راوية محمد زيد الكفارنة، 23 عامًا، سكان بيت حانون شمال غزة، ونازحة في حي الرمال بغزة
تاريخ الإفادة: 28 يناير 2025
ليلة اليوم التالي لبدء الحرب، بعد منتصف ليلة 8 أكتوبر 2023، بدأت تصل إلى هواتفنا وهواتف الجيران تسجيلات صوتية تأمر بإخلاء بلدة بيت حانون على الفور. خرجتُ مع عائلتي من منزلنا الذي كان على حدود البلدة، جميعاً مع جيراننا وأقاربنا وتوجّهنا إلى معسكر جباليا. وصلنا مدرسة بنات جباليا مقابل بركة أبو راشد. واستيقظنا في الصباح على خبر أن منزلنا قد قُصف وأنّ الجيران الذين لم يخرجوا من منازلهم قد أضحت جثثهم رفاتاً بين ركام منازلهم.
مكثنا في مدرسة بنات جباليا مدة طويلة حتى الاجتياح الأول لمعسكر جباليا في نوفمبر 2023، تحاصرنا في المدرسة مع النازحين هناك ولم نضطر للنزوح. أما في الاجتياح الثاني الذي حدث في مايو 2024، اضطررنا للنزوح لغرب محافظة الشمال وذهبنا لبيت لاهيا ولم نتوجه لمحافظة غزة حيث أنّ المواصلات صعبة جداً ونحن عائلة كبيرة ولدي إخوة أطفال كثر، فذهبنا عند أصدقائنا ومكثنا عندهم 13 يوم. ثم عدنا لمدرسة بنات جباليا التي كانت قد تضررت وانهدمت أجزاء منها أدت لفتحها على المدراس المجاورة لها. بقينا هناك حتى الاجتياح الثالث لمحافظة الشمال.
بتاريخ 5 أكتوبر 2024، بدأت تصلنا تسجيلات صوتية ورسائل تفيد بإخلاء جميع بلدات محافظة الشمال باتجاه غرب مدينة غزة. لم نبرح مكاننا ظنّاً منّا أن الأمر قد يمرّ بسلام كما الاجتياح الأول، ولكن لا أحد يعلم ما يحمله الغدّ.
كانت أيام الاجتياح الأولى متوترة وعصيبة. نستيقظ وننام على سؤال: أين وصلت الدبابات في تقدّمها؟ وما الذي يحدث وما هو المخطط؟ وهل بالفعل هذه هي خطة الجنرالات؟ كنّا نسمع عن شهداء وإصابات في كل ساعة، وكانت الحركة قليلة خارج المدرسة، لم نكن نتحرك إلا للضرورة بسبب كثافة انتشار طائرات الكواد كابتر وإلقائها المستمرّ لقنابل الصوت حتى في ممرات المدرسة، وكنتُ كما دوماً أسعى في خدمة أهلي ومساعدة أقاربي والنازحين معنا في المدرسة.
يوم 14 أكتوبر 2024، حوالي الساعة العاشرة صباحاً، كنتُ وأمي شيرين الكفارنة، 44 عاماً، وأختي حليمة، 20 عاماً، وأخي زيد، 14 عاماً، ومجموعة من النازحين الأقارب مجتمعين حول غاطس المياه الذي يقع على باب المدرسة، نعبئ المياه، الأمر الذي كنّا نفعله مرة كل ثلاثة أيام لشحّ المياه وخطورة الوضع.
لم يكن صباح ذلك اليوم ينبئ بأي حدث خطير قادم، ولكن خلافاً لما بدا عليه الأمر تفاجأنا بثلاث قذائف مدفعية سقطت على ساحة المدرسة، وبعدها بدأت تتوالى على مجمّع المدارس. سقطت إحدى الثلاث قذائف على كومة من الرمال بجوار الغاطس الذي كنّا متجمعين حوله.
أُصيبت والدتي في رأسها ودخلت شظايا في فكّها، وكانت تركض باتجاه الفصول الدراسية، قبل أن تلتفت لتجد أنني وأختي وأخي قد سقطنا أرضاً وهبّ الجميع لنجدتنا. وجدتُّ نفسي متخذةً وضعية السجود وملقاةً على الأرض. لمّا فتحت عيوني وأدركت أننا أُصبنا، وجدتُ ذراعي الأيمن متفتت اللحم وينزف بشدة، ظننتُ أنّني فقدتُ يدي. بمساعدة ذراعي الأيسر أسندتُ ذراعي الأيمن نحو صدري. رأيت أختي حليمة وقد حلّ بكلتا رجليها ما حلّ بذراعي، كانت تبدو وكأنّها قد فقدتهما. حاولتُ أن أساندها وأعينها على القيام لكنّني لم أستطيع لأنّني تألمت من صفحتي اليمنى (البطن من الجهة الجانبية) فاكتشفت أنني أنزف أيضاً منها، فضغطتُ على نفسي حتى استطعتُ أن أداريها بزاوية. ثم جاءت والدتي وسحبت أختي حليمة باتجاه الزاوية التي كنتُ فيها لخطورة الحركة واستحالة الصعود إلى الفصل الذي نعيش فيه على الطابق الثالث.
بعد 45 دقيقة من العذاب والألم والنزيف المستمرّ، هدأ القصف قليلاً، فهمّ شباب المدرسة لنجدتنا. نقلوا أختي حليمة على كرسي متحرّك للنقطة الطبية في المدرسة المجاورة حيث عجز الفريق المتطوع هناك عن التعامل معها، فأكمل الشباب الذي أخذوها طريقهم إلى مستشفى كمال عدوان وأرسلوا لنجدتي أنا وباقي الجرحى سيارة إسعاف. في هذه الأثناء، ربط أحد الشباب المتطوعين بالنقطة الطبية رباط حول ذراعي لكي يوقف النزيف واقترحوا نقلي على بطانية لكنني رفضتُ لأنني مصابة ببطني وخشيت أن يؤثر ذلك على إصابتي التي لم أكتشفها بعد. وصلت الإسعاف، نقلتني أنا وأمي المصابة وأبي الذي رافقنا وخرجت بنا من المكان. لم يكن بإمكان رجال الإسعاف أن ينقلوا الشهداء في ذلك الوقت، فاكتفوا بنقل الجرحى. لحقت بالسيارة التي نقلتنا سيارة إسعاف أخرى ولكن تم استهدافها فلم تخرج من المكان.
وصلنا مستشفى العودة في تل الزعتر حوالي الساعة 11:30 صباحاً. في قسم الاستقبال، لفوا ذراعي بشاش، وركبوا لي ثلاث وحدات دم، وقصّوا لي ملابسي وأدخلوني عملية استكشاف للشظايا في بطني لتعذّر التصوير الإشعاعي. بعد دقائق قرروا إدخالي للعمليات. مرّت تلك الدقائق القليلة عليّ بجنون وعصبية، لأنّ الأطباء أرادوا بتر يدي لمّا رأوا حالتها إلا أنني عاندتُ ورفضتُ ذلك مطلقاً. “لا زال في ذراعي نبض، والله لو بُتر لأقلب المستشفى على رؤوسكم،” قلت لهم ذلك حتى طمأنني الطبيب الذي سيجري لي العملية وهدّأني ووعدني ألا يبترها. خُدرتُ وأُدخلتُ العمليات لاستخراج شظيتين استقرّتا في ظهري لجانب العمود الفقري، والأخرى ببطني مزّقت الكبد وسببت وجروحاً بالأمعاء، تم السيطرة على كل ذلك بالعملية ومنع النزيف الداخلي. إلا أن ذراعي كان بحاجة إلى تعامل خاص من طبيب عظام، الأمر الذي تعذّر في مستشفى العودة. حاول الطاقم الطبي هناك تنسيق خروجي للمستشفى المعمداني لأتلقى رعاية أفضل، ولكنّني أُخبرت أنّ الجانب الإسرائيلي قد رفض ذلك. كذلك الأمر بالنسبة لشقيقتي حليمة، كانت حالتها أصعب من أن يتعامل معها الأطباء في مستشفى كمال عدوان، فتم تحويلها لمستشفى العودة حيث أتواجد، فجاءت هي وعمّتي وعاد والداي إلى المدرسة، وكان ذلك آخر يوم رأيت به والداي لفترة طويلة مرّت فيما بعد.
بعد مرور 4 أيام، لم تكن حالتي الصحية قد استقرّت، وكنتُ لا زلتُ أعاني من آلام شديدة وأحتاج إلى تنظيف وتغيير للجروح والعمليات، إلا أن الوضع الميداني آنذاك كان شديد الصعوبة، وكانت حالات الجرحى الخطيرة التي تصل المستشفى تدفعني إلى ترك المجال لهم، أنا التي كانت إصابتي صعبة كنتُ أؤثر الجرحى الآخرين من هول ما كان يصيبهم.
كنتُ والطبيب الذي أخرجني من المستشفى في حالة إجبار على ذلك ولكن لم يكن لدينا خيار آخر. خرجتُ عصراً مع عمّتي ظانّين أنّنا يمكننا العودة للمدرسة والالتقاء بالأهل. خرجنا وتركنا أختي في المستشفى ونقلنا الإسعاف حتى منطقة اليمن السعيد، وهي منطقة تبعد ما يقارب 500 متر عن المدرسة التي كنّا نسكن بها. لم يستطع الإسعاف الاقتراب أكثر فنزلنا لنمشي، كنتُ متلحفة بغطاء ثقيل وكانت تبدو على مشيتي وعمّتي أنها مشية مصابٌ ومرافقه. كلّما كنّا نقترب كانت طائرات الكواد كابتر تحلق بشكل أكثف، لنكتشف أنّها أصلاً كانت تطلق النار وأنّها أصلاً فتحت رشاشها على الإسعاف الذي نقلنا، ولم يعيدنا للمستشفى لأنه سيأخذ مصابين من المنطقة التي تراكم فيها المصابون نتيجة الحصار عليها لبلدة بيت لاهيا. علمنا وقتها أننا لن نستطيع الوصول لأهلنا، حاولنا أن نكمل سيرنا ونعود حيث كنّا إلا أن طلقات الكواد كابتر كانت تنزل علينا كالمطر حتى أنقذتنا سيارة إسعاف واستطاعت نقلنا لمستشفى كمال عدوان.
في مستشفى كمال عدوان رفض الطاقم هناك استقبالي، بسبب الشح الشديد في المستلزمات الطبية والخطر المحدق بالمستشفى حيث كانت قوّات الاحتلال الإسرائيلية تتقدّم في طريقها للوصول إليه. ولكنّ حالتي الصحية السيئة زادت إصراري وعمّتي على أن نبيت في المستشفى. لم أجد سريراً فاستلقيت على نقّالة وُضعت لي في أرضية القسم. رُكّب لي محلول وطُلب لي وحدات دم بعدما وصلت نسبة دمّي إلى 6. لم يتواجد في المستشفى أكثر من محاليل وبضعة أدوية، الأمر الذي أجبر الطاقم هناك على تحويلي للمستشفى الأندونيسي في تل الزعتر ليتسنّى لي الحصول ولو على القليل من الرعاية الطبية.
وصلت المستشفى الاندونيسي الساعة التاسعة مساءً وحصلت على جرعة من المضاد الحيوي، كما كنتُ بحاجة لنقل وحدات دم ولكنّ لانعدامها في المستشفى لم أحصل عليها. بعد 5 ساعات وبالتحديد الساعة الثانية صباحاً اقتحم الجيش المستشفى وأطبقوا الحصار حوله واشتد القصف حول المستشفى وعلى مراكز الإيواء في منطقة الشيخ زايد. كنّا قادرين على رؤية حرق الجيش لمدارس الإيواء بإلقائه لمختلف القنابل عليها. بجوار المستشفى يقع ما يُطلق عليه بجبل تل الزعتر، وهو تلّة صغيرة كثيفة الرمال. كانت المدفعية لا تتوقف البتّة عن استهدافها وقصفها. الأمر الذي أجبر جميع من كان في المستشفى على التجمّع في مكان واحد خشية القذائف والشظايا المتطايرة، فكانت ممرات الطابق الأول من المستشفى هي المكان الذي احتمينا به. كان في المستشفى ما يقارب تسعين شخصاً ما بين مرضى وطاقم طبي قوامُه طبيبان، تسع ممرضات، وحكيم.
في صباح اليوم التالي، وبعد حصار شديد وليلة صعبة، تواصل الجيش مع أحد الأطباء وطلب منه أن يكتب أسماء جميع من كان في المستشفى في ورقة ويرسلها مع شخص يحمل راية بيضاء ليسلّمها للجنود في الدبابة التي كانت تغلق باب المستشفى. علمنا من المندوب الذي أرسله الطبيب أن الجنود قد سألوه كم سيارة إسعاف نحتاج ليتم إجلاؤنا من المكان وأنه أجاب أننا بحاجة لثلاثة سيارات، الأمر الذي لم يكن دقيقاً. طلب الجيش من المندوب أن يوصل لنا تعليمات أن نبقى في مكان واحد وهو الطابق الأول وأنه يُمنع علينا الخروج للخارج أو الصعود للطوابق العليا أو السفلية وعدم الاقتراب مطلقاً من النوافذ وأن ننتظر حتى يردّ علينا الجنود بأمر إجلائنا. طال انتظارنا ولكن دون أي خبر.
مرّت علينا اثنا عشر يوماً أشبه بالجحيم. لم يكن لدينا ما يكفي من طعام ولا شراب ولا مياه، ولكنّ الأصعب كان انعدام العلاجات والمعدات الطبية اللازمة. كان الخروج لمخزن الأدوية لإحضار ما تبقى من غيارات ولفائف الشاش مستحيلاً. الأمر الذي سببّ التهاباً في الجرح الذي تركته العملية في يدي. في الأيام الأولى كنت أجري تغيير على الجرح من بعض الشاش الذي كنتُ قد احتفظتُ به من قبل ولكنّ لمّا نفد منّي أصبحتُ أنا وكثير من الجرحى هناك نلجأ لاستخدام الفوط الصحية النسائية للتغيير على جروحنا. أذكرُ أن الممرض لمّا كان يعصّر لي السوائل التي كانت تتجمع على الالتهاب كان الألم الذي يسببه يكاد يفتك بي ولكنني حتى لم أكن قادرة على الصراخ أو التألم بصوتٍ، كنتُ أخشى من أن ينتبه عليّ الرجال والشباب المتواجدين في المكان الذي بسبب الخطر الذي أحدق به، فقدَ كل ما يمكن أن يوفره من خصوصية للمريض.
بعد مرور الاثني عشر يوماً لاحظنا انسحاباً بسيطاً للجيش فخرج بعض العاملين بالمستشفى لتقصّي الوضع وعادوا مُحمّلين ببعض الأطعمة التي تركها الجنود من خلفهم. القليل من مياه الشرب والمعلّبات. فرحنا بفضلة طعامهم وكأن الحرب قد انتهت، تقاسمناه بيننا وأذكر أنني حصلتُ على تفاحة وعبوّة من الحليب المبستر، شعرتُ بسعادة كبيرة لمّا تناولتهم.
لم يكن الوضع الميداني مطمئن ولم نستطع التحرّك أبعد من ساحة المستشفى، وما لبث الحال أكثر من يوم حتى عادت الدبابات من جديد وحاصرت المكان.
علمنا أن الجيش بدأ بإجلاء سكان بلدة بيت لاهيا قسراً وأنهم سيمرّون بالمستشفى في طريقهم نحو حاجز الإدارة المدنية. في ذلك اليوم لم يتوقف تهديد الجيش للمستشفى بالامتناع عن استقبال مئات الجرحى الذين كانوا بحاجة ولو لقليل من الرعاية، بل امتد الأمر إلى أن طلب منّا إخلاء المستشفى والانضمام إلى قوافل النازحين قسراً والذهاب معهم للحاجز ومغادرة الشمال.
كانت حالتي الصحية تزداد سوءاً بلا طعام أو شراب أو علاج، وكانت عمتي مريضة السكّري قد بدأت تفقد قدرتها على التحمّل فخرجنا وكثير ممن كانوا معنا في المستشفى والتحقنا بقافلة النازحين، حوالي الساعة الثامنة صباحاً.
كانت الدبابات تحيط بنا من كلا الجانبين وطائرات الاستطلاع تحوم كالذباب فوق رؤوسنا. كان عدد المشاة يقارب خمسين ألف نازح، كانت الطريق صعبة وقاسية وكُنّا نرى الجثث المتحللة والتي يصعب التعرّف على أصحابها محيطة بنا. وصلنا حاجز الإدارة المدنية على طريق صلاح الدين وانتظرنا حتى يأتي دورنا، بقينا لثلاث ساعات تحت الشمس الحارقة نتمنى ولو شربة ماء. ثم جاء دورنا، مررنا عبر الحاجز، صوّرتنا الكاميرا ثم خرجنا. لم أكن أعلم أين عائلتي ولم أكن قادرة على التواصل مع أيٍ منهم. نقلتني وعمتي عربة يجرّها حمار نحو مستشفى الشفاء، كنتُ في حالة يُرثى لها بعد أن نال منّي التعب من مشقّة المشي. وكان جرحي في صفحتي ينزف ويسبب لي ألماً. في طريقنا للمستشفى لقط هاتفي الخط واتصلت بأختي التي أخبرتني أن العائلة قد نزحت في مدارس الإيواء في حي الرمال قرابة مستشفى أصدقاء المريض، فأخذتنا العربة نحو المستشفى والتقيت هناك بأقارب سارعوا لإحضار والداي واجتمعت بعائلتي من جديد.
أعاني حالياً من حالة يدي. ذراعي ينقصه عظام وعضلة، ولا أستطيع أن أحصل على رعاية طبية كافية تحسّن من حالة ذراعي ولا في أي مستشفى. لم تعد ذراعي كما كانت ولم تعد حياتي كلها كما كانت.