هبة ماهر الملخ، 27 عاماً، سكان النصيرات محافظة الوسطى، محامية متدربة في وحدة المرأة في المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان
أصبحنا في 7/10/2023، في تمام الساعة السادسة والنصف صباحاً في غزتنا الجميلة على أصوات أفاقتنا من نومنا مهروعين قلقين، ولأول مرة أخرج من غرفتي بثوب الصلاة زحفاً من هول الأصوات والإضاءة التي رأيتها. خرجت للصالون وجلسنا أنا وعائلتي وكل منا يسأل “شو فيه؟” وحاولنا أن نمسك هواتفنا لنفهم ما الذي يحدث بعد سماعنا أصوات الصواريخ وكل منا بدأ يقلب مواقع التواصل الاجتماعي ليفهم ما الذي يحدث لكن كل المنشورات من الأصدقاء والمعارف بسؤال أهل غزة “ايش فيه ؟”، لا أحد يعلم ما الذي يحدث.
بعد ذلك علمنا أن العدوان بدأ على غزة ورجعنا لأجواء القلق والتوتر ومتابعة الأخبار، وفي كل حين نسمع عن شهداء وجرحى، وتتبع أخبار الأصدقاء الشهداء منهم والجرحى والقصف الذي يحل على منطقتي النصيرات وعلى المناطق الأخرى التي بها أحبابنا.
في 13/10/2023، بعد القصف الشديد على مدينة غزة والأحزمة النارية التي ملأت كل مكان ومناطق الشمال أبلغ جيش الاحتلال الإسرائيلي أحبابنا في مدينة غزة ومناطق الشمال بضرورة النزوح إلى ما بعد مناطق جنوب وادي غزة. ونزح إلينا أقاربنا وأحبابنا من غزة وأصبح في أقل بيت 30 شخصا. وخلال هذه الفترة أشغلنا الاحتلال في حالة من البلاغات الكاذبة بإخلاء المنازل التي كانت كل مرة تُخرج السكان من المنطقة. في إحدى المرات، في الساعة الحادية عشر مساءً وصل بلاغ كاذب بإخلاء منزل أحد الجيران بتاريخ 15/10/2023 لأناس في المنطقة، مما جعل كل من في المنطقة يتجمعون في حاصل، شباب وفتيات وأطفال جميعهم هربوا يصرخون لا يعرفون أين يتجهون، وباتوا ليلتهم في الحاصل لحين الصباح، وبعد ذلك اتضح أن البلاغ كاذب وربما كان من أفعال المستوطنين، وفعلياً حين يستهدف الاحتلال منزل ما لا ينذر أحد، يقصفه على رؤوس ساكنيه.
وفي 20/10/2023، خرجنا من منزلنا خوفاً ومن قصف قد يأتينا بسبب مجاورة بيتنا لمسجد بعد سماعنا قصف الاحتلال الإسرائيلي مساجد ومستشفيات وكنائس، مع أن من المحرم دولياً أن يتم قصف دور العبادة ودور الرعاية والمستشفيات والأماكن الصحية. ذهبنا إلى بيت أقاربنا في ومكثنا فيه مدة نحن وإخوتي المتزوجين وابن عمي وعائلته. كنا في المنزل 22 شخصاً، أغلبهم أطفال، وضغطنا أنفسنا في النوم والجلوس وكان هناك جار لأقاربنا قد فتح لنا باب طوارئ من أرضه بدلاً من الباب الرئيسي في حال أي خطر قد يحدق بنا من الجهة الأخرى للهروب من الأرض في حال أي طارئ واستفدنا من هذه الأرض من العمل بها على الحطب بعض الأكلات من باب التوفير مع انقطاع الغاز وأصبحنا نخبز الخبز على الحطب وأحيانا استبدال الخبز بخبز الصاج في ظل انقطاع الكهرباء وشح الغاز وإغلاق المخابز.
في 16/10/2023، معتادون بالاستيقاظ مع صلاة الفجر وأطفالنا كذلك لكن نبقى بفراشنا، وفي الساعة السادسة والنصف صباحاً بالضبط سمعت صفير صاروخ فغطيت رأسي تحسباً وهي حركة عفوية حين سماع أصوات الصواريخ. ومن ثم ما رأيت إضاءة كالنار لحقها تراشق زجاج الشبابيك علينا مع الألمونيوم بشكل قوي. وبحركة عفوية وجدت نفسي أسحب غطائي وأضعه فوق أولاد إخوتي الصغار وأصغرهم سنة ونصف. بعدها قمنا لنخرج من المكان لكن حين قيامي تذكرت حجابي فقمت بتغطية شعري وحاولت القيام بهدوء بسبب الزجاج المحيط بنا على فراش نومنا وأغطيتنا، وفضولي جعلني أقف على الشباك لأرى أين القصف وجدته يبعد عنا فقط متر ونصف وأمامي شقة الجيران مفتوحة وابن الجيران جثة هامدة وهو بالصف الأول الثانوي وأمه وأبيه في ممر البيت الذي نحن نازحين فيه وسمعت أصوات صراخ أطفال فبدأت أصرخ ” الحقوا الصغار في صغار بصرخوا تحت”. وحين خرجنا من غرفة النوم التي كنا بها دعسنا على شيء على باب الغرفة أشبه بشيء من جسم الإنسان، لكن بلحظتها لم نكن نعلم على ماذا دعست أقدامنا. ثم بعد ذلك وعينا أنه مخ إنسان وكانت هناك رشقات لحم على الحائط، لقد كان المكان مليء برائحة الدم والبارود ولكن نجونا بلطف ورحمة الله، ولا يهم الأضرار المادية، رغم أنه أولاد أخوالي في الشقق الأخرى قد نجوا ولكن بخدوش وجروح. ووجدنا طفلاً من أبناء الجيران في شقة خالي الأخرى معلقاً على الحائط، نصفه في منزل خالي والنصف الآخر معلق على الحائط المدمر. لا أعلم كيف مر ذلك اليوم وكيف نجونا بفضل الله. ولكن وبعد مرور خمسة شهور للحرب للآن أشتم رائحة البارود والدم تزورني من حين لآخر أو أفيق من نومي وأشعر أني أشتم رائحة البارود والدم.
وبعد أن كان لنا أمل بانتهاء هذا العدوان انتهت سنة 2023 وبدأت سنة، وتدريجياً تم تبليغ أهالي منطقة النصيرات بحسب البلوكات التي كانت تشاركها صفحة المنسق بالنزوح إلى منطقة دير البلح، إلى أن نزل منشور بإخلاء المنطقة التي كنت نازحة بها في النصيرات. فاضطررنا إلى النزوح إلى منطقة دير البلح بتاريخ 3/1/2024، كما أبلغنا جيش الاحتلال الإسرائيلي بالنزوح إليها. ولعدم توفر أي مكان للإيجار اضطررنا إلى بناء خيمة من الشادر والقماش والنايلون وحاولنا التأقلم والتعايش مع الحالة التي نحن بها. لكن حياة الخيمة أصعب مما نتخيل مع انعدام الكهرباء وشح توفر المياه ومأساة الدخول للحمام والاستحمام. ولنقص القماش والشوادر لم تكن كل عائلة بخيمة، حيث كنا 54 شخصاً أكثرهم أطفال فقسمنا أنفسنا خيمة رجال وخيمة للنساء والأطفال. وحتى خدمات البلدية غير متوفرة من ناحية توفير المياه وتنظيف المنطقة من القمامة، وهذا أمر متوقع مع العدد الهائل من النازحين في منطقة دير البلح.
بتاريخ 11/1/2024، أفقنا في الساعة الثانية بعد منتصف الليل على زخات المطر الذي كنا ننتظره كل شتاء في حياتنا الطبيعية، لكن هذه المرة لا نريد المطر فقد غرقت خيمتنا وكنا نجاهد لإبعادها عن خيمتنا وعن رؤوسنا من جهة، ومن جهة أخرى حاولنا احتضان أطفالنا وإبعاد فراشنا لكي لا يغرق أكثر مع كثرة المطر. وحينما هدأ المطرفي اليوم التالي، أعدنا بناء الخيمة مرة أخرى وحاولنا ترميمها وتمكينها مرة أخرى. وكانت المعاناة مستمرة وكبيرة مع البرد القارس والمنخفضات والأمراض ونزلات البرد للأطفال قبل الكبار، ومع القصف وطائرات الاستطلاع “الزنانات” التي لا تهدأ والتي من المفترض أن تكون غير موجودة كوننا ذهبنا إلى أماكن الإيواء الآمنة على وصف المنسق، وتستمر معاناتنا كل يوم وخوفنا وقلقنا وحلمنا بالعودة إلى حياتنا الهادئة.
وبتاريخ 30/1/2024، وهو اليوم الـ 116 للعدوان، جاءنا خبر قصف منزلنا في النصيرات ومن رحمة الله أننا لم نكن موجودين فيه ورغم أن أغلب المنطقة كانت مخلية إلا أنه قد علمنا أنه أصيبت طفلتان من الجيران وإصابتهم طفيفة الحمدلله، ولم يبقى أي ذكرى لنا منه. وقد تماسكت حين سمعت الخبر وقلت الحمدلله أن الجميع بخير. ولكن حين ذهبت لرؤيته وبعد صعودي لطابقنا الثالث بعد معاناة مع الردم، وبعد تماسكي حين وصلت لمكان غرفتي الممسوحة انهرت بالبكاء، لقد ذهبت كل ذكرياتنا بلحظة وكل شيء جميل ذهب بلحظة، شقتنا وشقق إخوتي ومكان تجمع العائلة واستقبال الضيوف ومطبخ أُمي الدافئ ذو الرائحة الجميلة ، كل شيء ذهب بلحظة بصاروخ من الاحتلال مُسح طابقنا بذكرياته.
وها نحن بعد مرور 5 أشهر للعدوان، للآن أشتم رائحة البارود والدم، وللآن في معاناة الخيمة وتعبها، وفي معاناة القصف والدمار والأصوات المرعبة والقلق الدائم والخوف من النزوح لمكان آخر والخوف من العودة لمكان سكننا الذي أصبح غير موجود أصلا، والمعاناة في البحث عن بيت للإيجار أو حتى حاصل، والخوف الأكبر هو الخوف من الفقد والخوف من المجهول.
نسخة تجريبية