لبنى زايد خالد دلول، 32 عاما، متزوجة، أم لـ 6 أطفال، سكان حي الزيتون شرق غزة.
كانت تتجول بين الخيام وهي تحمل طفلتها الصغيرة والحيرة على وجهها والمعاناة اعترت ملامحها المتعبة باحثةً عن أحد يساعدها في خبز طحينها … لبنى أم حديثة الولادة تعيش بالخيمة مع أطفالها.. لا معيل لها بعد أن اعتقل الاحتلال زوجها أثناء نزوحه، فوجدت نفسها وحيدة غارقة بالمسؤولية والمهام الصعبة.
أنا متزوجة من المواطن محمد يوسف دلول، 40 عاما، كان يعمل بالحدادة، لدي 6 اطفال أكبرهم معتصم ،11 عاما، وأنس، 10 أعوام، ومالك، 7 أعوام، وملاك، 7 أعوام، ومايا، 6 أعوام، وماريا عمرها شهر أنجبتها بالحرب خلال رحلة نزوحي القاسية.
في 7 أكتوبر 2023، تفاجأت بسماع أصوات انفجارات متتالية، حيث كنت أعد أطفالي ليذهبوا إلى المدرسة، وصرنا نترقب ما هذا الصوت وسبب مصدره، حتى وصلت رسالة على الهاتف بتعليق الدوام الدراسي، وبدأت بمتابعة الأخبار لمعرفة ما حدث.
وفي مساء اليوم نفسه، بدأ القصف من قوات الاحتلال الإسرائيلي في مناطق متفرقة من غزة، وسكان حي الزيتون الذين يقنطون بالقرب من الحدود نزحوا إلى المدارس.
وفي 13/10 /2023، ألقى الاحتلال مناشير بضرورة التوجه إلى الجنوب، وبالفعل شاهدت الجيران وهم يغادرون الحي، لكن زوجي رفض وفضل البقاء بالمنزل فنحن لا نعرف أحدًا في المناطق الجنوبية وفضلا عن أنني حامل ومعي أطفال ” فأين نذهب بهم”.
وفي حوالي الساعة 11:00 صباحا من 30/10/2023، خرجت أنا وابني مالك، 9 سنوات، لجلب بعض الأغراض الضرورية من محيط المنزل، حيث قصفت طائرات الاحتلال بناية لعائلة ياسين بعدة صواريخ، وامتلأ المكان بالدخان والحجارة انهالت علينا. وصار ابني يصرخ، ومن شدة الدخان والغبار لم أستطع رؤيته في بداية الأمر فاعتقدت أنه خائف وصرت أطمئن به وأنا أحاول ضمه لصدري فوجدت وجهه غارقا بالدم وعينه اليمنى خارجة من مكانها. أخذته مسرعة إلى مستشفى الشفاء، وهناك علمت من الأطباء أن شظايا دخلت في عينه، وبعد عمل اللازم له من صور أشعة، تم تحويله إلى مستشفى العيون وتم إجراء عملية جراحية له، حيث فقد ابني الرؤية بالعين اليمنى، وتحتاج إلى تنظيف دوري ووضع مرهم مخصص لها خوفا من الالتهاب وتغطيتها.
ونظرا لاستمرار القصف والأحزمة النارية وسقوط بنايات على أصحابها، وشح البضائع وغلائها، وفي تاريخ 01/11/2023، قررنا التوجه إلى “مدرسة الفلاح” فهي مركز إيواء وكانت مكتظة بالناس وبها نقطة طبية، وكنا نتعاون بها على تدبير أمورنا واحتياجاتنا الأساسية خصوصا في توفير الطعام والماء.
وفي 16/11/2023، بينما نحن داخل المدرسة تفاجأنا بالقصف العشوائي على المدرسة من آليات الاحتلال، حيث استشهد العشرات، ما أدى إلى خلق حالة من التوتر والخوف الشديد بين النازحين، وبدأوا بالفرار من المدرسة.
وفي 17/11/2023، قرر زوجي وشقيقه الخروج من المدرسة والتوجه إلى الجنوب، حيث أهل سُلفتي سكان النصيرات وهي ذهبت عندهم منذ بداية الحرب، وطلب مني شقيق زوجي أن أحمل له حقيبته الخاصة الموجود بها الأوراق المهمة والأموال التي بحوزته. صعدنا جميعا على كارة (عربة يجرها حيوان) ووصلت بنا إلى مفترق دوار الكويت، ومن هناك سِرنا على الأقدام. وكانت أعداد كبيرة من الناس متوجهة إلى الجنوب، حيث كان جنود الاحتلال ينتشرون بالمكان ويوجد على أطراف الشارع السواتر الرملية وخلفها جنود الاحتلال، فضلا عن الدبابات والجيبات. وعندما اقتربنا من الممر الآمن حيث كان أطفالي مع والدهم وكان يحمل مايا، وهو تجاوز الممر الآمن قبلي، وعندما أنا تجاوزته لم أجده، بحثت بين المارة على زوجي وأطفالي ولكني لم أجدهم، حتى شقيق زوجي لم أره.
قررت التوجه إلى منزل عائلة سلفتي (زوجة شقيق زوجي)، معتقدة أنني سأراهم ولكني لم أجدهم. توجهت إلى مدرسة النصيرات “و” التابعة لوكالة الغوث، وبالمدرسة واجهت مشكلة بأنها مكتظة بالنازحين ولا يوجد مكان، لكني رفضت الخروج من المدرسة واوضحت لهم أنني غريبة ولا أعلم شيء عن زوجي وأطفالي، بالإضافة إلى أنني حامل.
وفي اليوم التالي حضر شقيق زوجي إلى المدرسة ومعه أطفالي وأخبرني أن الاحتلال اعتقل زوجي أثناء مروره عبر الممر الآمن، فعند الحاجز طلبوا منه ترك الأطفال والتوجه إليهم للحديث معه وفجأة أخذوه وبقي أولادي بالشارع، فشاهدهم شقيق زوجي وهم جالسين على الرصيف يبكون من شدة الخوف.
وبدأت الأيام صعبة وثقيلة جدا، فمعيل الأسرة اعتقل من الاحتلال، وأنا بالأشهر الأخيرة بالحمل ومعي أطفال بحاجة إلى رعاية، فضلا عن طفلي المصاب الذي يحتاج رعاية خاصة بعد أن فقد عينه واهتمام بعينه وتنظيفها ووضع الغيار عليها خوفا من التلوث الذي قد يؤدي إلى التهابات. وكان القائمون على مركز الايواء رافضين وجودي بالمدرسة بحجة الاكتظاظ داخل المدرسة، فكنت أنام في صف على البلاط أنا وأطفالي تحت أقدام النازحين الذي تجاوز عددهم 32 شخصا.
وكان القصف شديد في النصيرات، وكل يوم نسمع بقصف عدد من المنازل واستشهاد عائلات بأكملها، فقررت في 10/1/2024 الانتقال إلى رفح، وساعدني بذلك ابن شقيق زوجي، حيث دبر لي قطع من النايلون والأخشاب وصنع لي خيمة صغيرة لأقطن بها أنا وأطفالي، فأنا لا أمتلك النقود لشراء خيمة ب 2000 شيكل ، ولا حتى شراء “شادر” وأخشاب الذي يصنعون منه الخيم. واعتمد في طعامنا على الكوبونة التي توزع مرة بالشهر وهي عبارة عن معلبات ” فول وبازيلاء وحمص وحلاوة “، وأكياس الطحين من وكالة الغوث للاجئين،، حيث أعجن وأنتظر طابور الخبز على فرن الطينة أو الحطب الموجود للخيم. وابني الكبير معتصم يذهب يوميا إلى التكية يقف على الطابور وينتظر الكثير من الوقت ليحضر لأشقائه الطعام المطبوخ وهو غالبا يكون عدس أو فاصوليا أو بازيلاء، فأنا لا أستطيع في ظل الغلاء شراء الغاز أو حتى الحطب لأطهو لهم.
صمتت لبنى فجأة تاركة لدموعها التي أغرقت وجهها النحيف التعبير عما تشعر به من بؤس وألم وقلق وخوف ثم قالت: لم أتوقع ان كل هذه المعاناة تنتظرني وخصوصا بعد اعتقال زوجي وأن حياتي ستنقلب رأس على عقب.
وفي 04/02/2024، بدأت معي أعراض المخاض، ورغم أنني خضت هذه التجربة من قبل لكن هذه المرة كانت الأصعب فأنا لوحدي في الخيمة لا يوجد من يساندني أو يواسيني. الوجع شديد، جسمي هزيل نتيجة قلة الأكل ولم أستطع الوقوف والألم متواصل وشديد وضيق بالتنفس. صرخت فجأة وكان صوتي عالياً جدا، وهرعت لي إحدى السيدات في الخيمة المجاورة، وساعدتني بالوقوف فأنا ملقاة على الرمل داخل الخيمة لا يوجد فراش أمكث عليه، ما يوجد عندي هو البطانيات التي توزعها الوكالة أفرشها لأطفالي ليناموا عليها، وأخرجتني من الخيمة وأحضرت كرسي وجلست عليه وذهبت، ثم عادت وقالت لي: أوقفت سيارة إسعاف كانت مارة بالصدفة. وبالفعل انتقلت بواسطة الإسعاف إلى المستشفى الإماراتي في رفح. جلسنا في صالة الانتظار بالمستشفى المكتظ بعشرات السيدات اللواتي يخضن آلام المخاض دون وجود أدنى رعاية. وبعد ساعة أو أكثر تم توفر سرير لأخوض مرحلة المخاض وحدي دون رعاية أو اهتمام. بكيت كثيرا من الألم ومن البرد .. بكيت لأنني وحيدة.. بكيت على أطفالي الذين تركتهم وحدهم بالخيمة.. وبكيت أكثر لأنه لا يتوفر معي ملابس أو حفاضات لطفلتي القادمة. وبعد ان تمت الولادة بمشيئة الله وقدرته، كان علي اخذ طفلتي ماريا ومغادرة المستشفى، فلا مجال للانتظار فهناك نسوة يتألمن ينتظرن سرير فارغ.. عدت إلى الخيمة بمساعدة جارتي لأخوض حياة أكثر صعوبة وتعقيدا، فلا أمتلك النقود لشراء الحليب أو الحفاضات أو الفوط الصحية أو حتى ملابس لطفلتي. حركتي خارج الخيمة اصبحت صعبة لتدبر أمور أطفالي، فإن خرجت فإنا مجبرة على أخذ طفلتي التي من الممكن أن تمرض نتيجة البرد وتقلبات الجو واستنشاق دخان نتيجة اشعال الحطب. وما زلت أتواصل مع الصليب الأحمر لأعرف مصير زوجي وانتظر خروجه بفارغ الصبر ليخفف من وطأة الحمل الملقى على عاتقي.
نسخة تجريبية