ديسمبر 23, 2024
من شدة الجوع فقدت زوجي وأبنائي
مشاركة
من شدة الجوع فقدت زوجي وأبنائي

فلة حامد موسى حمام، 40 عاماً، أرملة وأم لثلاثة أبناء

“اسمي فلة، وأم لثلاثة أبناء: رنين (19 عاماً)، وهيثم (17 عاماً)، وصالح (15 عاماً). لا أستطيع وصف الألم الذي يمزق قلبي وأنا أشاهد حياتنا تتحول إلى معاناة يومية بلا نهاية. بدأت الكارثة في فبراير 2024، حين أصبح إيجاد الدقيق نادراً. اضطررنا لطحن القمح وأكل خبزه بلا طعم، فقط لنسد رمقنا. لكن حتى القمح نفد، فانتقلنا لطحن الشعير، ثم الذرة التي كان طعمها لا يُحتمل. رأيت أبنائي يبتعدون عن الطعام بألم، لكن الجوع كان أقوى من نفورهم.

وعندما لم يتبقَّ لنا إلا الأرز، كان سعر الكيلو 200 شيكل. اشتريناه ثلاث مرات، ثم عجز زوجي عن توفيره. صرنا نكتفي بوجبة واحدة يومياً، وكثيراً ما كنا ننام جائعين. لم أكن أستطيع النظر في عيون أطفالي، تلك العيون المجوفة التي تحكي قصصاً من الجوع والحرمان. كنت أنا وزوجي نحرم أنفسنا من الطعام لنُطعمهم، لكن حتى ذلك لم يكن كافياً. لونهم أصبح شاحباً كالأموات، وجوههم مصفرة، أجسادهم نحيلة تتلاشى أمام عينيّ.

وفي ظل توقف محطات المياه، كان علينا شرب المياه المالحة. رأيت تأثيرها ينعكس على صحتهم. شعرت بالعجز المطلق، كأنني أُقتل كل يوم مرتين: مرة وأنا أرى أطفالاً جائعين لا أملك لهم شيئاً، ومرة وأنا أسمع صوتهم يطلبون طعاماً أو ماءً بلا قدرة على الإجابة. أي أم يمكن أن تتحمل هذا الألم؟ الجوع كان ينهش قلوبنا قبل أجسادنا، وحياتنا باتت كابوساً لا أستطيع الاستيقاظ منه.

مع تفاقم الأوضاع، قرر زوجي النزوح إلى جنوب القطاع، حيث كان يُقال إن هناك فرصة للنجاة وظروفاً أقل قسوة. لم أكن أملك سوى الخوف والقلق؛ رفضت القرار بكل قوتي، لكن إصرار زوجي وأطفالي هزمني. كيف لي أن أترك مكانًا نعرفه، رغم الجوع، إلى طريق مجهول محفوف بالمخاطر؟

وفي 22 فبراير 2024، جمعت ما تبقى لنا من أغراض، وانطلقنا من مدرسة بنات غزة عند التاسعة صباحاً. عشر عائلات كانت معنا، وكنا العربة العاشرة في قافلة يجرها حمار. عند نقطة معينة، اضطررنا للنزول والسير على الأقدام. كانت الطريق وعرة وشاقة، الأحمال ثقيلة، والأمل ضعيف. زوجي وأولادي كانوا يمشون أمامي، وأنا مع ابنتي رنين خلفهم، أتبع خطاهم وأتمسك بوجودهم أمامي كآخر خيط أمان. ثم عند الساعة العاشرة، فجأة، دَوَّى صوت انفجار هائل، كأنه نهاية العالم. ملأ الدخان المكان، وكأن السماء انطبقت على الأرض. فقدت كل إدراك؛ صرخات وصدى بكاء اختلطت بصوت قلبي الذي كان ينهار. شعرت بحرارة الشظايا تخترق جسدي. بدأت أصرخ بأسماء زوجي وأطفالي وسط الضباب، لكن لا صوت يجيب. فجأة، رأيت زوجي معين يسقط أرضاً، مصابًا في رأسه. ولم أستطع الاقتراب منه.

بعد دقائق من عدم الإدراك والعجز، وجدت ابنتي رنين، وجهها مشوه بالخوف والدموع، لكن هيثم وصالح اختفيا في عتمة الدخان والموت. صرخاتي كانت ترتد إليّ بلا إجابة، وقلبي يكاد يتوقف. المتواجدون حذرونا من البقاء، وقالوا إن الموت ما زال يحوم حولنا. جمعت ما تبقى من قوتي، وأمسكت بيد رنين الخائفة، وعدنا سيرًا على الأقدام إلى شمال القطاع. كانت الطريق كابوساً آخر؛ زجاج متناثر يغرز في أقدامنا، ورمال ثقيلة تجعل كل خطوة تبدو كأنها آخر خطوة لنا. وصلنا إلى مدرسة بنات غزة عند السابعة مساءً، منهكين ومجروحين في الجسد والروح.

قضيت الليل أبكي دون توقف. جسدي متعب، لكن عقلي يصرخ بألف سؤال عن مصير معين وهيثم وصالح. وعند الصباح، وصل الصليب الأحمر يحمل الجواب الذي سحقني: زوجي معين، كان مصاب في رأسه، وفارق الحياة. هيثم، ابني الذي كان يضيء حياتي، فقد عينيه وترك لي ظلامًا أبديًا. وصالح، طفلي الصغير، أصيب في رقبته، ولم يعد معي.

كلهم رحلوا جائعين، أرهقتهم المعاناة قبل أن يأخذهم الموت. واليوم، أنا أعيش الآن في انتظار المجهول، أحمل ألم فقدهم وجوعهم كجرح لا يندمل وأعيش مع ابنتي رنين في خيمة مهترئة، تغمرها مياه الأمطار عند كل هطول. منذ ثلاثة أيام ننام على الأرض لأن فراشنا تبلل بالكامل. لا نملك شيئًا نأكله، ولا مصدر رزق لنا سوى ما تجود به المساعدات إن سمح الجيش الإسرائيلي لها بالدخول. أعيش كل لحظة أتمنى فيها أن أستطيع توفير وجبة صحية لرنين، التي لم يبقَ لي في الدنيا غيرها.