ماريتسا امبارو فلورنسيوا شاهين، 55 عامًا، من بوليفيا الجنسية، أعمل طبيبة أخصائية نساء وولادة في مستشفى كمال عدوان في شمال غزة.
قدمت إلى قطاع غزة عام ٢٠٠٦، وكنت متزوجة من فلسطيني من شمال قطاع غزة وأنجبت طفلتين هما انشراح الشنطي، 24 عاما، وغدير الشنطي، 19 عاما، وبقيت في قطاع غزة في منطقة مشروع بيت لاهيا شمال غزة، وكنت أقدم خدماتي الطبية في مجال تخصصي النساء والولادة خاصة منذ بداية حرب ٧ اكتوبر من عام ٢٠٢٣.
منذ بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في 7 أكتوبر 2023، أصبحت مقيمة في مستشفى كمال عدوان وأحضرت بناتي معي إلى المستشفى وأخذنا غرفة في قسم النساء كمقيمات حتى هذه اللحظة هربا وخوفا من جحيم الحرب وحفاظا على حياة بناتي وأيضا استمرارا لعملي الذي كان بحاجة إلى تواجدي باستمرار داخل أقسام بالمستشفى لمتابعة حالات المرضى والمصابين جراء الحرب. تعرضنا لحصار شديد داخل مستشفى كمال عدوان من جيش الاحتلال الإسرائيلي واشتد علينا الحصار منذ تاريخ ٢/١٢/٢٠٢٣. وخلال تلك الفترة، كانت الدبابات الإسرائيلية تحاصر الشوارع المؤدية إلى مستشفى كمال عدوان، وكنت خلال تلك الفترة أقدم الرعاية الطبية اللازمة برفقة الكادر الصحي والطبي في المستشفى للنساء الحوامل داخل المستشفى، حيث إن قدرة المستشفى الاستيعابية في الوضع الطبيعي تبلغ ٣٠٠ حالة ولادة شهريا أو ما يزيد عن ذلك كون مستشفى كمال عدوان كان فيه قسم خاص بالولادة، وبالتالي هناك ضغط كبير وهائل على هذا القسم. وكانت هناك بعض حالات الولادة بحاجة لعمليات قيصرية ولم تكن تتوفر لدينا الإمكانات، بما فيها حقن التوليد والتصوير، كل ذلك كان صعبا جدا في ظل حصار المستشفى المطبق من قوات جيش الاحتلال ناهيك عن القصف العشوائي في محيط المستشفى وأيضا طائرات الكواد كابتر التي كانت تطلق النار بشكل عشوائي داخل مبنى وحرم المستشفى باتجاه كل من يحاول الدخول أو الخروج. كان الوضع صعبا جدا وكارثيا، وأيضا النازحين كانت أعدادهم كبيرة داخل المستشفى فقد كانوا ينامون على أسفلت وممرات وأسطح المستشفى فقد كانوا خائفين جدا وهاربين من القصف المدمر معتقدين أن حرم المستشفى سيوفر لهم الحماية من قصف الجيش الإسرائيلي. وايضا لم يكن هناك مياه للشرب وطعام ولا أدوية كافية للمرضى والمصابين داخل المستشفى، فقد كنا نشرب من مياه الأمطار حينما يسقط المطر بسبب عدم وجود مياه للشرب. كان الحصار الاسرائيلي شديدا جدا على المستشفى وفي تلك الأيام كنت أتابع ٩ حالات نساء بحالة ولادة أو طلق ولادة ويحتاجون للمتابعة الطبية المستمرة كون حالتهم الصحية كانت صعبة. ومن ضمن الحالات التي قمت بتوليدها امرأتان كانتا مصابتين وفقدتا حياتهما نتيجة عدم توفر عمليات جراحية داخل المستشفى وتوقفها بسبب نفاد الوقود اللازم لتشغيل الكهرباء والمعدات، ولكن قمت بتوليدهما وهما اموات ولكن الجنين كان بداخلهما على قيد الحياة. وبالفعل قمت بتوليد السيدتين المتوفيتين وإخراج الجنين على قيد الحياة الأول كان ذكرا والثانية أنثى، ولكن الجنينين كانا يحتاجان إلى حضانات طبية ورعاية وأكسجين لم يكن متوفرا داخل المستشفى المحاصر. كل شيء في المستشفى توقف ولكننا حاولنا جاهدين إنقاذ حياة الطفلين واللذان بقيا على قيد الحياة لمدة يومين ومن ثم فارقا الحياة بسبب عدم مقدرتنا على توفير الرعاية الطبية لهما. فكان ألما نفسيا كبيرا في صدورنا نحن كأطباء، كنا عاجزين عن فعل أي شيء. واستمر الحصار العسكري الإسرائيلي لمستشفى كمال عدوان من ٢/١٢/٢٠٢٣ حتى ١٤/١٢/٢٠٢٣، ولم يسمح الاحتلال خلال تلك الفترة بدخول الأدوية اللازمة ولا المعدات الصحية ولا الوقود اللازم لتشغيل قسم الولادة والعمليات بداخلة ولا حتى قسم الحضانات والرعاية الاولية للأطفال حديثي الولادة، كان حصارا شرسا، وكانت طائرات الاحتلال تقصف بوابات المستشفى فيصيبنا رعب كبير وخوف وهلع بسبب قوة الانفجارات الضخمة. وفي ١١/١٢/٢٠٢٣ كانت هناك غرفة داخل قسم النساء في المستشفى وهي بجوار الغرفة التي تقيم فيها بناتي النازحات داخل المستشفى، تفاجأنا بأن قامت طائرة استطلاع إسرائيلية بقصف الغرفة والتي يتواجد بها مصابون ومرضى ونازحون ونساء أطفال، فأسرعت مرعوبة وخائفة تجاه بناتي وأحضرتهن وهربت مسرعة إلى غرفة أخرى للاختباء بعيدا عن القصف المدمر وكان ذلك تقريبا الساعة الواحدة ظهرا ولكن بعد وقت قصير ذهبت لتفقد الغرفة وتفقد هل هناك مصابون بحاجة إلى الإسعاف والرعاية الطبية فوجدت منظرا صعبا جدا، جثث أشلاء مقطعة نتيجة القصف الاسرائيلي لهذه الغرفة، تقريبا حوالي عشرة أشخاص كانوا أطفال ونساء ومرضى داخل المستشفى تقطعت أجسادهم إلى أشلاء ورائحة الدخان والبارود قوية في المكان، فأصابني الرعب والخوف على مصيري ومصير بناتي وشعرت بانهيار وألم كبير ولكني سرعان ما تمالكت أعصابي من أجل بناتي وتهدئتهم فكانوا بحالة رعب شديد. ابنتي انشراح أصابها نزيف بسبب الرعب والخوف وعدم توفر الطعام والمياه الصالحة للشرب. اما ابنتي غدير فتوقفت عندها الدورة الشهرية فلم تعد تأتيها علما أنها كانت منتظمة لديها قبل الحرب والحصار على المستشفى ولكن كل ذلك بسبب الرعب والخوف من المصير المجهول. كل ذلك تسبب بضغوطات كبيرة جدا عليّ أثناء عملي الطبي فتارة أركز مع المريضات الحوامل اللواتي يحتجن إلى رعاية طبية عاجلة وولادة وتارة أركز مع بناتي الخائفات من جحيم الحرب الإسرائيلية المدمرة. كنت أقوم بتوليد النساء بشكل بدائي حيث لا يوجد حقن للتوليد ولا أدوية أو مسكنات من ألم الولادة ولا حتي خيوط جراحة، كل شيء نفد من المستشفى، وكنت أقوم بتوليد النساء بشكل سريع وعاجل فحياتهن كانت بخطر شديد. وكنا نشاهد ألوان الليزر الاحمر المصوب من القناصين الإسرائيليين الذين كانوا يعتلون أسطح المباني المجاورة للمستشفى، فكان منظرا مرعبا، كل من يتحرك يتم قنصه على الفور ويموت أمام الجميع ولا نستطيع فعل شيء لإنقاذ حياته. عدة حالات شاهدتها تموت دون قدرتنا على فعل شيء للأسف. وأيضا طائرات الكواد كابتر كانت فوق المستشفى على مدار الساعة وتطلق النار عشوائيا على كل من يتحرك، فقد كان تحركنا بين ممرات المستشفى أشبه بمعجزة مستحيلة خوفا من إطلاق النار والموت المحقق.
في ١٤/١٢/٢٠٢٣، اقتحمت قوات الاحتلال الاسرائيلي حرم مستشفى كمال عدوان وكانت قوات راجلة في المكان وطلبت منا قوات الاحتلال عبر مكبرات الصوت الخروج والاستسلام رافعين أيدينا إلى الأعلى مصطحبين بطاقات الهوية. ولكن عند دخول قوات الاحتلال إلى داخل حرم المستشفى كانت عندي حالة ولادة مستعجلة بحاجة إلى توليد خلال وقت سريع لإنقاذ حياتها وحياة الجنين وحفاظا على حياتها قمت بالخروج أنا وبناتي من المستشفى أمام قوات الاحتلال وبرفقتي المريضة الحامل التي تحتاج إلى ولادة وكان اسمها ميساء حيث حفظت اسمها وكنت أقول لها لا تخافي يا ميساء واهدئي، فقد كان الخوف يسيطر عليها بشكل كبير، وكان اطلاق النار كثيف جدا داخل المستشفى وأصوات الانْفجارات في كل مكان. ومن ثم خرجنا من المستشفى مشياً على الاقدام برفقة بناتي والمريضة وخرجنا باتجاه مدرسة الوكالة في معسكر جباليا حيث لا يوجد معدات طبية ولا سرير طبي، وقمنا بتوليدها بشكل بدائي جدا دون رعاية صحية مناسبة وبقيت على قيد الحياة هي وجنينها. هذه جزء من المعاناة القاسية جدا التي عشناها خلال الحرب المستمرة حتى هذه اللحظة.
نسخة تجريبية