تحرير زياد محمد حلس، متزوجة، 29 عاماً، سكان غزة، وحالياً نازحة في النصيرات، مدرسة ممدوح صيدم.
تاريخ الإفادة: 16/12/2024م
أنا متزوجة منذ 15 عاماً وأم لثلاث بنات وولد. كنا نعيش في منطقة سوق الجمعة في الشجاعية، وكانت حياتنا هادئة ومستقرة. ولكن المرض بدأ يقتحم حياتي تدريجيًا. كنت أعاني من ضيق في التنفس وآلام في القلب. بعد فحوصات طلبها طبيب النساء، اكتشفنا أن لدي تورمًا في الرقبة نتيجة لمشاكل في الغدة الدرقية.
بدأت رحلة العلاج التي استمرت لمدة عامين، وبعد الفحوصات وجد الأطباء أن الورم حميد. كانت حالتي تتحسن ببطء، وكنت ألتزم بالعلاج حتى لا تتفاقم المشكلة مرة أخرى. استمريت في العلاج، حيث كنت أتلقى جرعات كبيرة في مستشفى الصداقة التركي، بينما كنت أعتمد على عيادة الأونروا أو أشتري الأدوية على حسابي الخاص إذا لم تكن متوفرة. رغم كل هذه التحديات، كنا ندبر أمورنا بصعوبة قبل الحرب. لكن مع بداية الحرب، شعرت أن حياتي قلبت رأساً على عقب مرة أخرى. كل شيء أصبح أصعب، وكل لحظة باتت مليئة بالخوف والمعاناة.
في صباح يوم 7 أكتوبر2023، كنت أجهز بناتي للذهاب إلى المدرسة. لكن منذ الساعات الأولى من الصباح، شعرت بأن الأمور ليست على ما يرام. الجو لم يكن هادئًا كعادته؛ كان مليئًا بالقلق والخوف. لم أستطع إرسال أطفالي إلى المدرسة، أبقيتهم بجانبي في حضني حتى أطمئن. لكن حالة القلق لم تهدأ، بل زادت، ومع مرور الوقت عرفنا أن العدوان قد بدأ على قطاع غزة. بدأ القصف على المناطق الشرقية من الشجاعية، وجاء أهلي إلى منزلي هربًا من القصف في منطقتهم. ومع تصاعد الأحداث، قررنا أنا وزوجي النزوح، ففكرت في وضعي الصحي وضرورة أن أكون قريبة من أي مكان يقدم رعاية صحية في حال حدوث طارئ، ولتجنب مواجهة صعوبات الخروج تحت القصف. غادرنا منزلنا إلى منطقة السامر حيث أمضينا ليلة واحدة فقط، لكنها كانت ليلة عصيبة مليئة بالقصف الجنوني والعشوائي. قررنا البحث عن مكان أكثر أمانًا، فتوجهنا إلى المركز الثقافي الأرثوذكسي في تل الهوى، اعتقادًا منا أنه سيكون أكثر أمانًا.
في 10 أكتوبر 2023، وصلنا إلى المركز الأرثوذكسي في تل الهوى. قضينا أول ليلة في المكان، لكن القصف استمر بشكل مكثف، مع أحزمة نارية تحيط بنا من كل جانب. اضطررنا للنزول إلى البدروم، حيث كانت الأرض تهتز من شدة القصف. كان الجو باردًا جدًا، ولم يكن لدينا أي طعام أو أغطية، وكانت الليلة باردة جدًا بجانب الخوف الذي أرهقنا جميعًا. كان الجميع من حولي يحاولون رفع معنوياتي، بينما كنت آخذ أدويتي وأحاول التماسك. لكن الخوف كان يسيطر علينا جميعًا. حتى الرجال كانوا يبكون على أطفالهم، وكأنها لحظات وداع. لم أتمكن من النوم في تلك الليلة.
في اليوم التالي، ومع تدهور حالتي الصحية بسبب التورم في رقبتي، بدأت أفقد الوعي. لحسن الحظ، كان هناك طبيب بين النازحين، قام بفحصي وقال لي أن نبضي ضعيف، حاولنا طلب الإسعاف، ولكنه وصل بعد ساعتين، لم يتمكن من مساعدتي بشكل كاف. استمر الطبيب في متابعتي وقدم لي الإسعافات الأولية.
في تلك الليلة، ازدادت حالتي سوءًا. تضخم وجهي، ولم أستطع التنفس. طلب الطبيب من إدارة المكان توفير مروحة، وبفضلها تمكنت من التنفس ببطء وأفقت تدريجيًا.
مكثنا في المركز ثلاثة أيام عشنا خلالها معاناة لا تُنسى. في الليلة الأخيرة، تلقينا تهديدًا بقصف المكان، لكننا لم نصدق. اعتقدنا أنه مكان آمن لأنه تابع للكنيسة ومستحيل أن يُقصف، خاصة مع وجود نازحين. لكن للأسف، تم قصف بوابة تلك الليلة، واستشهد ثلاثة شبان. في صباح اليوم التالي، ألقى جيش الاحتلال الإسرائيلي مناشير تطلب من السكان التوجه إلى الجنوب. اعتقدنا في البداية أنها حرب نفسية، لكن مع الوقت بدأ الناس بالنزوح، فقررنا نحن أيضًا مغادرة المكان إلى الجنوب بحثًا عن الأمان.
في 13 أكتوبر 2023، اجتمعنا كعائلة واستأجرنا باصًا صغيرًا لنقلنا، وكان معنا حوالي 60 شخصًا. وصلنا إلى النصيرات بعد معاناة شديدة في الطريق بسبب الازدحام. قضينا فترة قصيرة في منزل أصدقاء ابن عمي، ثم توجهنا سيرًا على الأقدام إلى مدرسة ممدوح صيدم. المدرسة كانت مكتظة بالنازحين، لكننا تمكنّا من تجهيز صف فارغ للنوم فيه. لم يكن لدينا فراش أو أغطية، وكان النوم على البلاط قاسيًا، خاصة على الأطفال. كنا في هذا الصف 8 عائلات، وقسمنا المكان بين الرجال والنساء. كل عائلة كان معها على الأقل 3 أطفال، وكانت الليلة الأولى باردة جدًا، خصوصًا على الأطفال. في الصباح، عاد زوجي إلى مدينة غزة وأحضر فرشتين وغطاء. لكن مع ذلك، لم يكن كافيًا لعائلتنا المكونة من 5 أفراد. كانت الأولوية للأطفال لتغطيتهم أثناء النوم.
ذهبت إلى مستشفى العودة للاطمئنان على حالتي الصحية. نصحني طبيب بالتوجه فورًا إلى مستشفى الأقصى. هناك، أجروا لي صورة تلفزيونية للرقبة، وأخبرني الطبيب أن وضعي يتطلب عملية جراحية عاجلة، لكنها غير متوفرة نتيجة نقص الإمكانيات الطبية بسبب الحصار الإسرائيلي ومنع دخول المستلزمات الطبية.
حالتي كانت تتدهور مع الوقت، ولم يكن لي سوى الاعتماد على علاج “سايروكسين” كمسكن، لكنه لم يكن فعالًا. استمرت حالتي في التفاقم، وكنت أحتاج للإسعاف كل أسبوع تقريبًا. كانوا يقدمون لي الإسعافات الأولية، مثل الأكسجين وتنظيم النبض فقط.
بقينا في مدرسة ممدوح صيدم لمدة 40 يومًا، ثم في 27 ديسمبر 2023، بدأنا نزوحنا جديداً بعد أن صنفت قوات الاحتلال النصيرات كمنطقة حمراء يجب إخلاؤها، اضطررنا إلى النزوح مجددًا، وهذه المرة إلى رفح. مكثنا في مكان يشبه البركس غير مهيأ للسكن أو المبيت. بعد أيام قليلة انتقلنا إلى خربة العدس حيث تم تركيب خيام. خلال تلك الفترة، كان البرد قارصاً. وكنت أعتمد على المعلبات كطعام أساسي، ما أثر بشكل كبير على صحتي وأدى إلى تدهور حالتي الصحية. عندما تفاقمت حالتي الصحية، ذهبت إلى مستشفى رفح، حيث قام الطبيب بمراجعة الصور الطبية السابقة للتورم. عند مقارنة الصور، لاحظ الطبيب أن الكتلة قد نمت بشكل كبير، حيث كانت في السابق 8 ملم وأصبحت الآن 3.5 سم. تواصل الطبيب مع دكتوري السابق وأبلغه أن الكتلة لم تكن بهذا الحجم من قبل، وأنها نمت بسبب الظروف الصعبة نتيجة الحرب وعدم توفر الأدوية والعمليات الجراحية. أعد الطبيب تقريراً بحالتي وتم تحويلي إلى اللجنة الطبية، التي قامت بمراجعة التقرير وختمت نموذج التحويل للعلاج في الخارج.
بعد أسبوع، بدأ الحديث عن احتمالية دخول جيش الاحتلال الإسرائيلي إلى رفح، مما زاد من حالة الترقب والخوف. فقررنا العودة إلى النصيرات حيث كانت أكثر أماناً. عدنا إلى مدرسة ممدوح صيدم، وبدأنا في تهيئة المكان من جديد للسكن والمبيت، وهو ما كان يشكل معاناة أخرى.
كنت في انتظار السفر لإجراء العملية الجراحية، لكن معبر رفح أُغلِق قبل وقت قصير من موعد سفري. تدهورت حالتي الصحية أكثر في تلك الفترة، وكان من الصعب توفير المياه المعدنية اللازمة، كما انقطع دوائي لفترة ولم نستطع توفير إلا شريط واحد فقط، ولكن لم يكن فعالاً كمسكن بسبب حاجتي لجرعات أكبر.
ما زلت أعيش في معاناة مستمرة وبحالة من الخوف والقلق على صحتي، في انتظار فتح المعبر والأمل بالسفر للعلاج. شعوري بالعجز يتزايد، وكلما تدهورت حالتي الصحية، يتضاءل أملي بالشفاء أمام واقع المعاناة المستمرة في غزة، ومع كل لحظة تأخير في فتح المعابر أو توفير العلاج، يزداد الإحساس بأن الحياة قد تسلب مني فجأة، دون أن أتمكن من الحصول على العلاج الذي أحتاجه للبقاء على قيد الحياة.
أتمنى، كأم، أن أتمكن من السفر أولاً لإجراء عمليتي الجراحية، ثم العودة إلى أولادي بصحة جيدة ومعافاة من كل مرض. أريد أن أحتضنهم وأربيهم تربية حسنة في بيئة آمنة، مستقرة، وأن تنتهي الحرب ومعاناتها.