة استحقاق وجبة من التكية، فطلبت زوجتي من ابني عاطف أن يذهب ليحضرها. رأته أمه يركض وهو يحمل الطنجرة وكأن الجوع خطف وعيه، حتى أن شقيقته لحقت به خوفًا عليه. عاد ومعه القليل من العدس، لكن بعض الطعام انسكب عليه وأحرق إحدى قدميه. لم يشعر بالألم وقتها، فالجوع كان أقوى من أي وجع.
في تلك الليلة، جلسوا جميعًا يتقاسمون ما أحضره، ملعقتين لكل فرد فقط ليسدوا رمقهم. بعد أيام، تورم إصبعه، فنقله أخوه إبراهيم إلى المستشفى، ثم بدأت حالته تتدهور. بعد ثلاثة أيام، لم يعد قادرًا على الوقوف، وفقد إحساسه بالجوع تمامًا. حتى الشاي المُر وفتات الخبز كانوا يجبرونه على تناوله بصعوبة. جسده بدأ يضعف شيئًا فشيئًا، وفقد القدرة على المشي، وأصبح يحتاج لمساعدة والدته واخوته حتى لقضاء حاجته.
لاحقاً، عندما خرجت من المستشفى أخيراً، ورأيت ابني عاطف، لم أستطع التعرف عليه، شعرت وكأنني امام شخص غريب. نظرت الى امه وقلت لها: “مين هذا؟! ليش هيك صار؟”. كان جسده هزيلاً، هيكلًا عظميًا لا يتحرك تقريبًا، وصوته بالكاد يخرج. أخذته فورًا إلى المستشفى، وحين رآه الأطباء صُدموا من حاله.
بدأت رحلة التنقل بين المستشفيات: من الشفاء، إلى المعمداني، إلى الرنتيسي. تحاليل، صور، وخزعات، وكل النتائج كانت “سليمة”، لكن لم يجبني أحد عن سبب فقدان وزنه وتوقفه عن الحركة وثقل كلامه. وفي النهاية قاموا بتشخيصه بأنه يعاني “صدمة نفسية حادة إلى جانب سوء تغذية شديد.”
مكث 18 يومًا في مستشفى الحلو، يعيش على المحاليل فقط. كان يرفض الطعام أو لا يقدر على تناوله، وحتى الماء كنا ندخله لجسمه بالسرنجة. سوء التغذية أدى الى ضمور عضلي وفقدان الحركة، ولم يعد قادرًا على المضغ. ظهرت التقرحات على ظهره، وجسده أصبح جلدًا على عظم.
في المستشفى، اختلف الأطباء بين من يكتب له “خروجًا” ومن يصر على تحويله للخارج، لكن خرجنا بلا حل. تواصلت مع الدكتور الذي يعرف حاله، فأرسلني للدكتور عبد الله الجمل في عيادة الدرج. فور أن رآه الدكتور قال: “الولد بيموت.. هاي مش صدمة نفسية، هذا سوء تغذية حاد. لازم يتحول للخارج فورًا”.
لكن عاطف كان بحاجة لرعاية مكلفة.. بامبرز، ومكملات غذائية، وأنا لم أستطع توفيرها. كنت أسهر الليل بجانبه أسمع أنينه وصراخه من الألم.
في ليلة الجمعة 1 أغسطس 2025، تلقيت اتصالًا بخصوص تحويله للعلاج بالخارج، وطلبوا مني تجهيز الأوراق وإدخاله المستشفى صباح السبت. ولكن صباح ذلك اليوم 2 اغسطس، بينما كانت والدته واخوته يجهزونه لنقله الى المستشفى لاستكمال الإجراءات. فجأة سمعتهم يصرخون: “يا أبو إبراهيم، الحق! عاطف أبصر شو صاير له!” ركضت. نظرت إليه وقلت: “عاطف الله يرحمه”. رحل عاطف، كما رحل شقيقه زياد من قبله. جائعين، مظلومين، دون أن يُمنحا فرصة للحياة.
عاطف كان قوي الشخصية، محبوبًا من الجميع، وكان من المفترض أن يقدم امتحانات التوجيهي، لكن الحرب حرمته. رحل من الجوع وسوء التغذية وسط حرب طاحنة. وغياب أي فرصة لإنقاذه في الوقت المناسب. لم يكن مريضاً قبل الحرب، لكن الحصار والجوع والبرد والقصف صنعوا هذا المصير. اليوم نحن نعيش في خيمة قرب مستشفى الشفاء، بلا مأوى حقيقي ولا أمان، نحمل وجعنا ونروي حكايتنا، لعل العالم يسمع.
هذه ليست مجرد قصة عائلتي.. هي حكاية كل عائلة فلسطينية فقدت أبناءها وسط الإبادة وصمت العالم.