فايزة سعيد أبو شماس، 78 عاماً، سكان معسكر الشاطئ غرب غزة
بدأت معاناتي بتاريخ 15/10/2023، حينها كنت في منزلي الكائن في معسكر الشاطئ، حيث بدأ جيش الاحتلال بقصف المنطقة بحزام ناري شديد بدون سابق إنذار. خرجت من المنزل وكان الرصاص والقصف فوق رؤوسنا. خرجت مسرعة هاربة إلى مدارس وكالة الغوث الموجودة في معسكر الشاطئ وتحديداً إلى (مدرسة العالية). وبعد لجوء أهالي المنطقة للمدارس، ألقى الاحتلال منشورات ورقية من الطائرات الحربية بضرورة إخلاء سكان المنطقة إلى جنوب قطاع غزة، إلا أننا لم نقم بالإخلاء ومكثنا في المدرسة حتى تاريخ 15/11/2023.
في تلك الفترة، رأينا كل أصناف الرعب والخوف وعدم النوم من أصوات القذائف والأحزمة النارية والفسفور الابيض حتى وصل القصف إلى الغرفة التي كنت أقيم فيها ونجوت من الموت المحقق بلطف الله وكتب لي ربنا عمراً جديداً. وعندما كان يشتد القصف كنت أختبئ تحت سلالم “درج” المدرسة من شدة القذائف التي كان الاحتلال يطلقها علينا. كانت أياماً صعبة جدا، لا أستطيع نسيانها من ذاكرتي. عانينا من الجوع الشديد وأزمة المياه، كان وضعنا مُحزنا، بكاء الأطفال من الجوع أسمعه بأذنيّ إلى الآن، كنت أشرب مياه مالحة غير صالحة للشرب، والليل كان يكون كثير طويل ومخيف.
تعبت جسدياً، أصبح وجهي شاحب، ولا أقوى على الحركة، فأنا امرأة كبيرة بالعمر وأعانى من عدة أمراض: السكر وضغط الدم العالي، وعندي رجفة بالأعصاب، ولم أكن أستطيع أخذ علاجي وأدويتي؛ لأنني خرجت من منزلي تحت القصف ولم آخذ أي شيء من أدويتي معي، وعندما اشتد القصف علينا في المدرسة جزء من عائلتي ذهب إلى جنوب قطاع غزة.
وكوني لا أستطيع الحركة لمسافات كبيرة لأنني كبيرة في السن، توجهت إلى عيادة السويدي التابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين “الأونروا” في الشاطئ بتاريخ 15/11/2023 الساعة الثالثة عصراً، أنا وابنتي. مكثنا مدة أسبوع وأثناء تواجدي في عيادة السويدي، حاصرتنا قوات الاحتلال والدبابات مع إطلاق عدد كبير من القذائف علينا. نزلنا مسرعين من الدور الخامس إلى الطابق الأرضي وحينها واجهت صعوبة بالغة كونني أتحرك بصعوبة كبيرة.
بعد نزولنا للدور الأرضي أطلق جنود الاحتلال قذائف مدفعية وقنابل غاز وفسفور، حتى أنني فقدت سمعي لفترة مؤقتة من شدة صوت القذائف التي كانت تطلق صوبنا. استشهدت أم وابناؤها الثلاثة بعد استهداف الاحتلال غرفتهم التي كانوا يقيمون فيها بالطابق الخامس من العيادة، وتم دفنهم داخل العيادة. وبقينا ثلاثة أيام بدون أكل، كنا نعانى من الجوع وانقطاع المياه، كنا طوال اليوم نبقى على تمرة أو اثنتين بالكثير أو علبة حلاوة صغيرة طول اليوم، فقد كان جيش الاحتلال يمنع منعا باتاً دخول الأكل للعيادة أو المياه للمكان.
وهدم الاحتلال جميع الحمامات الموجودة في الطابق الأرضي وجرف كل الأشجار الموجودة حول العيادة والتي في الشارع ووضعوها على باب المستشفى وأحرق كل تلك الأشجار.
بتاريخ 18/11/2023، بعد الحصار اقتحم جنود الاحتلال العيادة ونحن في داخلها، وأطلقوا كلابهم نحونا. في تلك اللحظة كلنا رددنا الشهادتين على أروحنا، وكنا في حالة من الخوف الشديد والرعب. وقال الجيش لنا: لازم كلكم تتوجهوا للجنوب. في تلك اللحظات كانت النيران تشتعل في مدخل العيادة (البوابة الرئيسية) وكل النازحين أطفال أو شباب أو نساء أصبحوا يقفزون من فوق النار، وكان الرجال يحملون السيدات كبار السن. قام ابني وشاب آخر لا أعرفه من الموجودين بالمكان بحملي من فوق النيران حتى أستطيع الخروج. وأثناء خروجنا، كان جنود الاحتلال يعتقلون من يريدون بشكل انتقائي، اعتقلوا الكثير من الشباب، علمًا أن عددنا كان حوالي 500 شخص في العيادة. وبعد ذلك أحرقوا كل عيادة السويدي ونفذوا أحزمة نارية والمحلات التجارية التي في منطقة العيادة أشعلوها وأحرقوها. كنا نشاهد ذلك ونحن نغادر.
استمرينا بالمشي على أقدامنا نحو مستشفى الشفاء والرصاص فوق رؤوسنا على الرغم من أننا كنا نحمل رايات بيضاء اللون. ومن كثرة إطلاق الرصاص تجاهنا، لجأنا إلى مطعم في شارع الشفاء. نمنا في المطعم الذي لجأنا إليه وقام الموجودون في المطعم بإطعامنا، حيث كنا نتضور جوعاً وعطشاً فلم نأكل بشكل طبيعي أو نشرب لمدة أسبوعين.
وفى صباح يوم 19/11/2023، أطلق جيش الاحتلال قذيفة علينا واستشهد أربعة اشخاص معنا وتم دفنهم في المطعم الذي كنا فيه وتم إصابة عشرة أطفال في أيديهم وأرجلهم. وصرنا نقول لا إله إلا الله وخرجنا مسرعين، وكنت أمشي مسافة قصيرة وأجلس بينهما العديد من المرات لأنني لم أقوى على الحركة.
في اليوم نفسه 19/11/2023، قررنا أنا وعائلتي الذهاب مباشرة إلى جنوب قطاع غزة. عثرنا على مواصلة إلى دوار الكويت على شارع صلاح الدين، كنت أمشي فترة قصيرة وأجلس من التعب، حتى أنني قلت لعائلتي اتركوني أريد أن أموت أنا مش قادرة أمشي.
طوال رحلة النزوح عبر ما يسمى الممر الآمن قمنا برفع هوياتنا “بطاقاتنا الشخصية”، وأكملنا طريقنا مشياً على الأقدام وصولاً إلى مخيم البريج وسط قطاع غزة، فلم يكن هناك أي وسيلة مواصلات، ولم يكن يسمح جيش الاحتلال إلاّ بالتنقل مشياً على الأقدام، ومن ثم عثرنا على عربة يجرها حمار “كارة” أقلتنا وصولاً إلى دير البلح. نزحنا من غزة ولم يكن معنا أي شيء، نزحنا بملابسنا الصيفية وعرفت بعد ذلك أن جيش الاحتلال جرف بيتي كله، لم يتركوا فيه شيء.
نسخة تجريبية