تاريخ تحرير الإفادة: 18/12/2024
س. م. س.، 40 عاماً، أم لأربعة أطفال: سعيد، 12 عاماً، مصطفى، 10 أعوام، موسى، 8 سنوات، مريم، 4 سنوات، سكان بيت لاهيا شارع الشيماء، حالياً نازحة في سويدي الشاطئ.
منذ اللحظة الأولى ليوم 7 أكتوبر 2023، شعرت بخطر شديد. على الفور، بدأت تجهيز حقيبتي استعداداً لأي طارئ. بقيت في بيتي حتى 15 أكتوبر 2023، في وقت كان فيه القصف عنيفًا جدًا، ومعه القنابل الدخانية. انتقلنا إلى مدرسة فيصل بن فهد على أمل أن تكون مراكز الإيواء أكثر أمانًا، ولكن الواقع كان مخالفًا؛ فالوضع في المدرسة كان خطيرًا أيضًا، فقررت العودة إلى بيتي في نفس اليوم، رغم استمرار القصف.
لم يكن الوضع أفضل في بيتي، مما دفعني انا وزوجي وأولادي للانتقال إلى مدرسة تل الزعتر الثانوية، حيث تجمعنا مع أكثر من 8 عائلات، أي حوالي 80 شخصًا، وكان الرجال ينامون في الممرات. بقينا في المدرسة حتى 18 نوفمبر 2023، وفي ذلك اليوم كانت الأحزمة النارية شديدة جدًا، حيث تم استهداف بوابة المدرسة في الساعة الرابعة فجرًا. كنت في الطابق العلوي فوق البوابة عندما تعرضنا للقصف أول مرة، وعندما استوعبت ما حدث، سمعنا قصفاً ثانياً، فقمت بسرعة بحمل أولادي وركضت إلى صف آخر، ولكن الزحام حال دون وجود مكان لنا فيه. أثناء نزولي على سلم المدرسة تم استهداف الصف الذي خرجت منه للتو.
في تلك اللحظات المروعة، تفرقت عن زوجي ولم اعلم مكانه او ماذا حدث له، لكنني وجدته لاحقًا في الممر أثناء خروجي من الصف. عشنا حالة من الفزع والهلع، وصرخت بألم وحسرة بعدما علمت أن القصف أودى بحياة العديد من أقاربي، حيث استشهد 36 شخصًا. وأصبت بصدمة شديدة وبكاء مستمر، لكنني شكرت الله على نجاتي ونجاة زوجي وأولادي. كان المشهد يفوق قدرتي على التحمل، ولم أستطع حتى النظر إليه. بحلول الساعة العاشرة صباحًا، قررنا المغادرة، فانتقلنا إلى معسكر جباليا، حيث لجأنا إلى مدرسة للأونروا. هناك قضينا 8 أيام مع 8 عائلات أخرى. في 24 نوفمبر 2023، عدت إلى منزلي مع بدء الهدنة، لكن الأيام التي تلت كانت من أصعب ما مررت به في حياتي.
بتاريخ 1 ديسمبر 2023، عدت إلى مدرسة الأونروا في جباليا، تزامناً مع الاجتياح الأول للمعسكر. بقينا هناك حتى 8 ديسمبر 2023، وعندما قررت مغادرتها كان الوضع قد أصبح كارثيًا. وأثناء وجودي مع ابنتي مريم، ذات الأربع سنوات، في الحمام، ألقت قوات الاحتلال الإسرائيلي قنبلة دخانية على الحمام. أعجز عن وصف مشاعر الرعب والقلق التي سيطرت علينا، حتى قام بعض النازحين بمساعدتنا للخروج من الحمام. لم أستطع البقاء في المدرسة بسبب سوء الظروف، فقررنا الخروج سيرًا على الأقدام باتجاه مستشفى الشفاء.
خلال الطريق، تفرقت عن زوجي بسبب كثافة النزوح، وتمكنت لاحقًا من ركوب سيارة مع أولادي لنصف المسافة. قضيت ليلة في مستشفى الشفاء، لكننا لم نجد مكانًا للإقامة. فتوجهت مع أطفالي إلى منزل أهلي في منطقة الصناعة بتاريخ 9 ديسمبر 2023. هناك وجدت زوجي. رغم ذلك، كانت الأوضاع هناك في غاية السوء نتيجة القصف المتواصل.
بقيت في الصناعة حتى 29 يناير 2024، عندما اجتاحت القوات الإسرائيلية المنطقة. رأينا الدبابات والقناصات تهاجم مباشرة، وشهدنا استشهاد العديد من الأشخاص أمام أعيننا. اضطررنا للهروب سيرًا على جثث الشهداء، حيث خرجنا عبر الباب الخلفي للصناعة وتوجهنا إلى معسكر جباليا مشيًا. كان الطريق شاقًا للغاية؛ حملت أطفالي وبعض الملابس لهم تحت أمطار غزيرة زادت من معاناتنا. عندما وصلنا إلى مدرسة الأونروا، لم نجد مكانًا للإقامة، مما أجبرني على العودة إلى بيت لاهيا، حيث لجأت إلى مدرسة تل الربيع. بقيت هناك حتى 11 مايو 2024، وسط ظروف قاسية ومعاناة متواصلة.
مع وقوع الاجتياح الثاني على الشمال، قررت مغادرة المنطقة وانتقلت إلى مدرسة دار الأرقم في الكرامة حيث مكثت عند أختي وعائلتها لمدة ثلاثة أيام. ومع تصاعد القصف في الكرامة، قررت العودة إلى بيت لاهيا، حيث لجأت مجددًا إلى مدرسة تل الربيع. بقيت هناك حتى هدأت الأوضاع، وفي 18 مايو 2024 عدت إلى منزلي بعد أن خفت حدة التصعيد.
لكن الهدوء لم يدم طويلًا، ففي 6 أكتوبر 2024، بدأ الاجتياح الثالث على الشمال، وكان هذا الهجوم الأشد قسوة وصعوبة. مع بداية هذا اليوم، اشتد القصف بشكل جنوني، وكانت الأوضاع مرعبة للغاية، خاصة مع اقتراب ذكرى الحرب في 7 أكتوبر. تلك الليلة كانت مأساوية بشكل خاص، حيث تعرض منزل خالتي للقصف، ما أسفر عن استشهاد 6 أفراد من عائلة المصري. تأثرت نفسيتي بشدة جراء هذه الأحداث، وأصبحت أجهش بالبكاء باستمرار. حاول زوجي دعمي وتشجيعي على التحلي بالقوة من أجل أطفالنا، لكن كل ليلة كانت أصعب من سابقتها، تعمقت فيها معاناتنا والخوف من المجهول. بقيت في بيتي حتى 7 نوفمبر 2024، عندما قررت البحث عن مكان آمن في المدارس، لكنني لم أجد مكانًا متاحًا. انتقلت بعدها إلى بيت خالي في شارع المنشية، حيث مكثت حوالي 20 يومًا.
في 12 نوفمبر 2024، خرج زوجي إلى المنزل لجلب علاج للكحة لابنتنا. كنت في حالة من القلق والخوف عليه بسبب خطورة الأوضاع، وبقيت أنتظر عودته بفارغ الصبر. مع تأخر الوقت، ازداد قلقي حتى أصبح لا يطاق. قرر سلفي وابنه الذهاب للاطمئنان عليه رغم خطورة الطريق. عادوا ومعهم الخبر المفجع: زوجي استشهد جراء قصف مباشر من طائرة “الكواد كابتر”، التي ألقت قنبلة على رجليه. كان الوضع شديد الخطورة والطريق محفوفة بالمخاطر، فلم يتمكنوا من نقله إلى المستشفى. دفنوه على الفور، في مشهد مؤلم يعكس عمق المأساة التي كنا نعيشها. مع تدهور الأوضاع بشكل كبير، انتقلت مع عائلتي إلى منزل خالي الثاني قرب مدرسة أبو تمام. مكث أهلي معي هناك لمدة ثلاثة أيام، ثم انتقلوا للإقامة في مدرسة قريبة، وكانوا خلال النهار يذهبون إلى منزل خالي الآخر قرب مدرسة تل الربيع للاستحمام وقضاء الحاجة.
في 30 نوفمبر 2024، كنت في طريقي للاطمئنان على أهلي، أحمل معي بعض الطعام لهم، وقلبًا يملؤه القلق. أثناء الطريق، التقيت بابن سلفي، كانت ملامحه شاحبة وصوته مثقلًا بالحزن، وقبل أن أنطق بأي سؤال، أفلت منه الخبر المروع: البيت الذي كان أهلي يقيمون فيه تعرض للقصف. للحظة شعرت بصدمة شديدة، وأن العالم بأسره قد توقف. كل شيء من حولي أصبح باهتًا، ولم أعد أسمع سوى صوت قلبي ينبض بالخوف. صرخت: “أهلي راحوا!”، وركضت إلى النقطة الطبية.
هناك، واجهت الفاجعة الأكبر: والدي وأمي وأخواتي قد استشهدوا في القصف، حيث استشهد والدي محمد أبو سمرة، ووالدتي نجيبة البابا، وأخواتي وفاء وعبير أبو سمرة، بالإضافة إلى أربعة أفراد من عائلة عليان كانوا معهم في نفس البيت وقت القصف. اختي عبير كانت آخر من تم العثور عليهم تحت الأنقاض، وتم دفنهم جميعًا في نفس اليوم. كان الألم فوق الاحتمال، ومشهد الفقد لا يمكن وصفه بالكلمات، ترك في قلبي جرحًا لا يندمل.
بعد هذه الكارثة، بقيت في بيت لاهيا حتى 4 ديسمبر 2024. ومع تزايد صعوبة الوضع وتفاقم الخطر والقصف العنيف من الطائرات فوق رؤوسنا، شعرت أنني لم أعد أستطيع التحمل. كنت خائفة جدًا على حياة أولادي، فقررت مغادرة بيت لاهيا رغم كل التحديات. سرت على قدميّ إلى سويدي الشاطئ. كانت الرحلة شاقة ومليئة بالخوف، لكن بفضل الله وصلت.
الخوف على أولادي يلازمني في كل لحظة، والحمل ثقيل جدًا على كاهلي. أشعر أن المسؤولية أكبر من قدرتي، وكل يوم أعيش وكأن قلبي على وشك الانهيار. شعور الوحدة يقتلني، وكل قرار أواجهه يملؤني بالخوف من القادم. أعيش على بصيص من الأمل، لكنه أحيانًا يبدو هشًا أمام هذا الواقع المرير.
أشعر وكأنني أحمل جبلًا على كتفي، ومع ذلك هناك شيء في داخلي يقول لي إنه يجب أن أستمر. يجب أن أربي أولادي، أن أعطيهم الأمل، حتى ولو كان العالم من حولنا محطمًا. أحاول أن أبدو قوية أمامهم، لكن في داخلي أنا خائفة دائمًا، خائفة من المستقبل ومن خسائر لا أستطيع استيعابها.