ألماظة عمر عبد عودة، 25 عامًا، حي التفاح والدرج في مدينة غزة.
محامية متدربة في المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان
أعطيت هذه الإفادة لطاقم المركز بتاريخ 13/1/2024.
منذ بداية نوفمبر ٢٠٢١ وحتى نهاية أكتوبر ٢٠٢٣ كنت محامية متدربة في وحدة المرأة في المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان ضمن مشروع سواسية “2”
في ليلة السابع من أكتوبر 2023 يوم السبت لسوء الحظ لم أستطع النوم أبداً حتى الصباح بسبب انشغالي في قراءة كتاب “خلف كواليس الواقع”، ما إن اغلقت الكتاب ووضعت رأسي على الوسادة واذ بعد دقائق بدأت أصوات الصواريخ تتوالى بشكل مريب ومخيف، لم أدرك حينها أن الحرب قد بدأت.
بدأ الاحتلال بالقصف والأحزمة النارية في كل مناطق قطاع غزة، سيما جبل الصوراني والريس ومنطقة الرمال، أصوات عنيفة ومرعبة جداً كنا نسمعها أنا وعائلتي.
قضينا في بيتنا 5 أيام، كانت أيام عصيبة جدًا لولا أنها مرت بلطف الله، قصف شديد طال كثير من الجيران “عائلة مشتهى، عائلة الشرباصي، عائلة مرتجى، عائلة الحية”، بعضهم استشهد وما زال حتى الآن منهم تحت الأنقاض.
نزحنا في 13 أكتوبر 2023 تحت وطأة قصف عنيف على منطقتي، قضينا فيها ساعات الفجر في حالة ذعر شديد بعد استهداف مكثف على منطقة سكننا، كنا وقتها قد أيقنا أنه لن يطلع علينا ضوء الصباح إلا ونحن تحت ركام منزلنا من هول ما عشناه؛ ذلك السيناريو الذي خطر في مخيلة كل من في المنزل في ذلك الحين.
عندما اشتد القصف في ساعات الفجر الأولى، أسرعت أنا وعائلتي للاحتماء في ممر المنزل (باعتباره مكان بعيد عن الشبابيك والشارع!) التصقنا ببعضنا البعض وقد بدأ كل منا بنطق الشهادتين. لوهلة تخيلت بأن هذه اللحظات ربما تكون مشابهة لآخر ما يعيشه كل من مات، وربما تكون هذه آخر لحظة لي قبل الموت.
أذكر أنه قبل نزوحنا تلقينا اتصالا من جيش الاحتلال الاسرائيلي، كان اتصالاً مسجلاً يطلب منا بترك منازلنا والذهاب إلى جنوب قطاع غزة، التهديد والوعيد اذا بقينا في غزة على اعتبارنا ارهابيين، وصلت الاتصالات على جميع هواتف عائلتي.
انتظرنا حتى عصر الجمعة. بدأ القصف يشتد أكثر فأكثر، صوت قذائف المدفعية لم تتوقف ولو ثانية واحدة. لذلك قررنا النزوح عند أقارب والدي جنوب وادي غزة. ونحن في طريقنا على خط صلاح الدين، لم يتوقف القصف أبداً. رأينا في طريقنا شاحنة كانت تضم كثير من النازحين من الأطفال والنساء قد قصفت قبل دقائق معدودة، وتم نقل مئات الشهداء والمصابين منها، رائحة البارود والدم تناثرت في كل مكان، كانت هناك هواجس داخلي وخوف ورعب إن أي لحظة ممكن أن نكون مثلهم أنا وإخوتي…
وصلنا البيت الذي يقع أول النصيرات بعدما رأينا أهوال يوم القيامة في طريقنا، ممتنة لله الذي لم يجعلنا في تعداد الموت وقتها. عندما دخلنا المنزل كان هناك عدد كبير من النازحين أقاربي قد تجمعوا بالفعل وأصبح البيت مكتظا جدا. ما مرت ساعات إلا ونحن تحت القصف الذي كان يستهدف المنطقة من كل الاتجاهات، أحسست بأن الدقائق لا تمر وأن فكرة النجاة باتت مستحيلة.
في 26 أكتوبر 2023 الساعة 09:00 ليلاً، تلقينا اتصالاً من رقم خاص، مكالمة من جيش الاحتلال الاسرائيلي يطلب منا إخلاء المكان فوراً والخروج منه استعداداً لقصفه، وطلب منا الذهاب الى منطقة المواصي في مدينة خانيونس وان لدينا 10 دقائق للخروج من المكان. لا اذكر تفاصيل الحدث حينها وخوف أولاد أخوتي الصغار وصراخهم وخوفهم من الخروج في وقت الليل خصوصاً أنه لا يوجد أي شخص يتحرك والشوارع شبه خالية تماما من أي شخص وأشبه بفيلم رعب. لم نكن نعلم أين الوجهة، ولا إلى أي مكان نذهب، ولم يسعفنا الوقت، لذلك قررنا الذهاب إلى أي منطقة تابعة لوكالة الغوث “الأونرا”. وصلنا منطقة تسمى كلية صناعة خانيونس الساعة 10 مساءً، والرعب والخوف في أعيننا جميعاً، أبصارنا شاخصة، اذكر وقتها أننا جلسنا حتى الصباح في الشارع على رصيف الكلية لم نجد مكان يأوينا.
في وقت لاحق قرر أخي محمد عمر عودة، 21 عاما، الذهاب إلى البيت وإحضار بعض الأغطية وبعض الملابس لأطفال أخوتي الصغار من بيتنا، لكن للأسف بسبب الاجتياح البري للدبابات لم يستطيع الرجوع وانحجز في غزة، واضطر للنزوح حاملاً الأغراض مشياً على خط صلاح الدين بعد اعلان الاحتلال الممر الإنساني الآمن للنازحين. وأثناء نزوحه هو وبعض أفراد من أولاد عمي على خط صلاح الدين تعرضوا هم وجميع النازحين في الشارع للقصف من قبل طائرات الاحتلال، استشهد عدد كبير من الأطفال نحسبهم عند الله شهداء بإذن الله وبلطف الله أن أخي دخلت في جسمه ورأسه شظايا الصاروخ وهو الآن بخير لولا لطف الله. وابن عمي تعرض لإصابة بالغة مكث في العناية المركزة فترة من الزمن.
لم يكن النزوح إلى المكان الثاني آمنا اطلاقا، نواجه لحظات وظروف قاسية جدا، وشديدة الضراوة، وإشكالات حياتية يومية أخرى غير مسبوقة بسبب نقص وانعدام الأساسيات من الطعام ومياه الشرب. ونحن ننام بجانب بعضنا البعض أنا وأمي وأختي، على فرشات مهترئة، وأغطية لا تكفي إلا إذا التصقنا ببعضنا البعض، الجو بارد جدا.
نعيش الآن في خيمة صنعها أخوتي الشباب، كانت قد تكسرت علينا في إحدى الغارات القريبة من المكان بعد أيام قليلة من نزوحنا إليها، إلى الآن تصلنا شظايا الصواريخ، يتطاير النايلون بسبب الهواء في بعض الأحيان، ونغرق بمياه الأمطار في كل يوم ماطر. ومن أشق ما نعانيه هو البرد القارس، عدم توفر غاز طهي أو حتى حطب، لقد انعدمت أدنى متطلبات الحياة هنا، خصوصاً نحن كنساء لا تتوفر المستلزمات الصحية، لا يوجد خصوصية، ننتظر بالساعات دخول الحمام، نصاب بنزلات البرد بشكل دائم. النساء هنا تتعرض للعنف بسبب الضغط النفسي من قبل الأهل، أحوال النازحين تبكي العين، لا يوجد اهتمام بالنظافة من قبل القائمين على المكان، نحن اشبه ما يكون لـ نكبة 1948 تماماً مع اختلاف الأزمنة.
قبل أيام، ومع انسحاب الاحتلال من منطقة التفاح والدرج وصلنا خبر أن بيتنا قد قصف نصفه، وأن جنود الاحتلال كانوا يمكثون في بيتنا، وبعد خروجهم منه قاموا بحرقه وحرق جميع غرف البيت وسرقة .أغراضنا، ونشروا فيديو الحريق وهم يغنون ويهللون فرحاً على مواقع التواصل الاجتماعي، حرقوا كل ذكرياتنا، كان منزلًا عائليًا مليئًا بالحب والصفاء، لكن للأسف الاحتلال يدمر كل شيء جميل في مدينتي
في ٢٢/١/٢٠٢٤، بعد عدة أيام من إعطاء الإفادة للمركز الفلسطيني لحقوق الانسان، تعرضنا للحصار من دبابات الاحتلال الاسرائيلي وقناصته بعد إعلان الاحتلال توسيع العملية العسكرية في مدينة خانيونس، لم يستطع أحد الخروج أو الدخول إلى المكان، لمدة ٥ أيام. في ٢٤/١/٢٠٢٤ تعرض مبنى داخل مركز الإيواء للقصف بقذائف الدبابات، وكان هذا المبنى يبعد ٥ أمتار عن خيمتنا، بحمد الله ولطفه لم يصب أحد منا، وإثر ذلك تعرضت جميع الخيام بجانبنا للحرق نتيجة القصف، كان هناك العديد من الشهداء من النازحين من الأطفال والنساء، كانت شظايا الرصاص تصلنا في كل دقيقة كالأمطار، الاشتباكات فوق رؤوسنا، تعرض العديد من النازحين لإطلاق الرصاص من لقناصة الاحتلال. في ٢٥/١/٢٠٢٤ بعد إعلان الاحتلال إجلاء كل من في المكان، خرجنا بدموع عيوننا وتعرضنا للقصف أثناء نزوحنا للمرة الرابعة وأصبت في ركبتي. حالياً نقيم في خيمة على الحدود المصرية في مدينة رفح، يزداد الوضع سوء أكثر فأكثر، المعاناة تزداد، كل يوم أرقُب التاريخ ليتغير التاريخ الذي يليه، أتمنى أن تنتهي هذه الحرب وأن تتوقف الإبادة بحق شعبنا.
نسخة تجريبية