أغسطس 19, 2024
وجدت ابنتي أشلاء دون رأس
مشاركة
وجدت ابنتي أشلاء دون رأس

إسلام نبيل يوسف أبو سكران، 30 عامًا، متزوجة وأم لأربعة أطفال، سكان الشجاعية ونازحة حاليًا في دير البلح. 

أنا متزوجة منذ 11 سنة من حمزة صلاح محمد أبو سكران، 30 سنة، ولدينا 4 أطفال، هم: جنى، 10 سنوات، دانا، 8 سنوات، فرح، 5 سنوات، وصلاح، سنتان. كنت أسكن في منطقة النزاز في الشجاعية شرقي غزة، وهي منطقة حدودية، ومع بدء الحرب في السابع من أكتوبر 2023، وعندما بدأ القصف، خرجنا من المنزل مباشرة الساعة العاشرة صباحا لخطورة المنطقة التي نسكن فيها، وتوجهنا إلى منزل شقيق زوجي في منطقة تل الهوا وبقينا لديهم مدة أسبوع.  كان الأسبوع مليئا بالأحداث والقصف من قوات الاحتلال في كل مكان. في منتصف الأسبوع ،تقريبا يوم الاثنين 9/10/2024، تم تهديد برجين سكنيين من أبراج تل الهوا تمهيدا لقصفهما من طائرات جيش الاحتلال الإسرائيلي. كان منظر النزوح والناس الهاربين من الأبراج، خاصة سكان الأبراج الذين هددوا بالقصف، كأنه يوم القيامة: نساء بلا حجاب، بلا حذاء، أطفال نسيهم ذووهم داخل الأبراج، الكل يفر بنفسه من الخوف. نزحنا في ذلك الوقت إلى المدرسة الأرثوذكسية ومكثنا فيها 3 إلى 4 ساعات، ثم عدنا للمنزل بحلول أذان المغرب بسبب عدم مقدرتنا على البقاء في المدرسة لاكتظاظها الشديد بالسكان النازحين من مناطق مختلفة، ولأننا لم نأخذ أي أغراض معنا. اضطررنا للرجوع للمنزل على الرغم من أن الأبراج لم تقصف بعد ولكن تم قصف أراضٍ فارغة حولها ومنازل أخرى حولنا. كان القصف من طائرات الاحتلال طوال الأسبوع متواصلا بالإضافة إلى القصف من زوارق جيش الاحتلال على منطقة تل الهوا، مما اضطرنا للنزوح إلى الجنوب بعد وصول تهديدات من جيش الاحتلال الإسرائيلي بإخلاء غزة وشمال غزة إلى الجنوب وذلك يوم 13/10/2023.

بتاريخ 13/10/2024، قمنا بالنزوح من منطقة تل الهوا بعد أذان الظهر. كان منظر الناس مرعباً: كل السكان في حالة هلع، يركضون في الشوارع حفاة الأقدام، النساء تركض في الشوارع من شدة القصف والخوف وحالة الإخلاء للسكان. توجهنا للسيارة وسلكنا طريق صلاح الدين، ولكن شدة ازدحام الطريق والقصف الذي استهدف منطقة الوادي على الطريق جعلنا نعود لاختيار طريق آخر مختلف، فتوجهنا للنزوح عن طريق خط البحر. كانت الطريق صعبة جدا ومكثنا فيها 4 ساعات على الأقل من شدة الازدحام وكثرة النازحين للجنوب. كان المنظر وكأن جميع من في قطاع غزة قد فروا هرباً من الموت إلى الجنوب معتقدين بانه الجنوب الآمن كما زعم جيش الاحتلال.

وصلنا لمنطقة الزوايدة ومكثنا في منزل أحد معارف زوجي، حيث بقينا لديهم 40 يوما. في هذه الأيام تم قصف مسجد خلف المنزل الذي نزحنا فيه الساعة الثانية ليلا ووصل الركام إلى داخل المنزل فخرجنا من تحت الردم وأخرجت أبنائي من تحت الردم، حيث كانوا نائمين. شعرت في ذلك الوقت وكأن المنزل قد انهار فوق رؤوسنا، زجاج شبابيك المنزل تكسرت فوقنا، ولكن بحمد الله لم نصب ولكن سكان العمارة النازحين لديهم أصيبوا. كان القصف في منطقة الزوايدة بشكل يومي وفي نفس الشارع الذي أتواجد فيه، وبدون إنذار مسبق يتم قصف المنازل على رؤوس ساكنيها ويروح ضحية الاستهداف عشرات السكان والنازحين المتواجدين لديهم. ومن ضمن الاستهدافات تم قصف منزل يعود إلى عائلة نصار وهو المنزل المقابل للمنزل الذي كنت أتواجد فيه. شاهدت الأشلاء تطير في الهواء ودخول الردم علينا في المنزل. كان استهداف دون سابق إنذار حيق تم قصف المنزل على رؤوس ساكنيه الساعة 12 ليلاً،  وراح ضحية الاستهداف عدد كبير من الشهداء والمصابين من الجيران. كانت ليلة في غاية الصعوبة حيث كان القصف في كل مكان.

 بعد مضي 40 يوما على بقائنا لدى من استضافونا وجدنا منزلا للإيجار في منطقة الزوايدة بالقرب من شارع صلاح الدين – منطقة التعابين، وانتقلنا إليه ومكثنا فيه مدة 6 أشهر. لم يكن المكان آمنا، وكان القصف بشكل مستمر في منطقة الزوايدة ومحيطها، ولكن أُجبرنا على البقاء في المكان بسبب عدم وجود أماكن للسكن في مناطق أخرى وارتفاع أسعار الإيجارات. حاولنا الحصول على خيمة، ولكن لم ننجح في ذلك. 

كانت الأيام تتوالى في خوف شديد وترقب لكل ما يحدث من احداث، وبتاريخ 20/2/2024 تم قصف مدخل العمارة المتواجدة فيها الساعة التاسعة صباحا بصاروخ زنانة حيث أصيب 3 من الشباب المتواجدين على الباب مما أدى إلى بتر أقدامهم وأيديهم. وأصبح أطفالي في حالة هلع ولم أستطع السيطرة عليهم: خوف وصراخ وبكاء. وأنا عند رؤيتي للشباب الملقين على باب العمارة مقطعي الأيدي والأرجل لم أستطع ضبط نفسي، كنت أحاول قدر استطاعتي إخفاء خوفي وهلعي لبث الطمأنينة لدى أبنائي ولكني لم أستطع، كنت في صدمة مما رأيت أمامي. كنت بحاجة لمن يقوم بتهدئتي، بقيت لمدة ساعتين وأنا انظر في الفراغ في اللاشيء أمامي، تأثرت كثيرا لما رأيت أمامي. في ذلك اليوم قمت بحبس ابنائي في المنزل كي لا يرى أطفالي المنظر الذي رايته انا او حتى دماءهم المتبقية على الأرض.

توالت الأيام والوضع أصبح يزداد سوءاً من قصف واستهدافات واطلاق النار من قوات جيش الاحتلال الإسرائيلي، إلى ان قام المنسق على مواقع التواصل بنشر منشور ينص على إخلاء منطقة الزوايدة من جهة شارع صلاح الدين، وعلى ما اذكر كان ذلك بنهاية شهر فبراير/2024. استمر الناس في الإخلاء لمدة أسبوع، ولكن لأن مكاننا كان أقرب إلى منطقة دير البلح فظننت أني بمأمن. ولكن عند دخول جيش الاحتلال الإسرائيلي تم قصف عدد من المنازل حولي وإحراق منازل حيث كان جيش الاحتلال الإسرائيلي على شارع صلاح الدين من جهة الشرق. وسبب رئيسي لعدم خروجي من المنزل كان عدم وجود أحد لي للنزوح إليه. بالقرب مني كان يتم تنفيذ أحزمة نارية في نفس المنطقة، كانت الأحزمة النارية شديدة تستمر لمدة ساعة متواصلة وأكثر. وعندما اقترب جيش الاحتلال الإسرائيلي من مستشفى شهداء الأقصى في دير البلح قمنا بالإخلاء لمدة يوم واحد. توجهت إلى منطقة رفح حيث توجد عائلتي في حاصل بمنزل صغير المساحة ومزدحم، مما جعلني أعود في اليوم التالي للمنزل في الزوايدة بعد ان علمت بان الجيش الإسرائيلي قد انسحب من المكان بشكل جزئي وعاد جزء من أهل المنطقة إلى منازلهم. عدت للمنزل على الرغم من خطورة الوضع ولكن لا مفر لي، لا يوجد مكان آخر لأتوجه اليه .وكان جيش الاحتلال يصل إلى مستشفى شهداء الأقصى ويعود ثانية لمنطقة منتصف الزوايدة والنصيرات. كان السكان يعودون في الصباح لمنازلهم ويغادرونها ليلا خوفاً من القصف ليلاً وعدم وجود الأمان في مناطق سكناهم. وكان القصف مستمر وكنا لا نخرج للشارع فنبقى متواجدين في المنزل يحيطنا الخوف واصوات القصف المرعب وأنا امرأة مع أطفال وسيدة كبيرة في العمر بدون وجود زوجي الذي كان قد عاد إلى شمال غزة بعد مدة قصيرة من نزوحنا للجنوب.

يوم الاثنين بتاريخ 25/3/2024، وكان نهار رمضان وكنا صائمين نقضي حوائج المنزل من تنظيف وتجهيز للإفطار، مع اقتراب أذان المغرب أدينا الصلاة أنا وابنتي جنى، 10 سنوات. ومع حلول أذان العشاء، ذهبت لأرضع صغيري صلاح في الغرفة وأستمع للأخبار وكانت تتحدث بأن على السكان إخلاء الحي في المنطقة التي كنت أمكث فيها “الزوايدة”. وما إن هممت للقيام وأخذ بناتي ووالدة زوجي للفرار من المنزل خوفاً على حياتنا ولكن للحظة واحدة توقف الزمن بالنسبة لي، حيث قصفت قوات الاحتلال المنزل على رؤوسنا. كنت أسمع صراخ بناتي ولكن كل ما هو أمامي شاشة سوداء لا أرى شيئا بسبب الغبار والردم الذي ملأ المكان، حيث تم قصف نصف المنزل والردم فوق بناتي دانا وفرح، ووالدة زوجي داخل المرحاض، ابنتي جنى آخر ما أتذكره بانها دخلت المطبخ لتشرب الماء. أضأت كشاف الهاتف المحمول واحتضنت ابني صلاح بين يداي في حالة خوف شديد وذهبت أبحث عن بناتي، وجدت فرح، 5 سنوات تحت الردم، حيث كان البوفيه والزجاج ملقى عليها أخرجتها من تحته ولكنها بحمد الله لم تصب، ثم بحثت عن دانا ووجدتها مصابة في كعب قدمها وقد تم تغريزها 9 غرز في كعب القدم، والدة زوجي فتحية أبو سكران أصيبت في الرأس والظهر. وبقيت أنادي على جنى وأبحث عنها وأيقنت بأنها مصابة في مكان ما لهذا لا تستجيب لمناداتي لها، ثم سمعت أصوات الناس تأتي لإنقاذ الموجودين فذهبت أبحث عن ثوب الصلاة لأستر نفسي، توجهت إلى شرفة المنزل لأبحث عن ابنتي جنى وإذ بجسد مقطع أشلاء ملقى على الأرض، لم أتعرف عليها، لم يكن لديها رأس على جسدها، ثم عرفتها من بنطالها إنها ابنتي جنى مقطوعة الرأس، أيديها بجانبها مبتورة، أقدامها مبتورة، جسدها منتفخ من الصاروخ. كنت لا زلت أحمل صغيري الرضيع، وضعته على الأرض واقتربت من ابنتي أهزها وأناديها لعلها تستيقظ وترد علي، بحثت بعيني عن رأسها ولكن لم أجد سوا بضع عظام بالقرب منها، جلست أشدها من بنطالها وأصرخ أحاول ايقاظها.

 مع وصول الإسعاف للمكان ووصول من صعدوا للإنقاذ تم نقلنا للمستشفى، كنت في حالة صدمة عندما أخذوها من أمامي ركضت خلفها للإسعاف للذهاب معها. عندما وصلنا لمستشفى شهداء الأقصى كنت في حالة صدمة  وأنادي عليها وعلى أخواتها وأسأل الأطباء عنهم وأصرخ. كنت في حالة هستيريا، فقام أحد الأطباء بإعطائي محلول فيه مهدئ وكلما استيقظت أصاب بهبوط وأفقد الوعي. كان الطبيب يعطيني المهدئات ومنع خروجي من المستشفى، ومن الساعة التاسعة حتى الساعة 12 ليلا وأنا على المحاليل والمهدئات. كنت لوحدي وبناتي وابني في غرفة الانتظار. خرجنا من المستشفى الساعة الواحدة ليلا، قام شقيق زوجي بنقلنا إليه في خيمته في دير البلح باتجاه البحر، بقينا عندهم ليلتين، لم أكن أعي شيئا بل في حالة صراخ وبكاء مستمر وأنادي على ابنتي. عشت في حالة هستيرية صعبة مما أدى إلى عيشي على المهدئات بقيت مدة 3 أشهر أراها أمامي وأبكي.  في أوقات أخرج من الخيمة وأجد نفسي متجهة لقبرها أجلس وأتذكر كل شيء يخصها ضحكتها كلامها وأبكي أشكي لها وأخبرها بهمومي كما كنت أفعل دائما أحدثها بكل تفاصيل يومي وكأنها لازالت أمامي. لم تكن جنى ابنتي فقط كانت صديقتي، كنت أتعامل معها وكأنها فتاة كبيرة دوما، لم تشعرني ليوم بأنها فتاة صغيرة هي من كانت تقوم بالدفاع عني في كل مشكلة أتعرض لها. استمرت حالتي لمدة شهر تقريبا وأنا ابكي وأختنق وأخرج للطريق وأجد نفسي أمام قبرها أناديها وأحدثها. وحتى الآن لم أشف من أي شيء عشته، إلى الآن أذهب لقبرها كلما شعرت بالتعب، كلما تألمت أو شعرت بالضيق من أحد، كانت ملاذي وهي على قيد الحياة ولازالت ملاذي ولكن الآن وهي تحت التراب أجلس بجانب قبرها وأتخيلها أمامي وأفتح حوارا معها وكأنها حية ترزق.

لم يكن لدي مكان أذهب اليه فقمت بالتواصل مجددا مع من تقدمت بطلب إليهم للحصول على خيمة منذ البداية، وافقوا على اعطائي الخيمة كان ثمنها أن أفقد ابنتي لأحصل عليها ووضعتها بجانب شقيق زوجي وبقيت فيها إلى الان.

حالتي النفسية تحت الصفر، أواسي نفسي، ولكن حالتي النفسية سيئة جدا وبحاجة لمن يدعمني نفسيا. صغاري تأثروا كثيرا بما حدث بعد قصف المنزل عليهم، تصرفاتهم عدوانية غريبة، عند سماعهم لأقل صوت مرتفع يصرخون، عدا عن محاولة الاختباء تحت أي شيء يجدونه يمكنهم الاحتماء به، يرفضون النوم إلا وأنا بجانبهم. حتى ابني الصغير أصبحت تصرفاته غريبة يصرخ ويقوم بضرب كل من يأتي أمامه. ابنتي فرح تحلم بالكوابيس وتصرخ في اثناء نومها وتطلب الحماية، وعند إيقاظنا لها تبكي وتحضنني إلى أن تنام مرة أخرى.