أبريل 22, 2025
رحلوا جميعًا… وبقيت وحدي: شهادة نجاة من تحت الركام وخسارة لا تُعوض
مشاركة
رحلوا جميعًا… وبقيت وحدي: شهادة نجاة من تحت الركام وخسارة لا تُعوض

أميرة محمد سليمان أبو طير، 17 عاماً، سكان عبسان الكبيرة – مدرسة عبسان الكبيرة – بنين

تاريخ تحرير الإفادة: 13/4/2025

في فترة الهدنة “وقف إطلاق النار”، خاصة خلال شهر رمضان، كنا أنا وعائلتي نستعد لاستقبال عيد الفطر المبارك، وكنا متحمسين له بشدة، لأنه أول عيد نقضيه في بلدتنا “عبسان الكبيرة” بعد عودتنا لها وفي منزلنا بعد الحرب. أمي كانت قد بدأت بتجهيزنا للعيد، فاشترت لي ولأختي هدى (18 عاماً)، ولأخي ماهر (15 عاماً)، وعبد الله (10 أعوام) ملابس جديدة، كما قامت بتفصيل عباءات لي ولهدى. كنا في غاية السعادة، فقد حُرمنا من ارتداء ملابس جديدة طوال فترة الحرب بسبب انقطاعها وارتفاع أسعارها.

في 18 مارس 2025، جلسنا لأول مرة للسحور في وقت مبكر، وكانت أول مرة نجتمع جميعًا: أنا ووالدي ووالدتي وإخوتي، في جلسة واحدة. كنا نضحك ونتبادل الحديث بمحبة. بعد السحور، ذهبت أنا وأختي هدى إلى غرفتنا، لكنها، وعلى غير عادتها، بدأت تفضفض لي. أخبرتني بأسرارها للمرة الأولى وقالت لي كل شيء. وفجأة قالت لي قبل أن تنام: “إذا استشهدت، اعرفيني من إسورتي وحلقي.” في الساعة الواحدة والنصف فجراً نمنا، وبعد نحو 45 دقيقة فقط، وتحديدًا في الثانية والربع، تعرّض منزلنا للقصف مباشرة.

شعرت حينها بضوء ساطع وحرارة شديدة على جسدي، وكأن موجة ضخمة دفعتني بقوة إلى الخارج. وجدت نفسي تحت الركام، وهناك ثقل هائل فوقي، ردمٌ وحجارة وعمود خرسانة على قدمي، ولا أستطيع التنفس. في البداية، ظننت أنني في كابوس، لكنني سرعان ما أدركت أنني تحت أنقاض بيتنا. بدأت أحرك قدمي اليسرى كي يسقط الحجر من فوقها فيشعر المنقذون بوجودي، وبعد محاولات متكررة، سقط الحجر، فرفعت قدمي عالياً لألفت الانتباه. انتظرت قرابة ربع ساعة دون جدوى، حتى يأست ونطقت الشهادة. بعدها بدقائق، سمعت صوتًا يقول: “هل من أحد هنا؟” فبكيت من شدة الفرح ورفعت قدمي مرة أخرى، فتمكنوا من رؤيتي، وانتشلوني من تحت الركام. بقيت ساعة ونصف على الأرض قبل أن يتم نقلي إلى المستشفى.

في المستشفى، تبيّن أنني أعاني من حروق في كلا القدمين، وكسور وتهتك في عظام الفخذ والحوض حتى الركبة في القدم اليمنى. أخبرني الأطباء بأن قدمي اليمنى تحتاج إلى البتر، وأنهم سيدخلونني صباحاً للعملية. عند سماعي ذلك، دخلت في نوبة بكاء هستيرية، تمنيت الموت على أن أراها مبتورة. كنت صغيرة، ولم أحقق شيئًا بعد في حياتي، كيف أُحرم من قدمي بهذا العمر؟ لحسن حظي، وصل في الصباح وفد طبي أردني إلى المستشفى الأوروبي، وبعد الفحص قالوا إن الأوعية والشرايين ما زالت سليمة، ولا حاجة للبتر.

دخلت غرفة العمليات، وقبلها طلبت أن أرى أمي، فأخبروني أنها بخير لكنها بحاجة للعلاج أيضاً، وطلبوا مني الصبر حتى تنتهي العملية. أُجريت لي عملية تركيب بلاتين من الحوض حتى الركبة، لكن بعد العملية لم أستطع ثني ركبتي، وكان اتجاه الركبة مائلًا نحو اليمين، مما استدعى إجراء عملية ثانية لتعديل الوضع وتصحيح البلاتين.

الاستهداف لم يأخذ مني قدمي فقط، بل أخذ أمي وأبي، وأختي هدى، وجدتي، وأولاد عمي الثلاثة وأمهم. وأخي ماهر فقد عينه اليسرى بسبب القصف، ولم ينطق بأي كلمة لمدة خمسة أيام بعد استشهاد والديّ، وكان في حالة صدمة شديدة. حاول الأطباء إخراجه من هذه الحالة، لكنه الآن لا يرى بعينه المصابة، ويحتاج للسفر للعلاج العاجل، حيث أكد الطبيب أن حالته تتدهور يومًا بعد يوم، وأن تأخر العملية يهدد بفقدان الأمل في استعادة بصره.

في اليوم الرابع بعد العملية، طلبت مرارًا رؤية أمي وأبي، كنت أفتقدهما بشدة. بسبب إلحاحي، أخبرتني عمتي أن أمي وأبي قد استشهدا. قالت لي: “والدك كان يحب والدتك كثيرًا، لم يفترقا في الحياة، ولا في الآخرة، وأخذوا حبيبتهم هدى معهم.”

شعرت حينها بضيقٍ خانق، كأن شيئًا انكسر داخلي. كنت أحتاج أمي بجانبي، فهي لم تكن مجرد أم، بل صديقتي الأقرب، من كنت أهرب إليها بكل ما أثقلني، وأجد عندها الراحة والحنان. وأبي، ذلك الرجل الطيب الذي كنت أفتخر بالسير إلى جانبه، كأنه حصني الآمن في هذا العالم.

أشتاق إليهما بشدة، وخصوصًا أمي… أشتاق لصوتها، لدفء كلماتها، لحضنها الذي كان يرمم كل شيء.
أفتقد أختي هدى، شريكتي في كل شيء، الأقرب لقلبي وعمري، وكنا لا نفترق أنا وهي وابنة عمي جنى. كنا نضحك ونحلم معًا.

أما الآن… لم يبقَ أحد يشبهني أو يشعر بي. رحلوا جميعًا… وبقيت وحدي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *