حررت الإفادة بتاريخ 15/1/2025
فاطمة محمد دياب عريف، 43 عاماً، متزوجة من ماهر جميل محمد عريف، ام لأربع أبناء وهم وسيم، 22 عاماً، مهدي، 20 عاماً، سجى، 19 عاماً، وجنى، 13 عاماً، سكان غزة الشجاعية، وحاليا نازحة في مدرسة دير البلح الإعدادية.
الحرب بكل تفاصيلها مؤلمة وقاسية. عشت المجاعة في شمال قطاع غزة لمدة ثلاثة أشهر، ولكن أصعب اللحظات التي مررت بها كانت عندما نزحت مع عائلتي إلى حي الدرج في مدينة غزة للإقامة عند أحد أقاربنا. بقينا هناك شهرين، إلى أن جاء تاريخ 7 ديسمبر 2023، حين اقتحم جيش الاحتلال الإسرائيلي الحي ليلاً. اضطررنا للخروج صباحًا وسط نيران القذائف، نركض مذعورين دون أن نتمكن من حمل أي شيء من أغراضنا.
كانت الآليات العسكرية والدبابات تقتحم المنطقة، والطائرات تقصف من كل جانب. كنت أركض في الشارع مع أبنائي، وفي تلك اللحظة افترقت عن زوجي. اضطررت إلى سلوك شارع مع أبنائي، بينما من دخلوا الشارع الآخر تعرضوا للقصف. عندما وصلنا إلى باب المدرسة، سقط صاروخ بالقرب من البوابة، مما تسبب في سقوط ما كان يحمله ابني من يده. صرخت عليه قائلة: “اتركه وتعال!”. رأيت من أصابهم الصاروخ وقد تحولوا إلى أشلاء أمام عيني. بعد ذلك وصلني صوت جنود الاحتلال عبر مكبرات الصوت يأمروننا بالتوجه إلى منطقة غرب غزة. عندما وصلنا إلى منطقة الجندي المجهول، كانت تبدو كمدينة أشباح؛ منطقة مهجورة تمامًا، لا حياة فيها.
كنا نشبه مشهد التغريبة الفلسطينية، أناس ينزحون وسط الدمار والخراب. الطريق كان مليئًا بأشلاء الشهداء الممزقة، ونحن نركض، لا نريد سوى النجاة بأرواحنا. من شدة الخوف والارتباك، فقدت زوجي في خضم الفوضى. كنت مع ابنيَّ وابنتي، بينما كان زوجي مع ابنتنا الثانية. قضيت اليوم بأكمله، منذ الصباح وحتى أذان المغرب، أركض في الشوارع بحثًا عنهم. وعندما التقينا أخيرًا، أخذنا إلى مدرسة مهجورة خلف مبنى الجوازات. كانت المدرسة شبه مدمرة، وآثار من سبقونا لا تزال منتشرة في المكان؛ أثاث متناثر وأغراض شخصية مبعثرة.
تلك الليلة كانت من أكثر الليالي رعبًا في حياتي. كان المكان مظلمًا ومخيفًا للغاية، وكل من مر علينا حذرنا من أن جيش الاحتلال يأتي إلى المدرسة ليلاً. لكننا كنا مرهقين للغاية ولم يكن لدينا أي مكان آخر نذهب إليه، فاضطررنا للنوم هناك. اخترنا أحد الصفوف للنوم، رغم ما كان يحيط بنا من مشاهد وأجواء مرعبة. كانت أغراض الناس المتروكة ملوثة ومتعفنة، ورائحة الفراش لا تطاق. رأيت كيف عاث جيش الاحتلال الإسرائيلي فسادًا في المكان، فخربوا ملابس النازحين قبلنا وتلفوا أغراضهم، حتى أنهم تبولوا فوق الأغطية والملابس.
ورغم كل ذلك، لم أستطع مقاومة التعب. نمت على ما توفر من أغطية، رغم الرائحة الكريهة. وعندما استيقظنا، شعرت بعطش شديد. خرجت أبحث عن الماء في أرجاء المدرسة، فجمعت بقايا أغراض خلفها من سبقونا علّها تسد رمقنا. لكن عندما خرجت إلى الشارع، بدا المكان كأنه مشهد من فيلم رعب: منطقة مهجورة تمامًا، خالية من أي حياة.
كانت منطقة الرمال خالية تمامًا، وكنت أجوب المكان أبحث عن أي أثر للناس، أصرخ: “يا ناس، في حد هون؟“ لكن كل ما كنت أسمعه هو صدى صوتي يعود إليّ دون أي إجابة. بدأت أدخل المنازل المدمرة أبحث عن أي شيء يمكن أن يساعدنا. كانت المنازل إما مدمرة جزئيًا بفعل قذائف الدبابات، أو مدمرة بالكامل.
بقينا في المدرسة لمدة أسبوع. كان كل من يمر علينا من النازحين وينتبه لوجودنا ينضم إلينا في المدرسة. خلال هذا الأسبوع، بدأت المنطقة تعود تدريجيًا إلى الحياة؛ سكن النازحون المنازل المحيطة بالمدرسة، وامتلأت جامعة الأقصى والجامعة الإسلامية بالنازحين.
بقينا في هذه المنطقة لمدة شهر كامل. في البداية، كنت أنام على الأرض لمدة أسبوع كامل وسط اشتداد البرد. لم يكن بمقدورنا العودة إلى حي الشجاعية لأخذ أغراضنا، فاضطررنا إلى جمع بعض الأغطية من بين أنقاض المنازل المدمرة. كنا نعيش على الحد الأدنى، نحاول التكيف مع الوضع، رغم قسوة الظروف وبرودة الطقس التي زادت من معاناتنا.
في تلك الفترة، سمعنا أن جيش الاحتلال كان يقتحم المدارس ويُجبر النازحين على التوجه جنوبًا. لكنني اعتقدت أن هذا لن يحدث في منطقتنا، لأن الجيش هو من أمرنا بالبقاء غربًا، ولذلك لم نغادر المدرسة.
في ليلة السابع من فبراير 2024، تغير كل شيء. دخل جيش الاحتلال المنطقة وأحاط بالمدرسة. بدأوا بهدم سورها منذ الساعة الثالثة فجرًا وحتى أذان الظهر. عشنا ساعات طويلة من الخوف والترقب، بينما كانت طائرات الكواد كابتر تحلق فوقنا. فجأة، استهدفت مدفعية الاحتلال الطابق العلوي من المدرسة. كانت الحجارة تتطاير من كل اتجاه، لكننا بقينا في الصفوف، نترقب مصيرنا المجهول.
بعد ذلك، نادى جيش الاحتلال عبر مكبرات الصوت، مطالبًا النساء وكل من هم أقل من 14 عامًا بالخروج من المدرسة، بينما أُمر الرجال بخلع ملابسهم والجلوس في ساحة المدرسة. كنا نعيش لحظات من الذل والخوف. رأيت شابًا يقف في البرد، يرتجف بعد أن أجبروه على خلع ملابسه، يوزع علينا خرائط توضح طريق المغادرة جنوبًا.
تركت خلفي زوجي وابني مهدي، الذي كان يعاني من السرطان وخضع لعدة عمليات لاستئصال الورم. احتجزوه معهم، بينما كان ابني الآخر، لحسن الحظ، خارج المدرسة مع عمته. لكن كل رجال عائلتنا كانوا هناك، ملقون على الأرض في البرد القارس، دون ملابس. انطلقنا، أنا وبناتي، في رحلة مريرة نحو الجنوب، نبكي طوال الطريق. الجو كان شديد البرودة، والخوف يسيطر علينا. مشينا من الرمال إلى النصيرات على الأقدام، حاملين معنا وجع الفراق والخوف من المجهول.
كان الطريق الذي عبرناه أشبه بأفلام الرعب. المنطقة بدت وكأنها خارج الزمن، معدومة البنية التحتية، مليئة بالدمار والموت. خلف المدرسة، كان الصرف الصحي عبارة عن برك قام جيش الاحتلال بتجريفها ليجعلنا نسير فيها. المياه القذرة وصلت إلى منتصف أرجلنا، وحتى منتصف أجساد أطفالنا. بقينا نسير في هذا الطريق حتى وصلنا إلى الطريق العام، حيث كانت العمارة المقابلة لنا تتعرض للقصف، مع أصوات صراخ الأطفال الذين انهارت أعصابهم من الخوف، بينما طائرات الكواد كابتر تحلق فوق رؤوسنا باستمرار، والدبابات تسير على الجانبين. المكان كان أشبه بكابوس حيّ.
كان يُمنع علينا الالتفات أو النظر إلى أي مكان سوى الأرض التي تحت أقدامنا، خوفًا من التعثر. وعندما وصلنا إلى الطريق العام، كان الإسفلت قد جُرف بالكامل، واختلطت مياه الأمطار مع مياه الصرف الصحي، مما حول الطريق إلى بحر من الوحل. لم يكن أمامنا سوى السير وسط هذه الكارثة، بينما الجنود يراقبوننا بلا مبالاة.
أمرونا بالسير على شاطئ البحر، وفي تلك اللحظة، كانت زوارق الاحتلال تطلق النار والقذائف، بينما الطائرات تحوم فوقنا والدبابات تراقبنا من الشارع. كانت الأصوات مرعبة، وكأننا في جحيم لا نهاية له. عندما اقتربنا من الحاجز، أُجبرنا على السير عبر حفرة ضخمة ممتلئة بالطين. النساء والأطفال غرقوا في الوحل حتى رؤوسهم، والأمهات كن يحاولن جاهدات سحب أطفالهن بشق الأنفس. الكثيرون ألقوا أغراضهم في محاولة للبقاء على قيد الحياة. الجنود كانوا يصرخون علينا بلهجة قاسية: “يلا بسرعة!”، ويضحكون ويسجلون ما يحدث بالكاميرات. رأيت النساء يساعدن بعضهن، يحاولن إنقاذ الأطفال الذين غرقوا في الطين، بينما كانت الأحذية تُفقد في الوحل، والنساء يقدمن دعمًا لبعضهن البعض بشجاعة وسط هذا الكابوس. حاولت السير بحذر، وأنا أمسك بيد بناتي، وأخبرتهن باتباع خطواتي بدقة لتجنب السقوط.
كان المشهد يفوق الوصف. أجساد الشهداء كانت تملأ الشوارع، بعضها متحلل، وبعضها تأكل منه الكلاب. رأيت امرأة ملقاة على الأرض، ظننتها على قيد الحياة، فصرت أناديها: “يا أختي، بدك مساعدة؟”، لكنها لم تجب. أدركت ابنتي أن المرأة قد فارقت الحياة، وأن يديها كانت متحللة. الطريق كان عذابًا لا يمكن وصفه، مليئًا بالخوف والإهانة، يحمل ذكريات محفورة في أعماق الروح.
كنا نبكي من الخوف، والقلق ينهش قلوبنا، حتى تساءلنا: هل ستأكلنا الكلاب ونحن أحياء؟ بدأت السماء تمطر علينا، وواصلنا السير رغم البرد والخوف. وصلنا إلى منطقة النصيرات عند أذان العشاء، وأنا لم أكن قد توجهت إلى الجنوب من قبل. كنا تائهين، لا نعرف أين نحن، ولا يوجد لدينا أقارب نتوجه إليهم. الخرائط التي أعطونا إياها لم تكن واضحة؛ مجرد أسهم نتبعها، لكنها لم تقلل من شعورنا بالضياع.
الأطفال كانوا عراة وحفاة، والنساء كذلك، وجميعنا غارقون في الطين. لم نكن نعلم أين هي “دير البلح” التي طلبوا منا أن نتوجه إليها. الشوارع كانت خالية، ولم يكن هناك أحد ليدلنا على الطريق. كنا نبكي جميعًا، لا نعرف أين نذهب أو ماذا نفعل، حتى ظهر لنا شاب فجأة. عندما شاهد حالتنا، طلب منا أن نتبعه. رغم أننا لم نكن نعلم من هو أو إلى أين يأخذنا، قررنا متابعته. لكن الخوف جعلني أسأله: “إنت مين؟ وين ماخدنا؟ إنت منا؟” طمأننا الشاب قائلاً إنه سيأخذنا إلى مدرسة لتأوينا. وهكذا، وصلنا إلى مدرسة الذكور الإعدادية (ج) في مخيم النصيرات الجديد.
عند وصولنا، استقبلنا النازحون الذين سبقونا، وقدموا لنا الماء والطعام والملابس لنبدل ملابسنا المبتلة. النساء كنّ في حالة انهيار تام، والبرد كان ينهش أجسادنا، لكن وجدنا أشخاصًا احتضنونا وساعدونا. من شدة التعب والجوع، لم نكن قادرين على فعل شيء. في صباح اليوم التالي، استيقظت وحاولت الاتصال بزوجي وابني الذين كانوا مع جيش الاحتلال في ساحة المدرسة. لم أكن أعلم عنهم شيئًا؛ إذ كان الجيش قد أخذ هواتف الرجال جميعها. بعد محاولات عديدة، نجحت في الاتصال بشقيقتي في شمال غزة. أخبرتني أن الاحتلال أطلق سراحهم في منتصف الليل وطلب منهم التوجه إلى الجنوب.
خرجت للبحث عن ابني مهدي في مدارس النصيرات، ومعي خبر بأن من خرج تم إطلاق النار عليه عند خط البحر واستشهد وهرب آخرون. كنت أبحث وأبكي، ولم أتناول شيئًا طيلة ثلاثة أيام، حتى الماء. أيقنت أن ابني مهدي قد يكون من بين الشهداء. بعد ثلاثة أيام، عاد شقيق زوجي وحده. عندما سألته عن مهدي، أخبرني أن ابني فقد وعيه في الطريق إلى الجنوب بسبب التعب، فقد كان جيش الاحتلال قد احتجزهم لمدة 3 أيام عراة بدون طعام او مياه، وأن أشخاصًا أخذوه ليعتنوا به. لم يكن شقيق زوجي قادرًا على حمله بعد أن أنهكه التعب، إذ كان يحمل مهدي طوال الطريق لكنه كان يسقط من بين يديه حتى نفدت طاقته تمامًا.
عندما سمعت أن مهدي ما زال على قيد الحياة، شعرت وكأن روحي التي غادرتني منذ أيام عادت فجأة إلى جسدي. دموعي انهمرت بلا توقف، لكنها لم تكن دموع الحزن هذه المرة، بل دموع النجاة، دموع أم استعادت ابنها من بين أنياب الموت. لكن وسط هذه الفرحة الغامرة، تسللت غصة أخرى إلى صدري.
كيف حاله؟ كيف تحمل كل هذا؟ كيف نجا بعد أن فقد وعيه، جائعًا، متعبًا، مرعوبًا؟ كنت أشعر بسعادة لم أعهدها، لكنها كانت ممزوجة برعب مما قد يكون قد مر به، من الألم الذي لم أستطع أن أمنعه عنه.
صوت بكائي ما زال يتردد في أذني، وكل ما أريده الآن هو أن أجد ابني وأنتهي من هذا الكابوس الذي لا نهاية له. توجهت إلى المكان الذي كان ابني مهدي فيه، فوجدته نائمًا وقد أطعموه واعتنوا به. بعد أن استعاد قليلًا من صحته، أخذته معي إلى المدرسة. لكن، بعد أيام قليلة، تدهورت حالته الصحية مجددًا وبدأ يشكو من الألم. توجهنا إلى مستشفى الأقصى لإجراء الفحوصات والتحاليل اللازمة، وتبين أن الورم عاد مجددًا، مع تضخم في الطحال. نصحني الأطباء بإجراء عملية جراحية لاستئصال الورم، لكنني رفضت بسبب الظروف الصعبة التي نعيشها. مناعته كانت ضعيفة جدًا، والبيئة في المدرسة غير مهيأة تمامًا للعناية بمريض يحتاج إلى رعاية خاصة. لا يوجد لدينا سوى المعلبات للأكل، والمكان مزدحم وغير نظيف، حتى الحمامات لا تصلح للاستخدام الآمن، خاصة لشخص يعاني من ضعف المناعة. كنت أخشى أن أفقده بعد العملية بسبب هذه الظروف، ولم يكن لدي أحد يساعدني في رعايته، بالإضافة إلى بناتي اللواتي يحتجن إلى العناية أيضًا.
حاولت الحصول على تحويلة لعلاج مهدي في الخارج، بينما ظل زوجي وابني الكبير في شمال غزة وأنا في الجنوب. انتقلت بتاريخ 15/2/2024 إلى مدرسة دير البلح الإعدادية للبنات للعيش بجانب إخوتي. رغم مرض مهدي، إلا أنني أعتمد عليه بشكل أساسي في حياتي اليومية، خاصة أنني أعاني من انزلاق غضروفي يمنعني من الحركة بشكل طبيعي أو القيام بالأعمال اليومية مثل نقل المياه. الطبيب أخبرني أنني قد أحتاج إلى عملية جراحية إذا ساءت حالتي أكثر، وأعيش الآن على المسكنات. المكان الذي نعيش فيه عبارة عن خيمة مفتوحة من كل الجهات، وعندما تمطر، تغرق بالمياه لأنها تقع في منطقة منخفضة تتجمع فيها مياه الأمطار. لا خصوصية لنا على الإطلاق. الحمامات غير نظيفة ونضطر للوقوف في طوابير لاستخدامها.
الجميع يراني قوية، أضحك وأحاول أن أبدو متماسكة، لكن الخوف الذي يسكن داخلي لا يعرفه أحد. أخشى فقدان مهدي الذي أعلم أن مرضه يجعل عمره محدودًا. أفكر دائمًا: هل سيعيش بعد العملية أم لا؟ لكن أملي بالله كبير، وأرجو أن يمنحني القوة لأستمر. لا شيء يضاهي أمنيتي بأن نجتمع كعائلة كاملة تحت سقف واحد، بعيدًا عن الخوف والدمار، لنبدأ حياة جديدة ملؤها الأمان والطمأنينة.