آية فوزي رمضان الوكيل محامية في وحدة المرأة بالمركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، 33 عام، سكان غزة – تل الهوا
في 13 أكتوبر 2023، أعلن المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي أنّ على سكان شمال قطاع غزة التوجه إلى جنوبها، أي ما بعد وادي غزة. رفضت حينها أنا وعائلتي الذهاب إلى المجهول. قلنا: من سيضمن لنا العودة؟ هل سنعيد نكبة ١٩٤٨ مرة أخرى؟ هل فعلًا يوجد أمان في جنوب قطاع غزة وهو يتعرض للمجازر يوميًا كما شمالها؟
ومنذ ذلك اليوم 13 أكتوبر، بدأت تتوافد الأخبار حول استهداف المدنيين خلال مرورهم عبر «الطريق الآمن». فإذا كان الموت في شمال غزة محتمل فإن خطر الموت على ما أسموه «الطريق الآمن» نسبته أعلى.
في تاريخ 18 أكتوبر 2023، وبدون سابق إنذار، بدأ القصف الإسرائيلي الشديد ليلًا على الحي الذي أسكنه مع عائلتي في منطقة تل الهوا، محيط مستشفى القدس غرب مدينة غزة. سمعنا صوت زجاج العمارة ينهار بشدة وتساقطت بعض الحجارة علينا من شدة الاهتزاز. كنا مجتمعين في الطابق الأرضي بجوار باب العمارة المكونة من أربعة طوابق، مساحة الطابق منها ٤٠٠م. شعرنا حينها أنه الصاروخ الأول الذي يستهدف العمارة وسيلقى آخر. من شدة خوفنا وفي لمح البصر، حمل أخوتي أبي المقعد على كرسي متحرك وهربنا إلى بيت الجيران الذي يبعد ٤ أمتار عن بيتنا، ظنًا منا أنه سيكون أكثر أمانًا كونه يقع في شارع داخلي.
ازدادت شدة القصف الإسرائيلي، وبدأ يقترب رويدًا رويدا من منزل الجيران إلى أن انهارت الغرفة الموجودين فيها على رؤوسنا، فهربنا إلى الشارع مُتجهين إلى مستشفى القدس ليتم قصفنا من جديد مع الجيران في الطريق. أيقنا حينها أنه حزام ناري لشارعنا وقد أصاب العديد من المنازل ومن ضمنهم عمارتنا التي لم تعد صالحة للسكن. كما كان هناك منازل تحترق بمن فيها.
عدنا إلى منزل الجيران مرة أخرى، مذهولين من عدم إصابة الصاروخ لأحدٍ منا. بعد أقل من ٥ دقائق، قُصفنا مجددًا بصاروخين، الأول على باب البيت ليصيب من كان هناك، والثاني على المنزل نفسه لنصبح تحت الركام. خرجنا بهدوء وتجمعنا في الجزء البسيط المتبقي من البيت. اتصلنا بالإسعافات والدفاع المدني دون أي جدوى، لأنهم لا يمكنهم الوصول من شدة القصف والركام.
أنزل الجيش الإسرائيلي بعدها قنابل مضيئة ليتأكد من خلو المكان من الأفراد فتجمدنا في أماكننا دون إصدار أي صوت كي يعتقدوا أن جميع من في المنزل قد استشهد، بقينا لنصف ساعة هكذا ننتظر إما الموت حقًا أو ابتعاد الطيران لنتمكن من التحرك. والحمد لله بعد هدوءٍ عمّ المكان استطعنا الخروج مشيًا على الأقدام باتجاه مستشفى القدس. بكل اختصار، “لقد نجونا بلطف الله”.
في اليوم التالي 19 أكتوبر 2023، استأجرنا منزلًا يقع في محيط مستشفى الشفاء. قضينا فيه عدة أيام. وبتاريخ 29 أكتوبر 2023 تلقى جارنا في نفس العمارة اتصالا يبلغه بضرورة إخلاء المنطقة. لم نعرف وقتها إلى أين نذهب. فتوجهنا إلى مستشفى القدس مؤقتاً حتى نقرر أين نذهب… لنتفاجأ هناك بحزام ناري شديد جدًا يضرب محيط المستشفى ويقصف البرج المجاور لها وقد تطاير الركام علينا. هذه الليلة أيضاً، نجونا بلطف الله.
في صباح اليوم التالي من لجوئنا إلى مستشفى القدس، وتحديدًا بتاريخ 30 أكتوبر 2023، لجأنا إلى مستشفى الصحة النفسية في مدينة النصر، لأن جميع من نعرفهم إما نزحوا للجنوب وإما دمرت منازلهم وتشردوا مثل أعمامي وذويهم. كنا نعتقد حينها أن المستشفيات خطوط حمراء لا يمكن تدميرها.
وفي 2 نوفمبر 2023 حل الليل وحل معه حزام ناري آخر شنته طائرات الاحتلال قريب جداً من مستشفى الصحة النفسية حيث نزحنا، وهو ما أفقدنا صوابنا من شدة الرعب. لم نعلم كيف أتى الصباح علينا لنتفاجأ بقذيفة تصيب النازحين في حديقة المستشفى.
بعد كل ذلك لم يبق أمامنا إلا خيار الذهاب إلى مستشفى الشفاء وليس محيطها، فهي مستشفى مركزية لا يمكن قصفها -حسب اعتقادنا حينها. قضينا فيها عدة أيام. ثم جاءني عدة اتصالات من أصدقائي في جنوب غزة أن الجيش الإسرائيلي قد دخل بريًا مفترق أنصار، القريب جدًا من المستشفى. وهناك احتمالية عالية أنه متجه إلى المستشفى ولا شيء مستبعد. فقد تخطى جيش الاحتلال جميع الخطوط الحمراء في القواعد الدولية في هذه الحرب.
وفي 7 نوفمبر 2023 قررت عائلتي الفرار إلى بيت لصديق العائلة في حي التفاح والذي مكثنا فيه عدة أسابيع مع أخي وأختي وعائلاتهم. عانينا هناك من نقص في المياه الصالحة للشرب والمياه الصالحة للاستعمال اليومي والغاز، إضافةً إلى شبه انعدامٍ للطحين والخضراوات والمواد التموينية. فجميع المحلات الغذائية المحيطة والتي نستطيع الوصول إليها قد انتهت بضاعتها. ومن بعد انتهاء الهدنة بأيام أصبحت منطقة التفاح خطرة جدًا فقد أصبحت الدبابات على مدخل حي الشجاعية.
في تاريخ 4 ديسمبر 2023 ما كان لدينا خيار إلا العودة إلى محيط مستشفى الشفاء مجددًا، والذي كان قد مسح بشكل شبه كامل، وهو ما يعني استمرار معاناة الجوع والعطش.
مع العلم أن أمي مريضة سرطان واضطرت في أيام الهدنة الذهاب هي وبعض إخوتي إلى جنوب القطاع لتتم الإجراءات اللازمة لسفرها بهدف تلقي العلاج. ولكن حتى الآن لم يصدر اسمها للسفر رغم خطورة حالتها. وقد يثار التساؤل لماذا لم نذهب جميعًا برفقتهم إلى الجنوب. فبالإضافة إلى الأسباب التي ذكرتها آنفًا لا يمكن لوالدي المقعد تخطي الحاجز الذي وضعه الاحتلال على طريق صلاح الدين مشيا على الأقدام والذي فقد كرسيه في قصف منزلنا ولم نستطع الحصول على بديل له.
نسخة تجريبية