يحذّر المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان من تدمير الاحتلال الاسرائيلي ما تبقّى من المنظومة الصحية في قطاع غزة، وقد بات هذا الأمر واقعًا ملموسًا، يتجاوز الانهيار ومجرد العجز عن تقديم الحد الأدنى من خدمات الرعاية الصحية، ليصل إلى مرحلة اللاعودة. ويؤكد المركز أن حجم الكارثة الإنسانية يتسع بشكل خطير مع تصاعد الجرائم التي ترتكبها قوات الاحتلال الإسرائيلي، والتي باتت تمس جوهر الوجود الفلسطيني في قطاع غزة، في ظل صمت دولي مريب وتخاذل متواصل من المجتمع الدولي، وتخلٍّ تام عن الواجبات القانونية للدول الأطراف السامية المتعاقدة على اتفاقيات جنيف الأربع، وعلى رأسها سويسرا، الدولة المودعة للاتفاقيات، والتي تواصل مماطلتها المكشوفة في الدعوة لعقد اجتماع طارئ للدول الأطراف، رغم مرور شهور على الموعد الذي كان من المفترض أن يُعقد فيه في مارس الماضي.
ووفق متابعة المركز، فإن المنظومة الصحية برمّتها تتداعى نتيجة توقف إمدادات الوقود والكهرباء بشكل كامل، وهو ما يعني انهيارًا كاملاً في خدماتها الحيوية والأساسية، من بينها توقف إجراء العمليات الجراحية، وتعطّل أجهزة الأشعة والمختبرات، وتوقف محطات توليد الأوكسجين وما يشكله من تهديد مباشر لأقسام العناية المركزة وحضانات الأطفال والخدّج، وتوقف شبه كلي لخدمات علاج مرضى السرطان، وأمراض القلب، والحالات الحرجة التي تتطلب تدخلات تخصصية متقدمة. استمرار هذا الوضع سيفضي إلى انقطاع المدنيين عن الخدمات المنقذة لحياتهم بشكل تام.
وفي سياق هذا الانهيار، أعلنت إدارة مجمع الشفاء الطبي بغزة عن التوقف الكامل لخدمات غسيل الكلى، ما يهدد حياة 350 مريضًا، معظمهم من الأطفال والنساء وكبار السن. 1 ويشار إلى أن 41% من مرضى الفشل الكلوي – وعددهم قرابة 1200 مريض – قد توفوا خلال الـ 22 شهرًا الماضية، بسبب حرمانهم من الوصول المنتظم للعلاج ضمن منظومة صحية معزولة ومحاصرة، ولا تعكس هذه النسبة المروعة سوى طرفًا من الحقيقة، فكل مريض داخل قطاع غزة من حديثي الولادة إلى مرضى السرطان بات اليوم هدفًا للموت البطيء، نتيجة هذا الانهيار الكلي في البنية الصحية.
في موازاة ذلك، يشهد قطاع غزة تفشيًا مقلقًا وخطيرًا لمرض التهاب السحايا المعدي، لا سيما بين الأطفال داخل مراكز الإيواء المكتظة، حيث انتشار مياه الصرف الصحي وأكوام القمامة بين خيام النازحين وبالقرب من تجمعاتهم، والتي تمثل بيئة خصبة لانتشار سريع للأمراض. فقد سجلت الوزارة مئات الإصابات من الأطفال، وسط نقص حاد في أصناف المضادات الحيوية اللازمة لمعالجة هذه النوعية من الأمراض، وقد أبدت وزارة الصحة مخاوف جدية من تفشي أمراض أخرى مثل الكوليرا، والالتهابات المعوية، والأمراض التنفسية، خاصة في صفوف الأطفال. كما تزداد الكارثة تعقيدًا مع وجود أهم المستشفيات الحيوية كمجمع ناصر الطبي بمدينة خانيونس، ومستشفى الأهلي المعمداني بمدينة غزة، داخل مناطق تطالب قوات الاحتلال بإخلائها، ما يصعّب وصول المرضى والجرحى إليها، ويجعل حق الوصول إلى الرعاية الصحية ضربًا من المستحيل. وذلك أيضًا وسط مجاعة تتلاشى بسرعة فرص التصدي لها وفق برنامج الأغذية العالمية.2
ويفيد الدكتور راغب ورش أغا، رئيس قسم الأطفال بمستشفى النصر الرنتيسي للأطفال، بأن المستشفيات سجّلت 337 إصابة بالسحايا منها 259 حالة فيروسية، فيما تشهد الإصابات ارتفاعًا يوميًا في ظل عجز المنظومة الصحية، وشح حاد في المياه النظيفة ومستلزمات النظافة الشخصية، وهو ما يفاقم من فرص تفشي الأمراض المعدية في مراكز الإيواء التي تفتقر لأدنى شروط الصحة العامة. وأشار إلى أن البيئة الصحية في تلك المراكز غير صالحة، بل مشجعة على انتشار الأوبئة بشكل سريع، محذرًا من فقدان السيطرة على الوضع ما لم يتم التحرك العاجل وتوفير المضادات الحيوية اللازمة لمعالجة هذا المرض، والدعم الطارئ للمرافق الصحية.3
إن هذه الوقائع الموثقة تمثل في جوهرها تطبيقًا فعليًا لأركان جريمة الإبادة الجماعية كما حددتها اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1948، خاصة ما نصّت عليه المادة الثانية من “إخضاع جماعة قومية لظروف معيشية يراد بها تدميرها كليًا أو جزئيًا”. فالتدمير الممنهج للمستشفيات، وحرمان المرضى من العلاج، ومنع الوقود، وإغراق المناطق السكنية بالأوبئة، ليس صدفة أو نتيجة عرضية للعدوان العسكري الاسرائيلي، بل تعتبر سياسة مقصودة هدفها إنهاك سكان قطاع غزة جسديًا وبيئيًا ونفسيًا، وصولًا إلى تقويض وجودهم داخل أرضهم. ويشدد المركز أن استهداف النظام الصحي، وفرض الإخلاء على المستشفيات، ومنع الوصول إليها، يشكل انتهاكًا جسيمًا للقانون الدولي الإنساني، لا سيما اتفاقية جنيف الرابعة، ويمثل جريمة حرب موصوفة بموجب نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. كما أن تواطؤ المجتمع الدولي بصمته وتقاعسه هو مشاركة غير مباشرة في استمرار هذه الجرائم، ويفتح المجال أمام إفلات سلطات الاحتلال من العقاب.
ويرى المركز فيما يجري الآن في قطاع غزة جريمة حرب مكتملة الأركان، وانتهاكًا جسيمًا لاتفاقية جنيف الرابعة، تتورط في استمراره الدول التي فشلت حتى اللحظة في الوفاء بالتزاماتها القانونية. إن هذا التخاذل الدولي، لا سيما من قبل الدول الأطراف السامية المتعاقدة، وعلى وجه الخصوص الدولة المودعة للاتفاقيات – سويسرا – يمثل تواطؤًا صريحًا يُغذي منظومة الإفلات من العقاب، ويوفر غطاءً سياسيًا للاحتلال الإسرائيلي للاستمرار في ارتكاب جرائمه. فإن لم يُعقد اجتماع الدول الأطراف في ذروة هذا الانهيار الصحي والإنساني، فمتى يُعقد؟ ومتى ستتحمّل هذه الدول مسؤولياتها القانونية والسياسية والأخلاقية؟ إن الاحتلال لم يكن ليجرؤ على ارتكاب هذه الجرائم لولا هذا الغياب المريب للمحاسبة، وهذا الصمت الذي يرقى إلى مستوى المشاركة غير المباشرة في الجريمة.
وبناءً على ذلك، يدعو المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان إلى تدخل دولي عاجل وغير مشروط، لإدخال الوقود، والأدوية، والمستلزمات الطبية إلى قطاع غزة فورًا، وتوفير المياه النظيفة، ومستلزمات النظافة والصرف الصحي داخل مراكز الإيواء والمستشفيات، إضافة إلى إرسال بعثات طبية طارئة لحماية ما تبقى من المنظومة الصحية، ووقف هذا الانهيار الشامل. كما يطالب المركز الدول الأطراف في اتفاقيات جنيف، واتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية، بالتحرك الفوري لمساءلة سلطات الاحتلال عن الجرائم المرتكبة، باعتبارها تشكل انتهاكات جسيمة، وجرائم إبادة جماعية بحق سكان مدنيين محاصرين.