أغسطس 24, 2024
مصابة بسرطان الثدي وحياة الخيام أنهكت جسدي
مشاركة
مصابة بسرطان الثدي وحياة الخيام أنهكت جسدي

نڤين حسين محمد (الجديان)، 41 عامًا، من سكان أبراج الشيخ زايد في شمال غزة، ونازحة حاليا وسط قطاع غزة

في عام 2017، وبعد إجراء جميع الفحوصات اللازمة وأخذ خزعة من الثدي، تم تشخيصي مصابة بسرطان الثدي. بدأت رحلتي الطويلة مع العلاج الكيميائي والإشعاعي في مستشفى المطلع بالقدس بعد الحصول على التحويلة من وزارة الصحة. واجهت صعوبات في السفر لتلقي العلاج، لكن المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان كان دائمًا بجانبي وساعدني في تجاوز تلك العقبات.

في السابع من أكتوبر 2023، تغيرت حياتي مرة أخرى عندما استيقظنا على أصوات انفجارات تشير إلى بداية حرب جديدة. لم يكن من السهل مغادرة منزلنا في أبراج الشيخ زايد، شمال غزة القريب جدًا من معبر بيت حانون “إيرز”، لكن الخطر كان يحيط بنا من كل جانب، فانتقلنا إلى منزل عمتي في منطقة التوبة بمعسكر جباليا. بقينا هناك 42 يومًا وسط قصف مدفعي شديد ومستمر، حتى وصلنا إلى ليلة 18 نوفمبر 2023، التي اعتقدنا أنها ستكون ليلتنا الأخيرة. كانت السماء تمطر صواريخ، وكدنا نُقتل. صباح اليوم التالي، ومع أول ضوء، غادرنا المنزل الذي اُستهدف بالقذائف بعد مغادرتنا. وقد توجهنا حينها إلى عيادة الفاخورة في جباليا. أتذكر شكل الناس جيدًا، كان التعب قد أكل الأجساد جميعها، ومن شدته نام الجميع وفقًا للحال التي سمح بها التكدس الهائل لهم، قيامًا وقعودًا وعلى الأرض، في كل مكان.

بعد مطالبات جيش الاحتلال الإسرائيلي لسكان شمال غزة بالانتقال إلى الجنوب بتاريخ 13 أكتوبر 2023، لم نأخذ الأمر بجدية في البداية وأن الأمر لا يعدو أن يكون سوى حربًا نفسية تُمارس على الشعب، وأنها كالعادة ستكون أيام قليلة ويتم الوصول إلى حل وتبادل للأسرى. لكن بحلول 19 نوفمبر 2023، لم يعد هناك مجال للانتظار، فتحركنا إلى مخيم المغازي جنوب الوادي سيرًا على الأقدام عبر حاجز صلاح الدين، في رحلة مرهقة ومليئة بالرعب. كان المشهد في الحاجز لا يُنسى، مشاهد من الرعب، حيث كان الخوف يسيطر على الجميع، حتى أن الأم قد تنسى أطفالها. كان العدد الذي ركب الجيب يفوق استيعابه واستيعابنا نحن، إن الطريقة التي يُنقل من خلالها البشر إلى بر الأمان، إن وجد الأمان طبعًا تبعد كل البعد عن كل ما هو إنساني وكأننا مجرد أرقام، كنا نمثل أرقامًا فعليا وليس بشرا، إلا أن تعب الطريق أنهكنا. كنت كالمغيبة عند المرور عبر الحاجز. كان مثل يوم الحشر، الدبابات حولنا ودائمًا كان هناك إطلاق للرصاص، لا أحد يرى أحدا من شدة الرعب. اتفقنا مع العائلة على الالتقاء في مكان معين حال ضل أحدنا الطريق.

وإن أسوأ مشهدين رأيتهما على الحاجز، كان الأول لبنت مصابة بالتوحد ولا تتوقف عن البكاء، ويستمر الناس بطلب إسكاتها، الكل يخشى على روحه!! وهي أو حتى أهلها لم يستوعبوا في ظل هذا الرعب والظروف الخارجة عن المنطق والطبيعي كيف.  والثاني كان لرجل عجوز كاد أن يقع، لا أعلم كيف قمت بإسناده، لا ينتبه أحد على أحد على الحاجز، مهما كانت صلة القرابة، الرعب يشل تفكرينا، وكم هجرة على المرء أن يعيشها بعد في هذه الحياة!

في المغازي، عشنا 38 يومًا فيما يُعرف بـ “البركس”، وهو مكان بالكاد يصلح للعيش. تجمدنا من البرد، ونمنا على النايلون، وكان لحافي هو جلبابي فقط. وفي النهاية تركنا المكان عندما اقتربت القذائف والأحزمة النارية منه، واعتبروا المغازي وقتها منطقة حمراء، ولم نرد تكرار تجربة الشمال والبقاء حتى آخر لحظة.

وبتاريخ 26/12/2023 توجهنا إلى رفح. كانت الليلة الأولى لنا في الشارع، في منطقة تل السلطان- دوار أبو السعيد. وفي الصباح مرت بجوارنا سيارة لمنظمة إنسانية لمراقبة أوضاع النازحين وحينما شاهدوا وضعنا أعطونا شوادر. ولمدة أسبوع كامل نمنا حرفيًا في العراء إلى أن تمكنا من توفير بقية اللوازم لإنشاء الخيمة. في أحد الأيام، استيقظت صباحًا ووجدت كلباً مقابلي تمامًا، الحمد لله أنها لم تمطر حينها.  كانت رفح مزدحمة وفوضى وضوضاء، ولكن لا خيارات أخرى.

وبعد عملية الشابورة في رفح (اقتحام قوات الاحتلال حي سكني وسط قصف عنيف) تركنا رفح بتاريخ 13/02/2024. انتقلنا مرة أخرى إلى الزوايدة، حيث نقيم حالياً في خيام المصدر. لم تكن الأمور أفضل هنا حيث نمنا أول ليلة في ثلاجة شحن، وكافحنا لتأمين المياه والطعام في ظل نقص المساعدات وكانت المنطقة خالية من الناس إلا قليلًا ومخيفة حيث إنها كانت بالقرب من البحر. وفي البداية لم تتوفر المياه ومن ثم صارت تأتي شاحنات محملة بالماء من أجل المخيم.

وبعد تخطي جميع مراحل العلاج قبل الحرب، كانت حالتي الصحية جيدة، ولكن الأمر بحاجة إلى المتابعة الدائمة وعمل فحوصات دورية لمنع عودة الورم مرة ثانية. في الأيام التي سبقت الحرب كنت ملتزمة بمتابعة حالتي الصحية، وكنت أجري صورة للثدي كل ستة أشهر في مستشفى الصداقة التركي والذي خرج عن الخدمة منذ بداية الحرب. آخر صورة CT قمت بعملها كانت في أغسطس 2023، وكان يفترض أن تكون الصورة التي تليها في شهر ديسمبر 2023، إلا أن الحرب بدأت وإلى الآن لم أراجع أي جهة بخصوص هذا الأمر، لا توجد متابعة، ولا يتسنى لي الاطمئنان على صحتي.

الآن، أشعر بآلام شديدة في المعدة والمفاصل، وعليه أخبرتني الطبيبة الموجودة في النقطة الطبية في المخيم بضرورة مراجعة طبيب مختص. أخاف من الذهاب إلى النصيرات من أجل المتابعة، وضع النصيرات مخيف جدًا، والمواصلات صعبة وباهظة جداً. كما أنني لا أجد الوقت للذهاب، أستيقظ في الصباح وتبدأ معركتي مع الحياة بإشعال النار للطبخ، وملء ما يمكن تعبئته بالماء بعد طابور طويل، ومن ثم غسل الملابس، انتهاءً بالجلي، لا أذكر خلال هذه الأربع شهور أنني خرجت من المخيم إلا مرتين. وأخشى أن المرض قد يعود في ظل هذه الظروف الصعبة.

لقد أنهكتنا حياة الخيام وأعادتنا إلى عصور قديمة. لم تعد الحياة كما كانت، بل أصبحت مجرد صراع للبقاء. أتمنى العودة وكأن شيئًا لم يحدث، لكنني أدرك أن العلاج ليس جسديًا فقط، بل نفسياً أيضًا. ومع كل ما نمر به، أخشى أن نموت قهرًا.