منذ بداية انتفاضة الأقصى، في التاسع والعشرين من أيلول/ سبتمبر 2000، والأراضي الفلسطينية المحتلة تتعرض لانتهاكات جسيمة، تمارسها سلطات الاحتلال الحربي الإسرائيلي وقواته ضد السكان المدنيين الفلسطينيين. وتتميز هذه الممارسات بأنها مصحوبة بأعنف موجة من الانتهاكات المنظمة والممنهجة للحقوق المدنية والسياسية، فضلاً عن انتهاكها للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للشعب الفلسطيني. وعليه فقد كرست قوات الاحتلال الإسرائيلي ومجموعات مستوطنيه، وبقرارات سياسية عليا، شكلاً جديداً في التعاطي مع الأحداث اليومية لانتفاضة الأقصى. فقد عمدت هذه القوات إلى استخدام سياسات عسكرية وخططاً ميدانية تعمل على إحداث الأضرار الشاملة والكلية في الأرواح والممتلكات الفلسطينية على حد سواء.
ومنذ بداية الاحتلال الإسرائيلي، في حزيران/ يونيو 1967، لم تقدم قواته على الاستخدام المفرط للقوة، وعلى نطاق واسع كالذي نشهده اليوم، في الأراضي العربية الفلسطينية المحتلة. وقد شملت العمليات العسكرية الإسرائيلية، لقمع الانتفاضة الفلسطينية، الغارات الجوية عبر طلعات حربية جوية بطائرات ف 16 والكوبرا والأباتشي الهجومية، والقصف البحري من الزوارق الحربية التي تحتل شواطئ قطاع غزة، بالإضافة إلى القصف العنيف بالدبابات والمدرعات الحربية التي تحاصر مداخل المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية، وصواريخ أرض-أرض التي تنطلق من قواعد منصوبة على امتداد الحدود الشرقية لقطاع غزة. كما تعددت الذخائر الحربية المستخدمة ضد السكان وممتلكاتهم، حيث تجاوزت قوات الاحتلال الحربي الإسرائيلي الاستخدام التقليدي للذخائر من الغاز المسيل للدموع وقنابل الصوت وراجمات الحجارة والرصاص المعدني المغلف بالمطاط والرصاص الحي والأنواع الأخرى من الرصاص المتفجر(الدمدم) الذي سبق واستخدمته في الانتفاضة الأولى. وإضافة إلى العديد من الأسلحة، التي ذكرناها، فقد أقدمت هذه القوات على استخدام الأسلحة الثقيلة والمتوسطة والقذائف الصاروخية المضادة للأفراد والقذائف المضادة للدروع والغازات السامة. كما قصفت هذه القوات مدن وقرى ومخيمات الأراضي الفلسطينية المحتلة بصواريخ أرض- أرض وصواريخ جو-أرض. علاوة على ذلك استخدمت قوات الاحتلال الجرافات الثقيلة لهدم المنازل السكنية وتجريف الأراضي الزراعية والحرجية بشكل غير مسبوق.
العمليات الحربية المتنوعة سابقة الذكر، التي نفذتها ولا زالت قوات الاحتلال الإسرائيلي، استهدفت وبشكل مكثف المنشآت المدنية والأحياء السكنية للمدنيين الفلسطينيين، إضافة إلى العديد من الأبنية والمنشآت التابعة للسلطة الوطنية الفلسطينية التي تقع جميعها في مناطق مكتظة بالسكان والمباني السكنية. وقد تسببت في تدمير كامل وشامل لمئات بل لآلاف الممتلكات والأعيان المدنية من منازل ومصانع وورش عمل وأراضي زراعية ومزارع طيور وأبقار وأغنام، كما ألحقت أضراراً جزئية في منشآت أخرى لم يستطع مالكيها الوصول إليها لاصلاحها، أو الاستفادة منها، وهو ما كبدهم خسائر فادحة، أثرت وستؤثر لاحقاً على تمتعهم بحقوقهم الاقتصادية والاجتماعية، فضلاً عن حقوقهم المدنية والسياسية. وبشكل خاص تلك الواقعة بالقرب من الطرق الجانبية التي تسلكها قوات الاحتلال والمستوطنين، أو الأراضي التي تقع في المناطق الحدودية. ووفقا لتوثيق المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان هدمت قوات الاحتلال الإسرائيلي منذ اندلاع تلك الانتفاضة في العام 2000 حتى 30/12/2001م، حوالي 451 منزلاً في أنحاء مختلفة من القطاع، منها 400 منزل تم تدميرها بشكل كامل، بينما تم تدمير 51 منزلا تدميرا جزئيا. وتجريف ما يزيد عن 13576 دونما من الأراضي الزراعية والحرجية، منها 11372 دونما أراضي زراعية، وتشكل ما نسبته 84.3% من المساحة الكلية التي تم تدميرها، أما الباقي فهي أراضي حرجية ورملية وتقدر بحوالي 2134 دونما، أي ما نسبته 15.7 % من المساحة الكلية التي تم تدميرها[1]، فيما أدت هذه الأعمال إلى تدمير العديد المنشآت المدنية الأخرى كالمصانع والمدارس والمشافي … إلخ.
إن تلك الأعمال تشكل انتهاكاً جسيماً لاتفاقية جنيف الرابعة، وتعتبر جرائم حرب يعاقب عليها القانوني الدولي الإنساني. كما أن المجتمع الدولي أصبح مطالباً باتخاذ كافة الإجراءات والتدابير التي تضمن احترام إسرائيل لاتفاقية جنيف الرابعة وتطبيقها في الأراضي الفلسطينية المحتلة، خصوصاً أن الأطراف السامية المتعاقدة على الاتفاقية أكدت في مؤتمريها اللذين عقدا في يوليو 1999 وديسمبر 2001، على انطباق اتفاقية جنيف الرابعة على الأراضي الفلسطينية. يغطي هذا التقرير وهو السابع الذي يصدره المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان حول أعمال التجريف والهدم في الأراضي الزراعية والمنازل السكنية والممتلكات المدنية في قطاع غزة من الفترة بين 1/1/2002 وحتى 31/3/2002. وسوف يقتصر على هدم المنازل السكنية وتجريف الأراضي الزراعية والحرجية. ولا يشمل هذا التقرير مئات المنازل والمنشآت المدنية والعسكرية والصناعية التي تم قصفها بالطائرات أو الدبابات.
وبلغ مجموع الأراضي التي قامت قوات الاحتلال بتجريفها في قطاع غزة خلال الفترة من 1/1 – 31/3/2002، حوالي 410 دونم من الأراضي الزراعية. وبهذا، وصل جملة ما تم تدميره من الأراضي منذ بداية الانتفاضة وحتى 31/3/2002، حوالي 14000 دونم، منها 11782 أراضي زراعية، أي بنسبة 84.2%، بينما باقي الأراضي التي تم تجريفها هي أراضي حرجية وتبلغ حوالي 2218 دونم، وتصل نسبتها من النسبة الكلية للأراضي التي تم تجريفها حوالي 15.8%. ومن جهة أخرى بلغت نسبة الأراضي الزراعية التي تم تجريفها على أيدي قوات الاحتلال حوالي 7.5% من إجمالي مساحة الأراضي الزراعية في قطاع غزة. حيث قدرت وزارة الزراعة المساحة الكلية للأراضي الزراعية في قطاع غزة بحوالي 156.720 ألف دونم.[2] وهذه إشارة إلى حجم الدمار الذي أحدثته قوات الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي الزراعية والتي ترك مردودا كارثيا على صعيد الأفراد وعلى صعيد البيئة و على صعيد الاقتصاد الفلسطيني أيضا، لا سيما قطاع الزراعة. إن هذه الأعمال تعتبر انتهاكا جسيما وفاضحا للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، حيث ساهمت بشكل كبير في تدهور الأحوال الاقتصادية، فحرم المئات من المزارعين من أراضيهم الزراعية، والتي هي مصدر رزقهم الوحيد، كذلك توقف مئات من العمال المزارعين الذين يعملون في هذه المزارع،بالتالي ساهمت في زيادة نسبة البطالة وزيادة نسبة الفقر. من جهة أخرى بلغ عدد المنازل التي دمرتها قوات الاحتلال بشكل كلي حوالي 150 منزلا من الفترة 1/1-31/3/2002م، ويقطنها 1384 فردا، وبهذا وصل مجموع المنازل التي دمرت كليا من قبل قوات الاحتلال منذ بداية الانتفاضة وحتى نهاية مارس 2002، إلى حوالي 549 منزلا. علاوة على 51 منزلا دمرت بشكل جزئي. ونتيجة لذلك شردت مئات العائلات وأصبحوا بلا مأوى أو مسكن يقيهم من حر الصيف، أو يحميهم من برد الشتاء القارس. جدير بالذكر أن متوسط عدد أفراد العائلة الواحدة هو (9.2) أفراد[3]، وهذا يعني أن حوالي (5050) فردا، باتوا بلا مسكن. الأمر الذي ينطوي عليه مساس في معظم الحقوق الاقتصادية والاجتماعية لهؤلاء الناس. علاوة على مئات العائلات التي تركت منازلها بسبب القصف والتي لم يشملها هذا التقرير. عدا عن ذلك تم تدمير عدد من المنشآت الصناعية والتعليمية جراء عمليات التجريف التي تقوم بها قوات الاحتلال الإسرائيلي.
منذ أن احتلت القوات الإسرائيلية قطاع غزة والضفة الغربية بما فيها مدينة القدس، في حرب عدوانية في العام 1967م، قامت بفرض حكمها العسكري عليها، ومنذ ذلك التاريخ والمجتمع الدولي يقر ويؤكد على أن القوات الإسرائيلية هي قوة احتلال حربي وأن الأراضي الفلسطينية هي أراض محتلة، وأن أحكام اتفاقية جنيف الرابعة المتعلقة بحماية السكان المدنيين وقت الحرب للعام 1949، تنطبق عليها قانونا، وبأن دولة الاحتلال الحربي الإسرائيلي ملزمة بتطبيق أحكام الاتفاقية في الأراضي الفلسطينية. إلا أن قوات الاحتلال الإسرائيلي أمعنت في انتهاكها وبشكل منظم لأحكام الاتفاقية[4] ومجمل قواعد القانون الدولي في إدارتها للأراضي الفلسطينية المحتلة وعلاقتها بالسكان المدنيين. جدير بالذكر أن القانون الدولي الإنساني وخاصة اتفاقية جنيف الرابعة تهدف لتوفير الحماية لضحايا الحروب وتحديدا للسكان المدنيين في الأراضي المحتلة، لذا فهي تؤكد على أن دولة الاحتلال ليست مطلقة اليدين في استخدام ما تشاء من القوة أو الإجراءات أو السياسات في إدارتها للأراضي المحتلة، ويجب على الدوام أن تراعي إلى أقصى حد مصالح السكان المدنيين وحماية ممتلكاتهم وألا تغير من الوضع القانوني لتلك الأراضي.
ومن القواعد الأساسية للقانون الدولي الإنساني أن المباني والممتلكات المدنية يجب أن تكون بمنأى عن إي استهداف من جانب القوات المحتلة ويحظر تماما التعرض لها ويجب أن تتوفر لها الحماية الكاملة، حيث تحظر المادة (53) من اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب تدمير الممتلكات حيث تنص على أنه “يحظر على دولة الاحتلال أن تدمر أي ممتلكات خاصة ثابتة أو منقولة تتعلق بأفراد أو جماعات أو بالدولة أو السلطات العامة، أو المنظمات الاجتماعية أو التعاونية، إلا إذا كانت العمليات الحربية تقتضي حتما هذا التدمير.” كما تحظر المادة (147) من نفس الاتفاقية على قوات الاحتلال الحربي القيام بأعمال” تدمير واغتصاب الممتلكات على نحو لا تبرره ضرورات حربية …؛ باعتبارها مخالفات جسيمة للاتفاقية”.
وتعتبر هذه الأعمال في إطار العقوبات الجماعية والأعمال الانتقامية ضد المدنيين التي تحظرها الاتفاقية في المادة (33) حيث تنص على أنه ” لا يجوز معاقبة أي شخص محمي عن مخالفة لم يقترفها هو شخصيا. تحظر العقوبات الجماعية وبالمثل جميع تدابير التهديد أو الإرهاب. السلب محظور. تحظر تدابير الاقتصاص من الأشخاص المحميين وممتلكاتهم.”
كما تتناقض هذه الأعمال مع العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لعام 1966. فتنص المادة (1) على أنه ” لا يجوز في أية حال حرمان أي شعب من أسباب عيشه الخاصة. وتحظر المادة (5) من العهد على أي دولة أو جماعة أو شخص مباشرة “أي نشاط أو القيام بأي فعل يهدف إلى إهدار أي من الحقوق والحريات المعترف بها في هذا العهد… “
إن ما تقوم به سلطات الاحتلال الإسرائيلي يدحض ادعاءاتها ومبرراتها حول عمليات الهدم والتجريف، إذ دائما تبرر ذلك بأنه ضرورة عسكرية، بينما الواقع يدحض ذلك، فوفقا لتحقيقات المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان فإن عمليات تجريف الأراضي وهدم المنازل تتم دون أية ضرورة عسكرية، وإنما تهدف إلى الانتقام من السكان المدنيين فقط والاستيلاء على المزيد من الأراضي، وكذلك لخلق مناطق عازلة على امتداد حدود قطاع غزة وعلى امتداد محيط المستوطنات والشوارع الالتفافية.