شيماء نبيل رشدي الشوا، ثلاثون عاماً، محامية في المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان
بدأت معاناة عائلتي، مثل باقي شعبنا، منذ أول أيام الحرب على غزة في 7/10/2023، ولكنها تفاقمت يوم الأحد 15.10.2023، تحديدًا بعدما استهدف الطيران الإسرائيلي، في تمام الساعة 23:12 ليلا، منزلنا الكائن مقابل مدرسة راهبات الوردية في حي تل الهوا بمدينة غزة، بأربعة صواريخ مباشرة دون إنذار مسبق، أثناء تواجدي فيه أنا وعائلتي المكونة من أمي وأبي وإخواني (٤) أفراد، وعائلة خالي (8) أفراد.
حاولنا التواصل مع الدفاع المدني ومع الإسعاف لإجلائنا، وأبلغناهم بوجود إصابات، ولكن بعد محاولات عديدة تبلغنا أنه لخطورة وشدة القصف في محيط منزلنا، فهم عاجزون تماماً عن الوصول إلينا، وأمام اللاخيار تحتم علينا الخروج من بين الركام مشياً على الأقدام في حالة من الذعر والإنهيار أثناء القصف ومن بين النيران والحرائق لا نحمل شيئاً سوى ثيابنا على أجسادنا.. علمًا أن قصف المنزل أدى إلى تدمير السطح والطابق العلوي بالكامل والطابق الأرضي الذي كنا موجودين فيه تم تدميره بشكل جسيم ( تدمير السقف والأعمدة)، ولا ندري كيف نجونا من تحت الركام.
وبعد خطوات ثقيلة تبللت بدموع القهر، مشينا تقريبا 200 متر حتى وصلنا أقرب مدرسة أونروا حيث تمكنت سيارات الإسعاف أن تصلنا، وتم نقلنا إلى مستشفى القدس وهناك تم عمل الإسعافات اللازمة لنا، لم يصدق المسعفون والأطباء أننا خرجنا أحياء من تحت الدمار.. وبالواقع كنا قد نجونا من موت لنحيا موتًا آخر..
ومنذ ذلك الحين مكثنا في مستشفى القدس في حي تل الهوى بمدينة غزة، نعاني من الموت والعذاب والرعب، ورغم فقداننا لمنزلنا والألم والقهر الذي ألم بنا، استمر والدي في تقديم المساعدة الإنسانية والوطنية لضحايا الحرب كونه العضو الوحيد من قطاع غزة في المكتب التنفيذي لجمعية الهلال الأحمر الفلسطيني، ورغم أن أداءه هذا كان يُشعرنا ببعض الراحة كونه يُخفف عن الآخرين بعض عذاباتهم إلا أننا كنا نفتقده أحياناً عندما يكون مشغولا عنا في المستشفى و الجمعية تحت القصف و نحن بحاجة لوجوده بجانبنا.
اشتد القصف الإسرائيلي في المباني الملاصقة للمستشفى مما أدى إلى دخول عدد كبير من الشظايا والرصاص إلى المستشفى وصلت إلى داخل الغرفة التي كنا نتواجد بها، كما وقعت العديد من الإصابات والشهداء في صفوف المرضى والنازحين داخل المستشفى والذين بلغ عددهم حوالي 17 ألف نازحاً.
وبمنتهى الوقاحة والتمعّن في الإجرام، قام جيش الاحتلال عدة مرات بأمر إدارة المستشفى بالإخلاء، وذلك دون توفير أو ضمان أي ممر آمن ودون تأمين وسائل لنقل الجرحى والمرضى وآلاف النازحين، ودون تأمين مكان للجوء إليه.
تواصل والدي مع الإدارة العامة للهلال الفلسطيني خارج القطاع، وتم التواصل مع الحركة الدولية للهلال الأحمر والصليب الأحمر في جنيف، كما وصل الأمر إلى مداخلة من جمعية الهلال في جلسة عقدها مجلس الأمن، وأيضاً تم التواصل مع إحدى المؤسسات الحقوقية في إسرائيل.. ولكن جميعها فشلت في تحريك الضمير العالمي ليحاول الضغط على الاحتلال لإيقاف هجومه المباشر على المستشفى.
وحدث تطور مهم بتاريخ 12/11/2023، عندما حاصرت دبابات الاحتلال المستشفى وأجبرنا جيش الاحتلال على الخروج منها وخرجنا مرة أخرى من موت إلى موت آخر دون أي حماية، خرجنا من جانب الدبابات من تحت القذائف والنار.. وكوننا فقدنا منزلنا فقد فكرنا في التوجه إلى بيت أحد أقاربنا في مدينة غزة، ولكن مازال الموت يطاردنا للمرة الثالثة هنا بالمنزل بقذائف المدفعية.
وفي أيام الهدنة (آخر أسبوع من شهر نوفمبر 2023) التي وصفت بأنها “إنسانية”، منعنا من الوصول إلى منطقة منزلنا لنتفقد إن كان قد بقي منه شيء، بسبب تمركز دبابات الاحتلال فيها وقيام قناصته بإطلاق النيران على كل من يقترب من تلك المنطقة.
لقد أصبح جلياً لنا بأن هناك مخططا لإفراغ وتهجير سكان غزة، وكان قرارنا الصمود في مدينتنا وألا نجبر على تنفيذ مخطط الاحتلال.
كما أن التجربة أظهرت للجميع أنه لا يوجد مكان آمن في كامل قطاع غزة، فمنذ يوم 13.10.2023 حين أصدر جيش الاحتلال الإعلان الذي أمر فيه سكان غزة بالنزوح إلى جنوب القطاع وهو (جيش الاحتلال) يستهدف المدنيين أثناء نزوحهم ويقصف ويستهدف المنازل والأحياء بما فيها مناطق إيواء النازحين في المناطق الجنوبية والتي ادعى وزعم أنها “مناطق آمنة” .. وحتى الآن فإننا نبدأ أيامنا بمكالمات التهديد من الجيش وفي كل مرة يتم توجيهنا بالإخلاء إلى مناطق تختلف عن تلك التي تم توجيهنا بالإخلاء إليها في اليوم السابق !!
بتاريخ 27/12/2023، تمكن أخي من الوصول لمكان بيتنا لعله يخرج منه بشيء نستفيد منه بعد تراجع دبابات الاحتلال عن المنطقة، ولكن تبين وجود دمار كبير بالمنطقة وحتى الجنينة مدمرة ومعها السيارتين اللتين نملكهما.
ما نعانيه مع جميع من بقي في غزة لا يمكن وصفه أو تخيله، وتقف الكلمات قاصرة عن نقل معاناتنا ووجعنا ودمارنا ودموعنا وقهرنا، وما يصل للجميع في الخارج من أخبار ومقاطع فيديو وصور هو جزء بسيط وسطحي من حقيقة ما نعاني منه ونمر به وما وصلت إليه الحياة في غزة..
وحتى الكلام فقد معناه لأن المستمع عالم أصم وأبكم والمشاهد أعمى .. أصبحت كامل تفاصيل أيامنا عبارة عن دقائق طويلة من القهر والألم والمعاناة والرعب.. قصف واستهدافات ولا ماء ولا كهرباء ولا إتصالات ولا أبسط مقومات الحياة.. وصل بنا الحال لأن ننتظر المطر لكي نقوم بتجميع مياه المطر..
أصبحت محاولات البقاء على الحياة مؤلمة وموجعة.. محظوظة لأني تمكنت من شحن هاتفي حتى أرسل هذه الرسالة، التي ربما تكون الأخيرة.. نحن نعيش في مسلسل من الإجرام والقهر، والمشاهد عالم أبكم بشع وظالم..
نسخة تجريبية