إفادة الزميلة سماح عاشور
محامية في وحدة المرأة في المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، وأم لطفلة، سكان حي تل الهوى في مدينة غزة.
أعطيت الإفادة بتاريخ 1/1/2024
بدأت معاناتي منذ اليوم الأول للهجوم الإسرائيلي على غزة في 7/10/2023، حيث قصف جيش الاحتلال بناية مقابلة لمنزلي في حي تل الهوى بغزة. لحظتها كنت أنا وطفلتي، في المنزل، وزوجى كان في عمله. سمعت صوت الزجاج وهو يتكسر والشبابيك وهي تطير من مكانها ورأيت الأبواب وهي تطير وتتكسر من شده القصف. احتضنت طفلتي وبقينا مكاننا لا نتحرك منه حتى توقف صوت الزجاج والأبواب عن التكسير، ولولا عناية الله لكنا في عداد الأموات، نجونا من الموت بلطف الله. خرجت بما أرتديه من ملابس مع طفلتي مسرعين من المنزل. ومن شدة خوفي على طفلتي جلست في بيت الدرج أنا وجميع سكان العمارة. كان هنالك أطفال مصابون في المكان بجروح مختلفة نتيجة تطاير الشبابيك والأبواب، كانت لحظات صعبة، الأطفال يصرخون من شدة الخوف. خفنا أن يعاود الجيش قصف البناية المقابلة مرة أخرى إذا قررنا الخروج من العمارة مباشرة. انتظرنا مدة 15 دقيقة وعندما بدأت الناس تتجمهر حول مكان القصف قررنا الخروج فاتضح أن هناك شهداء ومصابين تزامن مرورهم مع القصف. لم أستطع أخذ شيء من بيتي من شدة خوفي على ابنتي وعلى نفسي. ذهبت مسرعة إلى منزل عائلتي الواقع غرب مدينة غزة، مكثت فيه أسبوعا. كنا نسمع أصوات الانفجارات قوية جدا وبعد انقطاع المياه وصعوبة الحصول عليها كون الأشخاص الذين كانوا يبيعون مياه الشرب خائفين من التنقل من مكان لمكان في الحرب خشية ان يتعرضوا للقصف ، توجهت أنا وزوجي إلى منزلنا الجديد القريب من منزل أهلي لتوفر المياه فيه، وأهلي استطاعوا الحصول على بعض المياه من بئر بالقرب من المكان وكان هناك أيضا صعوبة لعدم توفر السولار أحيانا لتشغيل المولد. ذهبت إلى منزلي الذي كنا جهزناه وكان يفترض أن ننتقل للعيش فيه في 15/10/2023، ولكن بسبب نشوب الحرب لم نتمكن من نقل عفش البيت. عندما ذهبنا إلى منزلنا مكثنا فيه عدة أيام ثم اتصل علينا احد الجيران وأخبرنا بضرورة الخروج من المنزل كون جيش الاحتلال اتصل عليه بأنه يريد منه إبلاغ سكان عمارة الدوحة، التي تبعد عن منزلنا حوالي 100 متر، ومن حولها بالإخلاء فورا تمهيدا لقصفها. وبالفعل خرجنا من المنزل الساعة العاشرة ليلا والرعب يحيط في المكان، لا كهرباء ولا أصوات سوى أصوات طائرات الاستطلاع والطيران الحربي وأصوات الناس التي كانت تصرخ من الخوف والأطفال كانوا يبكون. ذهبنا جميعا في الليل إلى منزل عمى وبالفعل تم قصف العمارة كاملة الساعة الواحدة فجرا تقريبا في اليوم الثاني لقصف عمارة الدوحة اشتد القصف في المنطقة، كل السماء كانت مليئة بالدخان الأسود، تم قصف العديد من المنازل في المنطقة دون سابق إنذار، كان هنالك العديد من الشهداء والجرحى. كانت الشوارع فارغة تماما من المارة وهناك حالة من الرعب والخوف خصوصا في ساعات المساء حيث يمضي الوقت ببطء شديد. كنا لا نسمع سوى طائرات الاستطلاع والطيران الحربي، وما زاد الرعب حولنا قنابل الإضاءة التي يطلقها جيش الاحتلال في المساء وتجعل المنطقة كأنها نهار.
في عصر يوم الأربعاء 18/10/2023، لا أستطيع نسيان ذلك اليوم، كنت جالسة بالمنزل أنا وطفلتي وزوجي، جميعنا كنا في غرفة واحدة. فجأة وبدون مقدمات ودون أن نسمع صوت انفجار صاروخ، بدأ الزجاج يتساقط علينا والأبواب تتطاير والدخان الأسود ملأ أرجاء المكان، لم نكن نستطيع التنفس، وأصيب زوجي في كتفه وأنا وطفلتي أصبنا بشظايا في أقدامنا أصبحنا ننادي على بعضنا البعض ونتفقد طفلتنا لأنها من هول الصدمة لم تتلفظ بكلمة واحدة، ولنتأكد انها على قيد الحياة لصعوبة تلك اللحظة، فعولجنا في منزل مجاور لمنزلي بعدما جاء الجيران لإخراجنا من تحت أجزاء المنزل المدمرة. في تلك اللحظة عجزت عن التفكير لا أدري ماذا حدث بالخارج واتضح بعد ذلك ان جيش الاحتلال قصف الارض الزراعية وملحق لمنزل سكنى بدون سابق انذار بصاروخ أطلقته طائرة F16 وهو بجوار منزلي، ونتيجة ذلك تدمر منزلي وتدمرت سيارة زوجي تدميرا كليا، والحمد الله أن نجونا بلطف الله. كما تدمرت سيارتي في وقت لاحق بعد أن قصف جيش الاحتلال عمارة الفيروز، وبعد ما شهدته من دمار حدث للمنزل حمدت الله على أننا لا زلنا على قيد الحياة. بعد أن شاهدت منزلي الجديد والدمار الذي حدث به بكيت من القهر على تعب سنين أنا وزوجي حتى نوفر لابنتنا حياه كريمة وتأمين مستقبل لها، وكلما نظرت إلى طفلتي حمدت الله أننا بخير وفى نفس الوقت حمدت الله أننا لا زلنا أحياء ولم يتأذى منا أحد كبتر قدم أو ما شابه من الإصابات الخطيرة.
بعد مغادرتنا للمنزل عدنا مرة أخرى لمنزل أهلي، وبحلول المساء اتصل جيش الاحتلال على جار أهلي وأخبرهم بضرورة إخلاء المربع فورا تمهيدا لقصف عمارة مجاورة لمنزل أهلى . وهنا شعرنا جميعا بالعجز التام غير قادرين على عمل شيء. أبى رجل كبير بالسن ولا يقوى على الحركة لمسافات طويلة، ولا يريد الخروج من المنزل نهائياً. تساءلنا جميعا إلى أين سنذهب جميعنا في الليل، أنا وزوجي وطفلتي لا نقوى على الحركة نتيجة إصاباتنا. استطاع زوجي وبصعوبة حمل طفلتنا واحتضانها. في تلك اللحظة سمعنا أصوات انفجارات قريبة من المكان، وخرجنا من المنزل لا نعرف إلى أين سنتجه فلا مكان آمن قريب نلجأ اليه. جميعنا بدت عليه ملامح الخوف والذعر والحزن ودعونا الله ألا نكون فاقدين ولا مفقودين. انقسمنا إلى مجموعات وكل مجموعة توجهت إلى مكان بعيد نوعا ما عن المكان المستهدف قصفه. بالفعل جميعنا نزحنا من منزل أهلي إلى أماكن أخرى بعيدة عن العمارة التي يريدون قصفها وافترقنا إلى منازل أخرى بعيدة عن العمارة المستهدفة. ولكن لم يقم الاحتلال بقصف العمارة المهددة ، بل قام بعمل حزام ناري (أي سلسلة غارات مكثفة) في المكان الذي توجهنا إليه للاحتماء به من قصف تلك العمارة. كان الحزام الناري قريب جدا من المكان الذي نزحنا إليه، وتم قصف المشتل الزراعي و عمارة أبو عطيوي والخضري وساق الله، رددنا الشهادتين على أرواحنا، لحظته أيقنت أن النهاية اقتربت وأننا سنموت لا محالة. احتضنت طفلتي وبكيت لا أعرف على ماذا أبكى: أعلى أبي الذي لا يقوى على الحركة وعدم قدرته على المشي لمسافات طويلة وهو يمسك بيد إخوتي حتى يستطيع الحركة؟ أم على صراخ الأطفال؟ أم على زوجي المصاب؟ أم على استغاثات الناس ونحن غير قادرين على تقديم المساعدة لهم لاستمرار القصف؟. تدمر نتيجة القصف المنزل الذى كنا متواجدين فيه نتيجة القصف العنيف .
بعد توقف القصف لفترة قصيرة استطاع أخي ومجموعة من الشباب إخراج فتاة مصابة من المكان المستهدف الذي تم قصفه وإحضارها إلى المنزل الذي كنا نتواجد فيه. كنا نسمع صوت الفتاة وهي تستغيث ونبكى عليها وندعو لها وبمجرد عودتهم إلى المكان لاستخراج من بقي حيا استهدفهم الاحتلال بصاروخ آخر فأصيب أخي إصابة خطيرة. ولم يستطع أحد إخبار أبى أو أمي بإصابة أخي في تلك اللحظة. خرجنا جميعا بعد توقف القصف لفترة قصيرة جدا وكنا نردد الشهادتين على أرواحنا كون القصف تجدد أثناء خروجنا من محيط منزل الذي كنا نحتمي به وتوجهنا في الساعة العاشرة مساء كبارا وصغارا نساء مع الأطفال بالليل وتوجهنا الى عمارة مختار عائلتنا . جميع الشباب وكبار السن ناموا في ممرات العمارة وعلى الدرج بدون حرامات أو فرشات ناموا من التعب على الأرض من هول ما حدث وكان عددهم يتجاوز (50) شخصا. أما النساء والاطفال وكان عددهم ما يقارب (70) في شقة في تللك العمارة . عندما كنا نتنقل من مكان لآخر كنا نفكر فقط كيف نخرج أحياء من المكان لا نفكر بأخذ أي شيء آخر. ليلة لا أستطيع نسيان تفاصيلها خفت فيها على طفلتي، وعلى زوجي وعلى أهلي كلهم. خفت أن أموت أو أفقد أي أحد منهم، كنت أدعو ربنا في تلك اللحظة إذا أجلنا انتهى كلنا جميعا مع بعض نموت كي ما نقعد نبكى على بعض. عندما كنا نتصل بالإسعاف كانوا يقولوا لنا لا نستطيع أن نتحرك إلا عندما يسمح لنا الجيش أن نتحرك لانه المكان خطر وممكن يعاد قصفه مرة ثانية. كانت تلك ليلة بشعة بمعنى الكلمة حيث إنه وبحلول الصباح الباكر عرفنا أن هناك شهداء في المكان رحمة الله عليهم أجمعين.
ما بعد ذلك ذهبنا إلى منزل احد اقاربنا ومكثنا به أسبوعا تقريبا. كان هنالك صعوبة في الحصول على الطعام والماء وكان وضعنا في غاية السوء لعدم الشعور بالأمان والخوف المستمر بسبب عدم توقف القصف على مدار الساعة، حيث كانت طفلتي لا تستطيع النوم مطلقا وحين تكاد تنام تقوم من النوم مفزوعة وباكية من الخوف وأنا أشعر بالعجز أمام هذا الموقف فلم يكن باستطاعتي فعل أي شيء إصافة إلى خوفي على أهلي جميعا وخصوصا أبي وأمي وهما كبيران في السن ولم نتمكن من توفير علاج الضغط والسكر وأدوية الروماتزم الخاصة بهما مما عرضهما للخطر الشديد مع عدم قدرتهما على التنقل من مكان لمكان بسبب كبر سنهما. وبعد ذلك عدنا إلى عمارة والدي السكنية. ومع اشتداد القصف في كل مكان لا نعلم اين القصف كل ما نراه دخان اسود يملئ ارجاء المكان وكنا لا نستطيع التنفس من شدة رائحة البارود ولا نعلم أين القصف بالتحديد . خرجنا نحن وكل المتواجدين في العمارة وانا وزوجى وابنتى توجهنا مباشرة الى جنوب وادي غزة، بملابسنا الصيفية ولم نأخذ معنا شيء. في كل المراحل السابقة أثناء وجودي في غزة عانيت كثيرا من عدم الشعور بالأمان والطمأنينة لذا قررنا النزوح إلى المناطق التي يسميها الاحتلال أنها آمنة بالجنوب وفي الحقيقة لم تكن آمنة أصلا، فقد نزحنا في هذا اليوم أي 29/10/2023، إلى مدينة دير البلح وانا متألمة لفراق أهلي وبيتي وعائلتي ومدينتي الحبيبة غزة ظنا منى أنني سأكون بأمان. ولكن المعاناة الحقيقية بدأت بعد النزوح في البحث عن تأمين مسكن مشترك مع بعض الناس الغرباء وهو الحل المتاح في ظل التكدس الكبير للنازحين. ومن ثم بدأت رحلة البحث عن فراش وأغطية لطفلتي وكان الأمر صعبا بسبب عدم توفر هذه الأشياء كون نزوحنا جاء متأخرا ومن ثم دخل فصل الشتاء وكان همى الوحيد في تلك اللحظة تأمين ملابس شتوية لطفلتي كوننا نزحنا بملابسنا الصيفية. أضف إلى ذلك شعور الخوف والقلق على أفراد أسرتي حيث انقطع الاتصال تماما معهم لفترات طويلة وبالكاد أتواصل معهم حين يتاح الاتصال بهم بصعوبة بالغة، وقد عانيت من عدم النوم والقلق والخوف المستمر بسبب هذه الحرب وتبعاتها على حياتي وأهلي وخوفي من القادم المجهول. علمت لاحقا أن الاحتلال دمر كل المنطقة وجرف أرض والدي واعمامي وحرق دار عمى ودمر عمارة الفيروز ومنزل أخوتي، شاهدت ايضًا صورا لبيتي وهو مدمر من القصف وكمل عليه الجيش عندما أعلن بدء العملية البرية العسكرية ووصل عنده وجرف السور الخارجى من الجهات الأربعة، وحطم كل جدران المنزل، ودمر بعض اعمدة المنزل، ولا يزال هناك الكثير من فصول المعاناة المستمرة للنزوح لم أتمكن من كتابتها كلها لأنني لا زلت تحت النزوح.
نسخة تجريبية