مارس 6, 2025
رهام اشتيوي.. حكاية قلب مثقل بالفقد والألم
مشاركة
رهام اشتيوي.. حكاية قلب مثقل بالفقد والألم

في زاوية غرفة صغيرة يملؤها الصمت، تجلس المواطنة الفلسطينية رهام سعيد اشتيوي على كرسيها المتحرك، تحتضن طفلتها مريم ذات التسع سنوات، التي أصبحت كل ما تبقى لها في هذا العالم. عيناها الغارقتان بالدموع تحكيان وجعًا لا تسعه الكلمات، وقلبها المثقل بالحزن ينبض بألم الفقد والعجز.

بداية المأساة

قبل عام واحد، كانت رهام، 30 عاما، امرأة عادية، تعيش مع زوجها عبد الله، 35 عامًا، وطفليهما مريم، 9 أعوام، وأنسن 6 أعوام، في منزل متواضع بحي عسقولة في غزة. كان عبد الله يملك سوبرماركت أسفل البناية، ويوفر لعائلته حياة كريمة، رغم كل الصعوبات. لكن صباح يوم السابع من أكتوبر 2023، تغيّر كل شيء.

مع دوي الانفجارات المتتالية، أدركت رهام أن الحرب بدأت، طلبت من أطفالها خلع زيهم المدرسي وبحثت عن الأخبار، ليصلها بعد ساعات أن المواجهات اشتعلت على الحدود. تتابعت الأيام والحرب تزداد ضراوة، واشتدت الغارات حتى اضطروا إلى النزوح نحو مدارس الإيواء ثم إلى منازل الأقارب، بحثًا عن مكان أكثر أمنًا.

فقدٌ لا ينتهي

لكن الأمن كان وهمًا، كما تروي لباحثة المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان. في يناير 2024، وصلها خبر استشهاد شقيقها محمد، 24 عامًا، الذي خرج فقط ليحضر الطحين، فقُتل بصاروخ غادر أطلقته طائرات الاحتلال.

وسط الحزن والخوف، في شهر مايو2024 ، وبعدما ألقت طائرات الاحتلال منشورات بالإخلاء على منطقة سكنها، طلبت رهام من زوجها أن تلتحق بوالديها النازحين في جامعة الأقصى، في مدينة غزة، حيث يعمل والدها حارسًا هناك. لم تكن تعلم أن القدر يخبئ لها مأساة أكبر.

في فجر يوم 8 يوليو 2024، استيقظ الجميع على صوت جلبة عند باب الجامعة. ظن والدها، سعيد حسين خليل اشتيوي، 55 عاما، أن نازحين يحاولون الدخول، فتوجه لفتح الباب، ليجد جنود الاحتلال أمامه. دون إنذار، أطلقوا عليه الرصاص وألقوا قنبلة على والدتها ابتسام رفيق حسين اشتيوي، 52 عاما. في لحظات، انهار عالم رهام مجددًا، والدها استُشهد على الفور، ووالدتها أصيبت إصابة بالغة. وسط الخوف والدموع، خرجت رهام وإخوتها رافعين رايات بيضاء، يحاولون إنقاذ والدتهم الجريحة التي تبين أن إصابتها أفقدتها بصرها.

أخذت سيارة الإسعاف والدتها إلى المستشفى، بينما عاد شقيقها أحمد، 21 عاما، بعد يومين إلى الجامعة لدفن والده، ليكتشف هناك جثة شقيقهم الأكبر حسين، 35 عاما، الذي حاول دفن والده بعدما نهشت جسده الكلاب، فقُتل هو الآخر بدم بارد بقصف من طائرة مسيّرة. لم يكن المشهد سوى قطعة أخرى من لوحة الألم التي رسمتها الحرب على حياة رهام.

الضربة القاضية

حاولت رهام التعايش مع أحزانها، وعادت إلى منزلها مع زوجها وأطفالها، لكن الاحتلال لم يكتفِ بما فعله بها. ففي ليلة 7 نوفمبر 2024، وبينما كانت الأسرة نائمة، أطلقت طائرات الاحتلال صاروخا على المنزل. شعرت رهام بوجع لا يحتمل في جسدها، وسمعت ابنتها مريم تناديها قبل أن يغيب عنها الوعي. استيقظت لاحقًا في المستشفى بين الحياة والموت، محروقة، ساقها مهشّمة، وظهرها مصاب بانحناء خطير.

لكن الفاجعة الأكبر لم تكن في إصابتها، بل في الخبر الذي أخفته عنها والدة زوجها في البداية: زوجها عبد الله وطفلها أنس استُشهدا تحت الركام. ضمّت جسد طفلها الصغير بين ذراعيها، بكت بحرقة، وقبّلته للمرة الأخيرة قبل أن يُنتزع منها قسرًا. في لحظة واحدة، تحطم كل ما تبقى من حياتها، ولم يبقَ لها سوى طفلتها الصغيرة، التي فقدت والدها وشقيقها وعاشت لحظات الرعب وهي تحاول إيقاظ أمها الجريحة.

حياة على هامش الألم

بعد تسعة أيام من العلاج، خرجت رهام من المستشفى بجسد مثقل بالإصابات وقلب مزقه الفقد. لم يعد لها بيت يؤويها، فانتقلت مع مريم إلى منزل أهلها المدمر، حيث تم إصلاح غرفة صغيرة لها. تحاول التعايش مع الإعاقة، تتنقل بكرسي متحرك، ويعتني بها أقاربها، بينما تنتظر تحويلها للعلاج في الخارج.

رهام ليست مجرد رقم في إحصائيات الضحايا، بل قصة من آلاف القصص التي رسمتها حرب الإبادة الإسرائيلية على وجوه الأمهات الثكالى. بدموعها، بحزنها، بصبرها، تروي مأساة شعب بأكمله، شعب يُقتل ببطء، وتُسلب منه الحياة، لكنه لا يزال يتمسك بالأمل رغم كل شيء.