أمل إسماعيل محمد الختلة، 35 عاماً، حكيمة في مستشفى الإماراتي في مدينة رفح، أسكن في شقة في مدينة رفح، تل السلطان بجوار مسجد النور.
تاريخ الإفادة: 3/3/2025
في حوالي الساعة 6:30 صباح 7/10/2023 ، كنت أتجهز لأذهب للنادي الرياضي ولكن فجأة بدأت أسمع أصوات انفجارات قوية يسمع صداها من كل اتجاه. في البداية، اعتقدت بأنه تصعيد كالمعتاد وسينتهي بعد يومين، وحينها قررت عدم الخروج من المنزل، وبعد وقت قليل مع متابعتي للأخبار أصبحت الأمور واضحة بشكل أكبر، وتبين بأنها بداية حرب. على الفور تم عمل جدول طوارئ في المستشفيات كافة في قطاع غزة، لأنه مباشرة بدأت أعداد الشهداء والمصابين تزداد بشكل كبير. لهذا توجهت لعملي، وكنا نعمل بجدول طوارئ صعب جدا، حيث كان عدد الحالات التي تصل للمستشفيات أكبر من القدرات الطبية المتواجدة، لهذا كنا نضطر البقاء في المستشفى دوامًا إضافيا. في بداية الأمر، كانت مدينة رفح أفضل مناطق قطاع غزة من حيث الهدوء، حيث كان يحدث بها استهدافات مركزة لأهداف معينة. ولكن يوما بعد يوم، ومع تزايد عدد النازحين وتضييق جيش الاحتلال على قطاع غزة من حيث الخدمات الصحية، زادت الأوضاع سوءاً. كنا نعاني داخل المستشفيات بشكل كبير من قلة المواد الطبية والاحتياجات الطبية مقارنة بعدد المصابين داخل المستشفيات. ومع انقطاع الكهرباء وتقليل كمية الوقود التي تدخل قطاع غزة، كانت المستشفيات معرضة في أي وقت أن تخرج عن الخدمة.
في 19/11/2023 ، كنت علي رأس عملي وكنت أعمل في حاضنة الأطفال، وتم تبليغنا بأنه سيتم نقل 30 طفلاً من داخل حاضنة مستشفى الشفاء الطبي، بعد محاصرته من جيش الاحتلال وخروجه عن الخدمة، إلى المستشفى الإماراتي في مدينة رفح. لذلك كان يجب تأهيل الحاضنة لاستقبال هذا العدد من الأطفال، الذين كان أغلبهم من حديثي الولادة والمصابون في الوقت ذاته، وسيتم استقبالهم في مستشفى الهلال الإماراتي حتى يتم تنسيق الأمر لهم للسفر والعلاج في دولة مصر. وعندما وصل الأطفال الحاضنة، حينها كنت أتفقدهم، لفت انتباهي وجود طفلة مكتوب على يدها “طفلة مجهولة الهوية ناجية من مجزرة في منطقة الصبرة.” منذ اللحظة الأولي وعندما رأيت هذه الطفلة التي كانت تبلغ من عمرها لا يزيد عن شهر، فهي كانت حديثة الولادة، وكأن قلبي قد انشد لها، فبدأت بالاعتناء بها بشكل خاص، وبدأت بالاستفسار كيف وصلت لمستشفى الشفاء الطبي، وحينها أخبرني الطبيب الذي كان برفقة الأطفال من مستشفى الشفاء الطبي، بأن هذه الطفلة من منطقة الصبرة في مدينة غزة، حيث انتشلت من فوق شجرة بعد أن قصفت طائرات الاحتلال مربعا سكنيا فوق رؤوس ساكنيه. ويومها نجت هذه الطفلة، قذفها القصف فوق غصن شجرة ولم يعرف من أي بيت قد طارت. بعد يومين، حان الوقت لسفر الأطفال لدولة مصر، ولكن نظرا لوضع الطفلة الخاصة، كان هذا الأمر لا يسمح لها بالسفر، لأنها طفلة مجهولة الهوية، ولا يوجد مرافق معها، فلا يمكن إرسالها للعلاج لوحدها، وستصبح في عالم مجهول في ظل عدم القدرة على إثبات نسبها. لذلك لم تسمح وزارة الصحة لها بالسفر، وبقيت في المستشفى مع الاهتمام بها بشكل خاص حتى يأتي أي شخص من أقاربها ليتعرف عليها وبعدها سيتم السماح لها بالسفر للعلاج بالخارج. بدأت بمتابعة وضعها الصحي، حيث كانت تعاني الطفلة من فقر حاد في الدم، وجرثومة في الدم، لهذا قمنا بنقل الدم الكافي للطفلة ليستقر وضعها الصحي. وبعد أسبوعين من مكوثها في المشفى، بدأ وضعها الصحي بالاستقرار نوعا ما. وخلال هذه الفترة، حضر عدد كبير من الأشخاص الذين يريدون تبني هذه الطفلة ولكن وزارة الصحة رفضت هذا الأمر، بسبب أنها ستحتفظ بالطفلة حتى نهاية الحرب وسيتم تسليمها لجهة رسمية سواء كانت دار الأيتام أو جهة مماثلة لها للعناية بالأطفال مجهولي الهوية. لهذا في ذلك الوقت ومع شدة تعلقي بالطفلة، طلبت من وكيل وزارة الصحة بأنني سأقوم بتسمية الطفلة باسم حتى يتم التعرف عليها من أحد أقاربها لهذا أطلقت عليها اسم “ملاك الصبرة”، وهو اسم المنطقة التي خرجت منها حتى يسهل على فاقديها التعرف عليها. وكنت أهتم بهذه الطفلة بشكل خاص، وأقوم بإحضار جميع احتياجاتها، وبدأت بالحديث معها حتى تتفاعل الطفلة معي، حتى لا تصاب بتوحد من عدم الاختلاط بالآخرين، فكنت خلال أوقات دوامي أقضى مع ملاك أطول وقت ممكن وأنا أعتني بها، وألاعبها، حتى تعلقت الطفلة بي بشكل كبير، حتى إن جميع من بالمشفى أصبحوا ينادوها (ابنة الحكيمة أمل). وكنت دائما أطلب من وكيل وزارة الصحة أن آخذ ملاك لبيتي وأعتني بها حتى يتم التعرف عليها، ولكنه رفض مرارا وتكرارا، بسبب أنها أمانة داخل أسوار المستشفى حتى يحضر أحد من أقاربها، وأخبرني بأنني يمكنني الاعتناء بها فقط داخل اسوار المشفى.
ولكن عندما ازداد الوضع سوءاً في مدينة رفح وبدأت التهديدات باجتياح مدينة رفح برى، حينها كان على وكيل وزارة الصحة أن يتخذ قرارا حاسما بخصوص الأطفال المتواجدين في المشفى وليس لديهم أقارب، وكانوا حينها 5 أطفال، من بينهم الطفلة (ملاك). حينها قرر السماح لي بأخذها معي، عندما رأى كمية اهتمامي بها، وتعلق الطفلة الشديد بي، وأعطاني ورقة كفالة من الوكيل، أن أحتفظ بالطفلة وأعتني بها حتى يتم التعرف عليها من أحد أقاربها. لهذا في 24/1/2024، أخذت ملاك من المشفى لبيتي في منطقة تل السلطان، وكنت أعتني بها وكأنها طفلتي التي ولدتها. كنت دائما أحرص على إحضار أفضل الأشياء لها، وكنت أحرص على إعطائها أفضل أنواع الحليب لتعويضها عن حليب الأم، وتوفير الفيتامينات اللازمة لنمو الطفلة نمواً سليماً، لأنها كانت تعاني من نقص حاد في وزنها عندما وصلت للمشفى، فكنت أحضر لها مكملات غذائية لتعويض النقص الذي كانت تعاني منه، إضافة لإحضار الحفاظات بأفضل أنواعها، رغم غلاء أسعار هذه الأشياء وكادت تنقطع من الأسواق. كنت دائما أحرص علي عدم إنقاص أي شيء من مستلزمات ملاك، حتى أنني كنت أقوم بمتابعة حالتها مع طبيبة تغذية لتعطيني أفضل الطرق لتعويض النقص الذي كانت تعاني منه الطفلة.
بقينا في منزلنا حتى هدد جيش الاحتلال مدينة رفح بضرورة إخلاء المدينة بالكامل، لهذا توجهت أنا وعائلتي إلى بيت أختي في دير البلح. كان الوضع العام هناك أفضل نوعا ما، حيث كانت دير البلح لا تتعرض لكثير من الاستهدافات، وكانت مستلزمات الحياة متوفرة فيها إلى حد ما من مياه وأسواق وما شابه. وكنت عندما أذهب لعملي وأترك ملاك مع أختي المتزوجة التي ساعدتني بشكل كبير في الاعتناء بها عندما أحضرتها للمنزل. وبدأت ملاك بالتعود علينا، وأصبح جميع من بالمنزل يتعاملون معها وكأنها أحد افراد العائلة، ولا يفرقون بينها وبين أي طفل بالعائلة، وكان الجميع يحرص علي الحفاظ على ملاك والاهتمام بها، وإعطائها احتياجاتها.
مع بداية وقف إطلاق النار في قطاع غزة، في 19 يناير 2025، قررنا العودة لمدينة رفح وبالتحديد لمنطقة تل السلطان. ولكن هذه المرة عدنا لبيت قمنا باستئجاره، لأن جيش الاحتلال دمر منزلنا، حيث نسكن في المنزل أنا وعائلتي وأختي المتزوجة وأطفالها، وهي تعتني بملاك في أوقات دوامي. بدأت ملاك بالاندماج مع أطفال أختي وهم من نفس الفئة العمرية لها، فهذا الأمر ساعدها بشكل كبير على الانخراط بالعالم الخارجي، والتفاعل بشكل كبير مع أطفال من عمرها. وبهذا الشكل قد حافظنا عليها من الإصابة بمرض التوحد، وأيضا حافظنا عليها من التشرد والضياع، وأيضا الطفلة تعتبرنا أهلها حيث إنها تناديني (ماما)، من شدة تعلقها بي، وهي وعيت علي وجودي. ومنذ ذلك الوقت وأنا أحاول أن أتواصل مع جميع المؤسسات على أمل العثور على أحد من أقاربها، ولكن حسب التقديرات والمجزرة التي حدث في منطقة سكنهم تشير بأن جميع أهل الطفلة قد استشهدوا.