شيماء عزام محمود عبد الرازق، 26 عاما، متزوجة ولديها طفلان، سكان مخيم الشاطئ في غزة
أنا من سكان مخيم الشاطئ للاجئين، متزوجة من إسماعيل عصام عبد الرازق، ٣١ عاما، أنا واحدة من هذا الشعب الذي عانى ولا زال يعاني من ويلات هذه الحرب الشرسة التي أصابت كل بيت وكل شخص في هذا القطاع.
بدأت معاناتي منذ بداية هذه الحرب بسبب حملي بطفلي الثاني، كان الخوف يؤثر بشكل كبير على حملي فالخوف كان يسبب انقباضات في الرحم وكنا نخاف من ولادة مبكرة ومعسرة، واشتدت الحرب واشتد الخوف وازدادت معاناتي.
في اليوم الثامن من أيام الحرب، تحديدا بتاريخ 15/10/2023، قصفت قوات الاحتلال منزلا بجانب منزلنا قرب جامع السوسي بدون سابق إنذار، وتضرر منزلنا وسقطت علينا الشظايا والركام. أصيب معظم من كان في المنزل، وأصبت أنا وطفلي الصغير عمر، 4 سنوات، ونجينا بفضل الله. ثم خرجنا من المنزل إلى الشارع ولم نعرف إلى أين سنذهب، وبقينا في الشارع لساعات إلى أن جاء أحد الجيران في المكان وكان لديهم مصنعاً للأقمشة في المخيم توقف عن العمل بسبب الحرب وفتح لنا المصنع للنزوح فيه. لكن كان المكان لا يصلح للسكن، وكنا نعاني معاناة شديدة بسبب صغر المساحة وعدم وجود دورة مياه ولا كهرباء ولا أي مقومات للحياة، لكن الظروف أجبرتنا على البقاء في المكان وتحمل كل المصاعب.
في إحدى الليالي اشتد القصف بالأحزمة النارية في أماكن قريبة جدا وبجانب المصنع. كانت ليلة صعبة جدا، كادت قلوبنا أن تقف من شدة الخوف وأطفالنا يصرخون من شدة الخوف. كنا لا نعلم أماكن القصف، وهذا ما كان يزيد من خوفنا، كنا نفكر بأن القصف أصبح عشوائيا وجميعنا يردد الشهادتين، ويبكي ويصرخ ولا أحد يستطيع ان يتحرك ونشعر بالعجز والقهر تجاه أطفالنا. كنا جميعًا ننتظر أن يأتي علينا الصباح لنخرج من هذا المكان، وبالفعل وبفضل الله مضت هذه الليلة وبقينا أحياء وخرجنا من المكان بعد ما أقمنا فيه أسبوع.
وبتاريخ 23/10/2023، انتقلنا إلى منزل أحد الأقارب بشارع حميد وبقينا عندهم أسبوعاً آخر، وكنا نعاني ذات المعاناة من قلة الماء والأكل وضيق المساحة لوجود نازحين غيرنا في المكان. كانت الأيام تمضي، وكنت قلقة كثيراً لأن موعد ولادتي يقترب ولا مكان آمن ولا أعلم أين سيكون مكان الولادة وكيف ستكون ظروف الولادة وهل سنستطيع حينها الخروج من المنزل إلى المستشفى والكثير من التساؤلات. كان الوضع صعبا للغاية، فالقصف لا يتوقف ولا توجد وسائل نقل ولا يسمح حتى للإسعافات بالتنقل إلاّ بصعوبة. ما كان لنا إلاّ الدعاء لله بأن يسهل أمري ويأتي يوم الميلاد على خير، وتوكلنا على الله. مضى أسبوع بتدابير الله وخرجنا من المكان لنفس السبب، أي الخوف من اقتراب القصف والأحزمة النارية. ولعلمنا بأنه تم فتح مركز إيواء لأهالي معسكر الشاطئ بعد تهديد الاحتلال الغاشم لأهالي الشاطئ ومع ازدياد القصف والأحزمة النارية وقنابل الانارة والغاز والفسفور بتاريخ 30/10/2023، ذهبنا إلى هذا المركز وهو مقر “يو ان دي بي” مكون من خمس طوابق. كان في المكان أكثر من 3000 نازح والمكان كان مكتظا ولم نجد مكانا فارغا لنستقر فيه. بقينا وقتها في أحد الممرات في الطابق الرابع ولا يصلح أبدا البقاء فيه لأنه مليء بالمارة، فالممر يصل بين الغرف والحمام. ذهب البعض منا للبحث عن مكان آخر وبعد معاناة وجدنا مكانا في إحدى الغرف التي بها ثلاث عائلات وكنا نحن العائلة الرابعة. كنت أنا وثلاثة من بنات عمي وزوجة أبن عمي و8 أطفال، وعدنا لنفس المعاناة في كل مكان: لا ماء ولا كهرباء ولا فراش وضيق المكان. وكانت معاناتي أنا بشكل خاص بسبب حملي وفوات موعد ولادتي وكنت وقتها لا أشعر بحركة الجنين. وبفضل الله كان مقابل المكان الذي نتواجد فيه مستشفى الحلو التخصصي للولادة، وقد تم نقل قسم الولادة من مستشفى الشفاء إليه بسبب قصف قسم الولادة في مجمع الشفاء، فذهبت إليه للفحص بسبب تأخر ولادتي وضعف حركة الجنين، وقال لي الدكتور أن هذا طبيعي بسبب الخوف والتعب وقلة الماء والتغذية وبحمد الله كان الجنين بخير. وبعد يومين جاء المخاض في منتصف الليل، ولكن لم أقدر أن أذهب للمستشفى خوفا من أن يتم قصفنا فقد كان الاحتلال يقصف كل من يتحرك ليلا. ما كان أمامي إلا أن أتحمل الألم الشديد حتى الصباح، وبعدها ذهبنا إلى المستشفى وبحمد الله ولدت طفلي هاشم بتاريخ ٩/١١/٢٠٢٣ وخرجت بالسلامة. وعدت أنا وطفلي إلى مركز الايواء الذي لا يصلح للعيش فيه لأن كلانا يحتاج رعاية خاصة وتغذية خاصة ونوم مريح، لكن للأسف كل هذا كان معدوماً فكان غذائي بعد الولادة من المعلبات مثل الفول والجبنة فكان إدرار الحليب قليلا جدا بسبب سوء التغذية، وهو ما يؤثر على صحه طفلي ومناعته.
ولكن المصيبة كانت بعد يومين من ميلادي، حيث استيقظنا على صوت الدبابات وصوت رشاشاتها الذي أصاب كل من كان في المكان سواء في الشارع أو بوابة مركز الإيواء وكان هذا من أصعب ما مررت به في حياتي. لا أنسى وقتها صوت صراخ النازحين في المكان خوفاً من صوت الرشاشات والمدافع، ولا أنسى كيف كنت أركض بطفلي من مكان لآخر خوفا من قنابل الغاز الذي كان الاحتلال يلقيه بشكل مكثف في المكان. بقيت وقتها طوال الوقت في الممر، وكان الوضع صعباً للغاية ولا يحتمل، كنا محاصرين لا ماء ولا أكل والخوف أضعاف، وتم محاصرتنا تحت صوت المدافع. وبعدها بيوم قصف الاحتلال الطابق الثالث بقذيفة واستشهد أربعة شباب وأصيب أكثر من ١٤ شخصا معظمهم أطفال ونساء، ولم يسمح لا للإسعاف ولا للصليب الأحمر بالوصول إلى المكان، وبقي المصابون ينزفون لولا وجود صيدلانية في المكان قامت بإسعاف من تقدر على إسعافه، وأصوات البكاء والصراخ في المكان تقطع القلب. أمهات تصرخ وتبكي على أطفالها التي تنزف ولم تقدر على فعل شيء لهم. منظر لن أنساه في حياتي أبدا. وفي الصباح دفن الشهداء في فناء المكان، مشهد تقشعر له الأبدان. الوضع كان مأساويا جدا: قصف وتجويع وتعطيش وحصار بكل معنى الكلمة. كنا نناشد الصليب الأحمر ولا أحد يستجيب، ما جعل الشباب تخرج عن صمتها وتخرج للجيش وتطلب منهم أن نخرج من المكان فسمحوا لنا بالخروج. ووقتها بدأ الناس بالركض نحو البوابة للخروج من المكان، تركوا كل ما كان معهم من أغراض ونحن كذلك تركنا كل شيء لننفد بأرواحنا. ووقتها كانت الصدمة، كان المنظر الأصعب في حياتي منظر الدبابات والجيش والدمار الذي أصاب المكان كأنه زلزال قد حلّ في المكان. خرجت وأنا أحمل طفلي الذي لم يكمل الأربعة أيام من بين الدبابات كاد أن يغمى علي من الخوف والتعب. طلب منا الجنود الذهاب إلى الشرق، فذهبنا مشيا على الأقدام إلى شارع الصحابة وجميع الشوارع والمباني من حولنا مدمرة والدبابات والجثث والأشلاء حولنا في كل مكان، وبدأ الجيش بإطلاق النار فوق رؤوسنا وتحت أقدامنا وترويعنا وتخويفنا ووقتها بلغت القلوب الحناجر من شدة الخوف.
أكملنا طريقنا وبفضل الله وصلنا لشارع الصحابة إلى إحدى المدارس تسمى مدرسة الجرجاوي التي كانت مركزا لإيواء النازحين، جلسنا على الأرض لالتقاط أنفاسنا ولنرتاح، فقد كانت الطريق طويلة وأنا أصلا في فترة النفاس ولا يجوز لي المشي ولا التعب ولكن هذا ما أجبرنا عليه جيش الاحتلال، وبفضل الله استطعت اجتياز هذه المصاعب. وبعد ساعتين من وجودنا في المدرسة ونحن نجلس على الأرض، جاء أحد المسؤولين في هذه المدرسة وأخذنا إلى خيمة في وسط ساحة المدرسة لننام فيها ووقتها فعلا كنا نفترش الأرض ونلتحف السماء ونرتجف جميعا من شدة البرد وكنت أحتضن طفليّ كي أدفئه وكان الجو بارد جدا. واستيقظنا على الأمطار تتساقط علينا داخل الخيمة. قمنا مسرعين نحن وكل من كان في ساحة المدرسة للاختباء، ولكن هذا المنخفض تسبب في أعياء كل الأطفال.
وبعد أن قضينا يومين في هذه المدرسة إلى أن اقتربت الدبابات من المكان وبدأ صوت المدافع يقترب وقنابل الإنارة والغاز فاضطررنا للهروب إلى مكان أبعد. ومشينا إلى أن وصلنا لمنطقة التفاح إلى مدرسة يافا ولم يقبلوا استقبالنا في المدرسة بسبب اكتمال العدد. ولكن طلبنا منهم أن نبقى فيها ليلة واحدة لأننا في الصباح سنذهب إلى الجنوب كما طلب من كل سكان الشمال في القطاع فسمحوا لنا في البقاء في الممر على باب أحد الفصول في المدرسة. ما كان لنا إلا أن نبقى في هذا المكان في البرد والمطر وعلى الأرض. كانت من أصعب الليالي، وقتها كان المطر ينزل علينا والرياح شديدة جدا. أكثر ما كان يؤلمني وقتها هو طفلي الذي يرتعش من البرد ولم أقدر على فعل أي شيء له سوى أن أحتضنه ليدفأ قليلا وطفلي المولود أيضا كذلك وكلاهما يعاني من السعال والرشح.
قضينا هذه الليلة بما يعلمه الله وفي صباح يوم 15/11/2023 جهزنا أنفسنا وخرجنا لنذهب الى الجنوب. ركبنا على عربة يجرها حصان لعدم وجود مواصلات من باب المدرسة إلى دوار الكويتي، ونزلنا لنكمل مشيا لوجود حاجز يتواجد عليه الجيش الإسرائيلي. مشينا في طابور كان فيه المئات من النازحين، مشينا من بين القناصات والدبابات. وكان الجيش يعتقل الشباب، اعتقل الكثير من الشباب، ومن ضمنهم زوجي إسماعيل الذي كان يحمل طفلي فنادى عليه لينزل الطفل ويأتي إليه فأنزل زوجي الطفل وذهب لهم ولم نعرف عنه شيئا حتى هذا اليوم. وقتها انهار الجميع في البكاء ولكن لم نقدر على فعل اي شيء سوى أن نكمل طريقنا الصعب الذي يمتلئ بجثث الشهداء والدمار والخراب وأغراض وممتلكات الناس الذين أجبرهم الاحتلال على رميها في الطريق. وبدأت معاناتي الحقيقية في هذا اليوم بسبب اعتقال زوجي، كانت هذه صدمة عمري، شعوري وقتها لا يوصف، انفطر قلبي وقتها وازدادت معاناتي وازداد حزني وألمي. ذهبنا إلى منزل ابنة عمي في مخيم النصيرات، وبقينا عندها أسبوعا ونحن نسأل ونتساءل عن مصير زوجي ولكن دون فائدة لا أحد يعلم شيء عنه.
وبعد اسبوع اتفقوا على هدنة إنسانية وخرجنا من النصيرات إلى مدينة حمد في خان يونس في 24/11/2023. بقينا أسبوعا إلى أن انتهت الهدنة وعاد الاحتلال للقصف من جديد، وتم تهديد منطقة حمد وخرجنا منها بصعوبة وتحت القصف إلى رفح، إلى مراكز اللجوء. قضينا أول ليلة في مدرسة مريم فرحات في الحي السعودي على مصطبة الدرج، إلى أن قمنا بعمل خيمة في مكان خصص لإقامة الخيام لكل من نزح من خان يونس، خيمة على الرمال وبدون حمام ولا ماء ولا نظافة. ومن أول ليلة تعب طفلي المولود جدا وقمنا بأخذه إلى المستشفى، كان وضعه صعب جدا بسبب التهابات حادة على صدره دخل على إثرها العناية المركزة في قسم الحضانة بمستشفى الإماراتي. وقتها طلب مني الدكتور أن أترك طفلي وأذهب لأنه لا يسمح أن يكون مع الطفل مرافق وقال لي إن وضع طفلي صعب جدا وما علينا سوى الدعاء له ليخرج من هذه الشدة. كل هذا بسبب ما مر به طفلي من معاناة في مراكز اللجوء من برد وقلة نظافة ومن الهواء الملوث بسبب القصف ودخان السيارات الخاصة بالمواطنين الذين كانوا يستخدمون زيت الطعام (السيرج) لتشغيلها. رجعت بدموع عيني إلى الخيمة أدعو لزوجي ولطفلي، وبحمد الله بعد ثلاث أيام خرج طفلي من العناية ولكن طلب الدكتور ألا أرجع به الى الخيمة. وما كان لي إلا أن أذهب إلى بيت اختي في حي الجنينة مع أني كنت خائفة من هذا المكان بسبب قربه من الحدود مع الاحتلال والمعاناة هي نفسها في كل مكان، هذه حرب وكلها معاناة من حصار وخوف وتعب نفسي. أسأل الله أن يسلمنا جميعا من هذا العدوان ويسلم لي زوجي ويفك أسره، ويرحم شهداءنا ويشفي جرحانا، وأن وتنتهي هذه الحرب ونعود الي ديارنا سالمين غانمين بإذن الله والحمد لله على كل حال.
نسخة تجريبية