أغسطس 23, 2024
بين النزوح والخوف: ولادة بدون أي تدخل طبي
مشاركة
بين النزوح والخوف: ولادة بدون أي تدخل طبي

ليما أمين شعبان شامية، 27 عامًا، متزوجة، وأم لطفلين، سكان حي التفاح في غزة، وحاليا نازحة في دير البلح.

قبل الحرب كنتُ أسكن في شقة مسقوفة بالأسبستوس في الطابق الأخير لمنزل عائلة زوجي أحمد الفاتح محمود النخالة. في تاريخ 07/10/2024 تواجدت في منزلي مع زوجي وابنتي ليزا (عام ونصف) وقد استيقظنا على أصوات الانفجارات، ودعونا الله بالستر، ومن ثم قررنا النزول إلى بيت العائلة، لعلّ الونس يقلل من حدة الخوف الحاصل، ومن خلال نشرة الأخبار بتنا نشعر أن الأمور تزداد صعوبة وتنذر بأيام عجاف قادمة.

منذ اليوم الأول للحرب استشهد زوج أخت زوجي نسرين النخالة، طارق محمد عاشور، والذي كان يعمل مسعفًا لدى وزارة الصحة، وقد استهدفه جيش الاحتلال الاسرائيلي أثناء عمله في منطقة دوار القرم في جباليا. بقينا في منزلنا لمدة ثلاثة أيام ببداية الحرب، ومن ثم تبين من خلال المناشير التي أُنزلت علينا أن المنطقة تندرج ضمن المناطق التي يجب إخلاؤها من السكان. وعليه توجهنا إلى منزل أخت زوجي في حي الشيخ رضوان شمال مدينة غزة، وكان ذلك في 09/10/2023 حيث كان النزوح الأول لنا ولم يكن الأخير مع الأسف. لم يكن الأمر سهلًا علينا، لا سيما وأن ابنة حماي “نسرين” كانت تسكن في الطابق الرابع. كنت حاملًا حينها بالشهر الخامس تقريبًا، وكان القصف شديدا ومستمرا، لم أتوقع أن ينجو طفلي ويستمر الحمل، وذلك بسبب التنقل والركض من مكان لمكان بشكل متكرر، علاوة على الخوف الشديد الذي كنت أشعر به.  ومع الخوف كنت لا أتمكن من تناول الطعام، وأدخل في نوبات بكاء، وأخبرتُ زوجي باحتمالية إجهاض الطفل بسبب هذا الوضع السيء. وفي وقت ما شعرت أن حركة الجنين توقفت، لم أتمكن حينها من مراجعة أي مركز طبي مختص وذلك بسبب اشتداد القصف، وبدء إخلاء الشيخ رضوان.

في 13/10/2023، عقب اتصال الجيش بسكان مدينة غزة والشمال عن طريق اسطوانة مسجلة مطالبًا إياهم بالتوجه نحو جنوب وادي غزة باعتبارها منطقة لجوء آمنة، غادرنا غزة مع من غادرها بحثًا عن الأمان، إلا أنه لا أمان في أي مكان في غزة، كلنا أهداف للقصف من قبل جيش الاحتلال الاسرائيلي. 

توجهنا مع عائلة زوجي إلى دير البلح، إلى “شاليه” لأقاربهم تحديداً لعم زوجي. لم تكن غزة قد تم اجتياحها بريًا بعد، ولم يكن هناك ما يُدعى بالممر الآمن حينه، ومن شدة الخوف لم نحمل شيئًا يذكر من الأمتعة لأننا اعتقدنا  أن الإخلاء لمدة ثلاثة أيام وسنعود. خشيت العودة إلى بيتي في حي التفاح لذلك انطلقنا نحو دير البلح مباشرة من حي الشيخ رضوان، ومعي القليل من الملابس والأغراض فقد كان الأمر يتعلق بأيام قليلة.

بقينا لدى أقارب زوجي حوالي 20 يومًا، ومن ثم انتقلنا إلى أرض لهم أيضًا وذلك بسبب زيادة العدد في الشاليه، وطلبًا لشيء من الخصوصية. كانت الأرض في ذات المنطقة بالقرب من ملعب الدرة في دير البلح، لم يكن فيها بناء كبير، مجرد غرفتين غير مجهزتين وحمام، وكان عددنا يفوق الـ 20 شخصا، خاصة بعدما أتى أقارب حماتي (إخوتها وأختها وعائلاتهم) إلينا، ننام في الغرفة الواحدة حوالي 10 أفراد، وينام عدد من المتواجدين في خيمة أقيمت في الأرض. 

لم أفرح بحملي، كنت أريد عمل حفلة لتحديد جنس الجنين، وأن أشتري ملابسًا جديدة لأستقبل طفلي. ولكن عندما استوعبنا وضعنا الجديد كنت قد أصبحت بالشهر الثامن من الحمل، لم يكن يسعفنا الوقت لفعل شيء، وكنا دائمًا نرجئ الأمور حتى انتهاء الحرب، التي ظننا أن لها نهاية قريبة. لذلك ذهبنا دون أن يكون أمامنا الخيار إلى عيادة في دير البلح وقمنا بتصوير الجنين لمعرفة جنسه وللاطمئنان عليه، وتبين أنه فتاة، ولكن عند الولادة تبين عدم صحة التصوير وتبين أنه ولد. 

في 11/01/2024 أتذكر أنني ذهبت للمشي مع إحدى قريبات زوجي متوجهين نحو شاطئ البحر، وعندما وصلنا إلى البحر بدأت الرياح تشتد والجو يتقلب وخفت أن أمرض وأنا على وجه ولادة لذلك عدنا فورًا. وعند عودتي ومع حلول ساعات الظهيرة شعرت بالمغص الخفيف ولم أعرف على وجه الدقة إن كان مغص من البرد أم وجع ولادة. ولكن الألم اشتد في فترة ما بعد العصر، وبدأت أدرك أنها علامات الولادة حقًا، وكان وجهي ينذر بذلك، واشتد الألم في ظهري، وعند دخولي الحمام وجدتُ دمًا. حاولنا الاتصال بالإسعاف، واستمرت محاولاتنا حوالي الساعتين حتى تمكنا من الاتصال بالإسعاف والتقاط الشبكة، حيث كانت شبكة الاتصالات سيئة في ذلك الحين بسبب انقطاع شبكة الاتصالات في عدة مناطق. كما لم نجازف بنقلي بسيارة خاصة، حيث كان التنقل ليلًا يشكل خطرًا على حياة المواطنين، وكان القصف في ذلك الوقت في منطقة النصيرات شديداً، لا سيما في منطقة مستشفى العودة. شعرت بالخوف الشديد على حياتي وحياة جنيني، خاصة وأن الطلق قد اشتد وخشيت أن أفقد طفلي أو حياتي.

ولادة على قارعة الطريق 

تبين يومها أن طفلي مستعجل من أجل الخروج إلى الحياة، ولم ينتظر طفلي قدوم الإسعاف. وبحلول أذان المغرب نزل ماء الجنين واشتد طلق الولادة ولم أعد أستطع تحمل الألم. كنتُ أنتظر قدوم الإسعاف عند باب الأرض التي كانت مكان إيوائنا. جلست على كرسي لفترة من الزمن، حتى شعرت وكأن شيئًا قد خرج من رحمي، أخبرتهم أن رأس الجنين قد نزل!! لم يصدقني أحد، صرخت فيهم، بدأت حماتي بخلع ملابسي، وحينها سمعنا صوت بكاء خافت. يومها كانت نسرين أخت زوجي موجودة معنا، لا أعرف من أين أتتها الشجاعة والجرأة وقامت بسحب الجنين ومن ثم أعطتني إياه، يومها كان الجو عاصف، الرياح شديدة، ولكن عندما نزل الجنين كل شيء قد سكن!! ربنا لطف بنا. وفعليًا كانت ولادة على قارعة الطريق دون أي تدخل طبي، برحمة ربنا فقط. 

جلستُ على كرسي أمام باب الأرض أحتضن إبني الذي أسميناه محمود، وأنتظر قدوم الإسعاف. وصل الإسعاف عشاءً ومن ثم قاموا بقص الحبل السري وأخرجوا الخلاصة وأخذوا الطفل لفحصه إلى داخل الإسعاف، كان والد زوجي قد سخن الماء لأستحم، وعليه قمت باستبدال ملابسي والاستحمام ومن ثم توجهنا إلى مستشفى العودة في النصيرات.

في مستشفى العودة، غرزوني دون تخدير، وأخبرتني الطبيبة أنه بسبب نزول الرأس دون تدخل أحد، أُغلق عنق الرحم وأصبح عندي نزيف. تم تغريز الجرح سبع غرز، وكان يوجد في المستشفى تخدير حينها، ولكن لا يتم استخدامه مع جميع حالات الولادة، حيث كانت الأولوية للولادات القيصرية. مع كل غرزة كنتُ أشعر بخروج روحي، والألم الذي شعرت به يفوق الوصف. خرجت في اليوم التالي من المستشفى، لم تكن طاقة استيعاب المستشفى تستوعب بقائي يومًا آخر تحت المتابعة، كان لا بد أن أترك سريري وأفسح المجال لمريض آخر، لم أستلم أي طرد خاص باحتياجات النساء أو الأطفال حديثي الولادة.

عدت الى الأرض أي مكان إيوائنا في دير البلح. لم يكن هناك مكان مخصص ومجهز لأنام عليه مع طفلتي ومولودي الجديد، كنا نضع البطانيات الواحدة فوق الأخرى لنصنع منها مكانًا مهيأ للنوم ولو قليلًا. حاول زوجي البحث عن فرشة مخصصة للنوم، ولكنه لم يجد. ونتيجة لذلك فإن آثار آلام العظام والمفاصل تلاحقني حتى اليوم، وإنني أجد صعوبات في أداء المهمات اليومية كالغسيل، علاوة على ما سبق فإن الأمر تصادف مع مرحلة النفاس وفصل الشتاء أيضًا.

وأحيانًا أقول لنفسي يا ليتني لم أكن حاملا عند وقوع الحرب ولم ألد بالحرب، ما ذنب طفلتي وطفلي الصغير أن يبدأ حياته في هكذا ظروف! لما يحدث كل هذا وما الحكمة في ذلك؟ بعد معاناة شديدة وبحث مضنٍ، وجدنا ملابس مناسبة لطفلي، من البالة طبعًا، وجزء آخر من أقارب زوجي، لم تهن عليّ نفسي وقتها وكنت دائما أبكي على هذا الحال. ما زالت أجد صعوبة في شراء الملابس المناسبة لطفلي، خاصة وأنهما في مرحلة النمو وبحاجة دائمة للملابس وفقًا لتغير مقاساتهم، كما أن الأسعار غالية جدًا. 

عانيت جدًا لأشتري البامبرز لابنتي وابني، اشترينا الباكيت الواحد بـ 350 شيكل وكنت أستعمله للطفلين، رغم اختلاف مقاسهما. وعانينا من أجل توفير الطعام، كل شيء كان غالي الثمن، والمتوفر قليل جدًا، ولا غنى عن المعلبات. كنت أتناول الحلاوة الطحينية فقط من أجل المساعدة على زيادة إدرار الحليب. لم يكن زوجي يعمل ولم يكن لدينا رفاهية شراء الحليب الصناعي لطفلي، كنت أشعر أن الطفل لا يشبع، ويبكي بشدة ولكن ليس باليد حيلة. 

تابعت في العيادة التابعة للوكالة (الأونروا) الواقعة في معسكر دير البلح من أجل التطعيمات. أحيانًا أركب كارة وحمار وأحيانًا أذهب سيرًا على الأقدام، أجد صعوبة في الوصول إلى المكان، والمسافة ليست قليلة، دائمًا ما أشعر بالدوار والتعب أثناء الذهاب إلى هناك. 

تصيبني حالات بكاء هيستيرية في كثير من الأحيان لكوني أجد صعوبة في التعامل مع الطفلين في هكذا ظروف. ابنتي تعاني من ظهور الحبوب في جميع أجزاء جسدها من شدة الحر ما يعرف “بالحساسية”، ولا يوجد مراهم مناسبة للتعامل مع الأمر. 

أتمنى أن تنتهي الحرب، أحيانًا يخطر على بالي أن أعود إلى غزة أيًا كانت النتيجة، فلا يوجد هناك أسوأ من هذه الحياة؟ لا أعتقد. أشعر بالعجز عندما لا أتمكن من شراء احتياجات الأطفال، أرغب بشراء كل شيء لهم، لكنني لا أتمكن من ذلك. نوبات بكائي لا تنتهي. آمل أن ينتهي كل هذا ونعود إلى غزة وأجتمع بأهلي.