محمد معين عطا الله، متزوج وأب لطفل، محامي موظف في وحدة التدريب في المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، سكان غزة
في غزة الموت والجوع، وجهان لعملة واحدة، بهذه العبارة أسرد قصة جديدة من المعاناة التي عشناها وما زلنا نعيشها في غزة والممتدة بين الألم والوجع والحسرة والموت والنزوح والجوع منذ السابع من أكتوبر، التاريخ المحفور في ذاكرة كل فلسطيني عاصر تلك الحرب. استيقظت من النوم كأي مواطن عاش تلك اللحظة، على أصوات الانفجارات المتواصلة التي هزت مدينة غزة، دقائق معدودة بين الخوف والتفكير بما هو قادم من المجهول.
أنا أسكن مع زوجتي رولا السويسي، وهي دكتورة صيدلانية، وطفلي معين وعمره عام واحد، في منزل مكون من طابقين وبدروم في حي الصحابة في غزة، ويعيش في المنزل أيضًا عائلتي المكونة من والديّ وإخواني وعددنا 9 أفراد من إجمالي أسرتنا المكونة من 14 فردًا.
ساعات وطبول الحرب تقرع على قطعة صغيرة من الأرض هي قطاع غزة، القطاع المحاصرة منذ سنوات طويلة، الذي يفتقر لمقومات الحياة الأساسية، الذي نزفت جراحه كثيراً، ولم يعد يحتمل ويلات وآلام حرب جديدة لأيام قليلة، فما بالكم بأشهر طويلة.
توجهت كمواطن غزي لأحد المحلات القريبة من المنزل لشراء بعض المستلزمات الغذائية الأساسية. جميع من شاهدتهم من الجيران في الطريق كانوا في حالة من الصدمة والذهول من قادم الأيام، الناس منتشرة في الشواعر كخلية نحل، معتقدين بأن الحرب كسابقتها مجرد أيام معدودة وتنتهي.
سرعان ما بدأ الاحتلال ضرباته الجوية على البنية التحتية لمدينة غزة. أصوات الانفجارات والأحزمة النارية لم تتوقف، كل دقيقة قصف وتدمير. كنت أخاف من حلول الليل بسبب اشتداد القصف والأحزمة النارية المرعبة التي لا تهدأ.
في 11/10/2023، مع أذان العصر، سمعنا صوت انفجار ضخم هز منطقتنا. لم نستطيع الخروج من المنزل من كثافة الدخان، دقائق وأصوات الصراخ والبكاء تتعالي في الشارع. توجهت برفقة الجيران لمكان القصف وهو منزل لعائلة حجازي الملاصق لمنزل أعمامي. كل شيء مدمر، المنازل فوق بعضها البعض، عشرات من المصابين والشهداء في المكان، مما فقدنا 3 من أبناء عمي.
في اليوم التالي مع ساعات الصباح، كنت أجلس بجوار ابني معين داخل صالة المنزل وإذا بزجاج الشبابيك يتطاير علينا من شدة الانفجار، والغبار الذي ملأ بالمنزل، نكاد لم نر بعضنا البعض من شدته. بعد دقائق استطعنا الخروج من المنزل وإذا بأصوات أعمامي وأقاربي تملأ المكان. لقد تم تدمير عمارة جيرانا والمكونة من 5 طوابق على من بداخلها من السكان. تفقدت أخوتي الذين كانوا بمنزلنا، ثم خرجت للبحث في الشارع عن باقي أفراد عائلتي.
مع حلول ساعات الظهر، دوى انفجار آخر استهدف منزل جيرانا وهو منزل ملاصق لمنزل عمتي، نجم عنه فقدان زوج عمتي وثلاثة آخرين من أبناء العائلة.
بتاريخ 13/10/2023 في ساعات الصباح، ألقت الطائرات الإسرائيلية منشورات تطلب من جميع سكان مدينة غزة الإخلاء فورا، والتوجه إلى منطقة ما بعد وادي غزة، أي جنوب القطاع، عبر شارع صلاح الدين. وهذا ما أكده المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي بضرورة مغادرة جميع سكان شمال القطاع إلى جنوبه، وتم نشر خريطة الإخلاء على صفحاتهم عبر فيسبوك.
بدأ معظم سكان الحي بمغادرة منازلهم والنزوح للجنوب. وهنا رفضنا أنا وعائلتي وعدد من الجيران مغادرة منطقة الصحابة بحي الدرج، رغم حالة الذعر والقلق التي انتابتنا، لأنه ليس لنا مكان نذهب إليه ولأن كل مكان في القطاع كان يتعرض للقصف. إلا أننا قمنا بتجهيز بعض الحقائب الشخصية، تحسبنا لأي طارئ.
الحزام الناري
يوم 25/10/2023، لا يمكنني نسيان تفاصيله، أقوى حزام ناري (غارات إسرائيلية مكثفة ومتواصلة) شهدته مدينة غزة – الحزام الناري المرعب في شارع اليرموك (برج التاج 3) وهو يبعد عن منزلنا نحو 300 متر. مع ساعات العصر وبينما كان والدي يجهز نفسه للمغادرة للبرج لأنه يعمل حارسا له، تلقى والدي اتصالا من أحد سكان البرج يسأل عن سبب تأخره للمجيء لحراسة البرج، وهنا قطع الاتصال مع بدء أصوات الانفجارات. على الفور غادر والدي المنزل متجها للبرج، أصوات الانفجارات المرعبة المتتالية التي استمرت لأكثر من دقيقتين، لا أحد يعلم ماذا يحدث. بعد حوالي ربع ساعة، جاء أبناء عمى لمنزلنا يبحثون عن والدي لأنهم سمعوا في الراديو أن القصف كان على شارع اليرموك محيط أبراج التاج، وأن والدي موجود هناك.
سمعت الخبر لم أستطيع الوقوف على قدميّ، خرجنا ونحن بحالة هستيرية من الخوف والقلق نبحث عن والدي، 56 عاماً، حيث رأيته ملقى على الأرض في منتصف الشارع. في هذه اللحظة لا يمكنني وصف الحالة النفسية التي عشتها من شدة الخوف والرعب، وتبين أن والدي إصابته طفيفة، وكان هناك آخرون مصابون بجروح مختلفة. بعد دقائق توجت لمكان البرج، الجثث ملقاة على الأرض ومتناثرة في الشارع. لا يمكن وصف الدمار والخراب الذي حل بالمنطقة، لقد تم دفن البرج وتسويته بالأرض على رؤوس ساكنيه، تدمير لمنازل عائلات (حرز – حنونة – منصور -عنان -سالم -ديب -زويد – شرف). دمرت المنازل بالكامل، حيث أخرجنا في الساعات الاولى من المنطقة ما يقارب 50 شهيدا. استمرينا في إخراج الجثث لأكثر من أسبوع حيث تم انتشال ما يقارب 100 شهيد، وما زال تحت الانقاض ما يقارب 55 شهيداً.
الليلة السوداء
بتاريخ 24/11/2023، تم الإعلان على عن هدنة إنسانية لخمسة أيام قابلة للتمديد. بدأنا نتنفس قليلا وكأن الحرب أوشكت على الانتهاء. كنا ننتظر الساعة السابعة صباحا بفارغ الصبر، الخوف والرعب يسودان حالتنا. لم نتصور إطلاقا أن تكون هذه الليلة من أسوأ الليالي السابقة.
مع حلول منتصف الليلة حوالي الساعة 12:00، بدأنا نسمع أصوات الجرافات والدبابات وهي قريبة جدا، حيث تواجدت الآليات الإسرائيلية في شارع اليرموك منطقة مربع برج التاج 3 وهي المنطقة التي سبق وأن تم تدميرها بحزام ناري. كنا نسمع أصوات الانفجارات والجرافات وهي تقوم بتدمير كل شي أمامها، استمر هذا الوضع قرابة 3 ساعات.
مع ساعات الفجر اقتربت أصوات الانفجارات من أمام منزلنا، وسمعنا ـأصوات الصراخ من منازل أقاربي بجوارنا. فورا نزلنا برفقة عائلتي للاحتماء في بدروم المنزل. وفجأة سمعنا صوت انفجار ضخم هز منزلنا وتطاير زجاج الشبابيك علينا، ونجم ذلك عن قصف منزل جيراننا الذي يبعد عنا مسافة 20 مترا. وبعدها بدقائق حدث قصف آخر استهدف مسجد الحارة (مسجد سعد بن معاذ) ويبعد عنا مسافة 50 مترا. لم نستطيع الخروج من البدروم رغم سماع أصوات صراخ الاستغاثة من الجيران، استمر هذا الحال حتى حلول موعد الهدنة.
عند دخول الهدنة موعدها، خرجنا على الفور من المنزل. وهنا كانت الكارثة والمصيبة مما شاهدت، الحارة مدمرة بالكامل وقطع من جثث الشهداء متناثرة في الشارع. وعندما اقتربنا أكثر وتوجهنا لمكان المسجد تفاجأنا بأن المسجد قصف على من بداخله من المصلين من أبناء العائلة. بدأنا على الفور بإزالة الركام وانتشال الشهداء، حتى مساء اليوم تمكنا من انتشال 14 شهيدا وهم جميع من كان بالمسجد.
خلال أيام الهدنة، قمت بجولة لبعض الأحياء التي انسحبت منها قوات الاحتلال بشكل جزئي كحي الرمال وتل الهوا والنصر والجوازات، وهنا كانت الصدمة، لا يمكنني وصف الدمار والرعب الموجود بهذه المناطق: المنازل مدمرة ومحترقة، الشوارع متداخلة ببعضها البعض، اختفت معالم هذه الأحياء نهائيا.
معاناة النزوح
مع ذلك، لم تكن منطقة الصحابة بحي الدرج طيلة الوقت السابق منطقة ساخنة كباقي مناطق غرب غزة، إذ كانت هادئة نسبياً، حيث كان معظم سكان غرب مدينة غزة يلجؤون إلى شرقها كمنطقة الدرج والصحابة والنفق والمشاهرة، وكان هناك سوق شعبي كبير موجود حتى اليوم.
بدأ الاحتلال بتصعيد هجماته لحي الدرج والتفاح من بداية ديسمبر 2023، وزاد حدة القصف بشكل جنوني من خلال أحزمة نارية شديدة في الليل. ومع ساعات الصباح، ألقى جيش الاحتلال مناشير يطلب منهم الاخلاء فورا والتوجه لحي الرمال، على إثرها قرر معظم السكان النزوح إلى مستشفى الشفاء.
بتاريخ 8/12/2023، اشتد القصف مع ساعات الصباح على منازل المواطنين دون سابق إنذار، حيث تم قصف منازل لعائلة عطالله والزيتونية والغفري وسقط أكثر من 100 شهيد في هذه الضربة.
مع ساعات فجر اليوم التالي، سمعنا انفجارين هزا منزلي بشكل جنوني، حيث تناثرت باقي نوافذ المنزل علينا، ومكثنا لحظتها داخل بدروم المنزل حتى الصباح. لم نكن نعلم بعد أن ذلك القصف كان لمنازل عائلتي، حيث سقط فيها أعمامي وأبناؤهم وأحفادهم جميعاً، وعددهم ما يقارب 77 شهيدا، نصفهم ما زال تحت الأنقاض. استمر القصف حتى الساعة 6 صباحا ودمر أيضا منازل عائلة الشوبكى وسقط أكثر من 30 شهيدا.
رغم هذا الوجع والألم وقلة الإمكانيات وعدم وجود المستشفيات، قمت برفقة عدد من الأصدقاء الممرضين بتقديم إسعافات أولية بسيطة للمصابين قبل نقلهم إلى مركز الدرج الصحي.
في هذه اللحظة قررنا مغادرة المنزل وتوجهنا لمنزل أحد الاصدقاء بحي الرمال حتى عصر اليوم التالي، وبعدها عدنا للمنزل وبقينا حتى نزحنا مرة ثانية.
بتاريخ 19/12/2023، ومع ساعات الظهر، كنت أجلس أمام باب المنزل. وفجأة بدأت طائرات الكواد كابتر تطلق النيران بشكل جنوني في شارع الصحابة واليرموك، مما دفع أغلب سكان الحي إلى مغادرة منازلهم. على الفور هربت من المنزل مع أفراد عائلتي، وتوجهنا إلى منزل أختي بمنتصف سوق اليرموك الذي يتوسط بين شارع الصحابة والوحدة، ومكثنا هناك 3 أيام.
بتاريخ 21/12/2023، حوالي الساعة العاشرة صباحاً، بينما كنت أسير في الشارع ،سقطت قذيفة على منزل لأحد الجيران، وسقطت على الأرض من شدتها. في تلك اللحظة، بدأت الدبابات بالتقدم من 3 اتجاهات وهي شارع الصحابة ومفترق التعليم العالي وشارع فرعي داخلي لسوق اليرموك. شاهدت الدبابات بعيني، لا يمكنني نسيان شكلها المخيف، قذائف عشوائية تتطاير كأنها مطر. جميع من بالمنطقة غادروا منازلهم إلى مجمع الشفاء وإلى مركز الوكالة التابع للاونروا بشارع الصناعة. أما أنا وعائلتي حيث كنا قرابة 70 شخصا، فغادرنا لحى الرمال بشقة سكنية في عمارة لعائلة سلمي. كانت رحلة في غاية الصعوبة. كنا نسير مشيا على الأقدام وبشوارع فرعية، وعند مرورنا من مفترق الطيران تعرضنا لإطلاق نار من الدبابات التي كانت متمركزة على مفترق ضبيط، كثير منا سقط على الأرض، عندما كنا نقطع المفترقات نسير مسرعين خوفا من إطلاق النار من طائرة الكواد كابتر، حتى وصنا لذلك المنزل.
لقد عشنا أياما من الخوف والرعب بسبب تواجد قوات الاحتلال في منطقة ميدان فلسطين، وكانت تتنقل بين شارع الجلاء وشارع النصر ومفترق السرايا.
خلال تواجدنا بهذا المنزل، كان هناك قصف مستمر وعنيف جدا لحي الرمال، حيث تم تدمير برج شوا وحصري ومنزل لعائلة سالم وعنان الذي راح ضحيته أكثر من 50 شهيدا وعشرات المصابين. وكان الوضع مأساويا، وقمنا بتقديم إسعافات بسيطة للمصابين على مدخل العمارة، قبل نقلهم عبر عربات الجر بمشهد قاسي جدا، والشهداء قمنا بدفنهم بإحدى الأراضي الموجودة بالمنطقة.
عدا عن مرور الدبابات والجرافات والجنود لأكثر من مرة من أمام العمارة التي كنا بها، حيث كنا نسمع أصوات الجنود وهم يتحدثون مع بعضهم، فقد حوصرنا داخل الشقة بالعمارة لثلاثة أيام دون طعام ولا شراب، وكان من الصعب الخروج منها ولا حتى فتح نوافذ الشقة. عشنا حوالي عشرة أيام في جوع لا أستطيع نسيانه، وخاصة مع انتهاء الحليب وحفاظات ابني الصغير معين الذي لم يتجاوز العام من عمره، عدا عن إصاباته بالعديد من الأمراض الجلدية والمعوية، حيث كنت عاجزا عن توفير المقومات الأساسية له.
استمر هذا الحال قرابة الأسبوعين، حتى سمعنا بانسحاب قوات الاحتلال من منطقة ميدان فلسطين ومن معظم مناطق مدينة غزة، وانهم توجهوا إلى حي الدرج والتفاح. عندها قررنا العودة إلى منازلنا والبقاء بها وعدم النزوح والخروج مرة ثانية مهما حدث.
نزوح جديد
بتاريخ 29/1/2024 ومع ساعات عصر ذلك اليوم، وبشكل مفاجئ بدأنا نسمع أصوات القذائف والقصف بشكل عنيف وغير مسبوق. كان الجميع يتساءل ماذا يحدث؟ قوات الاحتلال تعيد اقتحام عدد من الأحياء في غرب غزة: تل الهوا، محيط الشفاء، الجهة الغربية من مخيم الشاطئ، الصناعة والصبرة. وهنا بدأت الناس بالهروب من مجمع الشفاء ومدارس الإيواء في شارع النصر والصناعة خوفا من قدوم الجيش إليهم ومحاصرتهم وترحيلهم إلى دير البلح. استمر هذا الحال حتى صباح اليوم التالي. خرجت للشارع وشاهدت عشرات من الناس يهربون من غرب غزة باتجاه منطقة الصحابة وحي الدرج.
في اليوم التالي، حوالي الساعة التاسعة صباحاً، ألقت الطائرات الاسرائيلية منشورا جديدا لسكان مدينة غزة تطلب من سكان غرب غزة ( الشيخ رضوان – النصر – الشاطئ- محيط الشفاء – الرمال – تل الهوا – الصناعة – الصبرة) الإخلاء، فورا لأنها مناطق قتال، وأن عليهم التوجه إلى منطقة دير البلح عبر شارع الرشيد. وبالفعل، نزح أغلب السكان لكن إلى منطقة شرق مدينة غزة، حيث استمر هذا الوضع قرابة أسبوعين من القصف والدمار وخاصة لمنطقة الصناعة والصبرة.
بتاريخ 10/2/2023، سمعنا عبر الراديو بانسحاب قوات الاحتلال من جميع أحياء مدينة غزة، بعد أسبوعين من القصف والتدمير. وهنا بدأنا بالتنفس قليلا والتنقل بين الاحياء المدمرة التي اختفت ملامحها، مع بقاء الحال على ما هو عليه، لا طعام ولا شراب ولا مواد غذائية، أسعار جنونية للسلع والبضائع المنتهية صلاحيتها أصلا، ولا يوجد معنا أموال لشرائها. الناس تعيش حالة هستيرية مما وصلنا إليه، على أمل التوصل لهدنة إنسانية توقف هذه المجاعة التي نتعرض لها.
المعاناة اليومية .. البحث عن المأكل والمشرب
فصل جديد من فصول المعاناة يعيشه سكان غزة جميعا دون استثناء، كارثة انسانية حقيقة، الناس تعيش حالة هستيرية. أسواق مدينة غزة تغيرت تماما وظهرت أسواق جديدة في المناطق التي يتكدس بها المواطنون وهي (الصحابة – الثلاثينى – الشفاء – الساحة – الصناعة)، مع ذلك فهي تشهد عجز كبير في جميع السلع والمواد الغذائية المطلوبة للسكان، وان وجدت فهي منتهية الصلاحية وبأسعار مخيفة لا يستطيع المواطن شراءها.
بلغ سعر الطحين من 80 الى 100 شيكل للكيلو الواحد، بينما سعر كيلو الشعير والذرة وصل لـ 50 شيكل، وهناك عائلات لجأت إلى طحن علف الحيوانات والطيور والدواجن.
يوميا لا نأكل سوى وجبة واحدة وهي الغداء فقط، ويتم توزيع رغيف خبز واحد لكل فرد من أفراد الأسرة، ونبقى على هذه الوجبة لليوم التالي. وفى بعض الأيام نلجأ لأكل الطعام دون خبز من أجل توفيره لأيام قادمة.
وإن استطعنا توفير وجبة الغذاء فهي باتت ثابتة ومعروفة وتتكرر بشكل يومي كالعدس أو الخبيزة أو الأرز الأبيض أو بعض المعلبات، التي ارتفع سعرها إلى الضعف، مع انقراض تام للدجاج والحبش من الأسواق منذ شهور طويلة. أما لحوم العجل فلا يشتريها إلاّ من يملك المال الفائض لأن سعر كيلو اللحم من 130 إلى 150 شيكل، ولا يتوفر سوى عند بعض الجزارين.
لجأ الكثير من الناس لشراء (عظم العجول) كبديل للحم وطبخها مع الأرز الأبيض، وتباع بسعر 15 شيكل للكيلو. أما عن بيض الدجاج فتجده بصعوبة عند بعض الباعة، علما بأنك لا تستطيع شراء كرتونة بيض كاملة لوصول سعرها 180 شيكل، بواقع 6 شواكل للبيضة الواحدة.
أصبحنا عاجزين بل غير قادرين على شراء أغلب احتياجاتنا اليومية والأساسية من الطعام والخضار…الخ، لعدم وجود أموال وارتفاع أسعارها وانعدام وجودها.
عدا عن ذلك حالة الاحتكار التي يقوم بها التجار وأصحاب المحلات في التلاعب بأسعار السلع والبضائع، حيث يقومون بوضع سعر جديد كل يوم.
أصبحنا لا نشترى غير الحاجات الضرورية جدا فقط مع الاستغناء عن كثير من الأشياء لعدم وجود المال الذي نحصل عليه بصعوبة من التجار مقابل نسبة ندفعها لهم.
يوميا نقوم بطهي الطعام واعداد القهوة والشاي على النار، لعدم توفر الغاز منذ أكثر من شهرين، وان توفر فسعر الجرة سعة 12 كيلو 700-800 شيكل، ومع ذلك فلا يستطيع معظم الناس شراءها. نقوم يوميا بجمع الخشب من الشوارع والمنازل المدمرة، بل أصبحت تلك العملية مهنة لبعض الشباب يقومون بجمعه وبيعه داخل الأسواق بأسعار مختلفة.
أما عن أوضاعنا الصحية فهي تزداد سوءا، الجميع يفضل الموت على المرض أو الإصابة، لأنك لن تجد الرعاية الصحية اللازمة ولا حتى العلاج، فأغلب الصيدليات الموجود فارغة، ومعظم الأدوية الأساسية غير موجودة.
لا يمكنني نسيان تلك الأيام وأنا أتجول من مكان لآخر باحثا عن علبة حليب أو بسكويت أو علاج لطفلي الذي يبلغ عاما من عمره، أو لزوجتي الحامل في أشهرها الأخيرة، بأي ثمن ممكن.
لقد أصبح همي الوحيد كل يوم كيف ومن أين سوف أوفر احتياجات أسرتي الصغيرة؟؟ فطفلي بحاجة ماسة إلى الحليب والبيض والغذاء لنمو جسمه فهو في عامه الثاني، وكذلك زوجتي الحامل في أشهر الحمل الأخيرة، عدا عن احتياجها للمكملات الغذائية والفيتامينات اللازمة لها وللجنين، ووالدتي نجوى عطا الله، 55 عاما، التي تعاني من الضغط المزمن والتي تحتاج لعلاج خاص غير موجود أصلا. هذا بحد بذاته تفكير يومي، لا أستطيع تحمله، جعلني أعاني بشكل مستمر من آلام المعدة والقولون العصبي والصداع النصفي بشكل مستمر وفقدان الوزن وهبوط مفاجئ في ضغط الدم، نتيجة كثرة المشقة في الأعمال الحياتية والمعيشية اليومية وقلة الغذاء.
أما حصولنا على المياه فهي معاناة أصعب، فمثلا مياه الشرب يبلغ سعر الجالون الواحد 5 شواكل، مع الوقوف لساعات تنتظر دورك. أما مياه الحمام والغسيل والاستعمال اليومي فلا تتوفر إلا ضمن آبار المياه التابعة لبلدية غزة، حيث نضطر للمشي والوقوف لساعات وصولا إلى تلك الآبار، علما بأنه لا يتم تشغيلها سوى يومين أو ثلاثة أيام بالأسبوع ولساعات محدودة، حسب توفر السولار الخاص بتوليد مضخات الآبار، والأصعب من ذلك أنك قد تصطف لساعات تنتظر ولا يأتي دورك للحصول على المياه.
والأصعب من ذلك ما نشاهده يوميا من منظر للقمامة المكدسة في جميع الطرقات، فلا يخلو شارع أو منطقة إلا وتشاهد جبالا من القمامة، وروائح لا تستطيع تحملها، عدا عن ذلك مياه الصرف الصحي (المجاري) التي باتت تغرق الشوارع وكأنها أنهار، بسبب انسدادها وعدم تشغيل محطة الصرف الكبرى بغزة.
هذه الأحوال دفعت العديد من المواطنين الذين يعتمدون على الدخل اليومي أو من فقد دخله إلى متسولين، وهذا ما نشاهده يوميا بأعداد كبيرة جدا وخاصة بين أوساط النساء والأطفال، إلى جانب ارتفاع حالات السرقة والنهب والسطو بين الناس وخاصة في المناطق التي تنسحب منها قوات الاحتلال.
ما زلت أتذكر المشاهدة القاسية لمئات من الناس وهي تصطف على دوار الكويت ودوار الشيخ عجلين تحت المطر وبأجواء باردة جدا، وهي تتنظر قدوم شاحنات المساعدات الإنسانية وخاصة الطحين، علما بأن الشاحنات المحملة بالطحين أو المعلبات لم تدخل منذ أسابيع، وإن دخلت فإنه يتم السيطرة عليها من الناس المتواجدة.
بتاريخ 22/1/2024 تواجدت برفقة عشرات من السكان على دوار الكويت بشارع صلاح الدين ننتظر شاحنات المساعدات، التي لم تدخل أصلا. وفجأة أطلقت قوات الاحتلال القذائف على المتواجدين هناك، وبدأنا بالهروب، عشرات من المصابين والشهداء في الشارع، الكل يبحث عن أقاربه. لقد قمنا بنقل عشرات المصابين والشهداء الى مجمع الشفاء.
هكذا أصبح حالنا بمدينة غزة، الحياة معدومة جراء شح الموارد وقلة الطعام والشراب وضعف الاتصال وانعدام شبكات التواصل والانترنت، الارتفاع الجنوني لأسعار السلع والبضائع الموجودة داخل الأسواق، إلاّ أننا أصبحنا نتعايش مع هذا الوضع الجديد، نعيش على أمل بهدنة انسانية، نحصل فيها على نفس يعيدنا للحياة من جديدة.
نسخة تجريبية