أسيل خالد إبراهيم أبو بطيحان، 20 عاما، طالبة جامعية، أسكن في الزوايدة وسط قطاع غزة.
تاريخ الإفادة: 16/9/2024
أنا أسكن مع والدي، خالد إبراهيم أبو بطيحان، 48 عاماً، ووالدتي منال علي حسن أبو بطيحان، 49 عاماً، وأشقائي: إبراهيم، 26 عاماً، محمد، 24 عاماً، ونادر، 23 عامًا، في شقة في بناية من 3 طوابق تضم 6 شقق سكنية، يعيش فيها جدي وأعمامي وأسرهم، وعددهم 18 فردًا، في بلدة الزوايدة وسط قطاع غزة.
في حوالي الساعة 6:30 صباحا من يوم السبت الموافق 07/10/2023، استيقظت على أصوات انفجارات متتالية، وسرعان ما تبين لي أن الأمر يتعلق بإطلاق صواريخ وأن هناك عملية كبيرة في غلاف غزة، وسرعان ما بدأ القصف الإسرائيلي في كل مكان، واستمر الأمر طوال الأيام التالية، حيث كانت أيام عصيبة مليئة بالخوف والانفجارات لا تكاد تتوقف.
في تاريخ 13/10/2023، علمت من خلال مواقع الأخبار، ومناشير ألقتها طائرات الاحتلال، أن قوات الاحتلال الإسرائيلي تطلب من سكان محافظتي غزة وشمال غزة التوجه إلى ما بعد جنوب وادي غزة، باعتبار أن المناطق الوسطى والجنوب هي مناطق آمنة وفق توصيف الاحتلال. وإثر ذلك استقبلنا في منزلنا أسرة من أصدقاء العائلة (عائلة أبو مسامح) وعددهم 15 شخصا، وكذلك عمتي وعائلتها وعددهم 7 أشخاص، حيث نزحوا إلينا لخطورة الوضع في مناطقهم، علمًا أننا نقطن في بناية مكونة من 3 طبقات تحتوي على 6 شقق، ونحن نقطن بشقة وعددنا 6 أشخاص، وشقة جدي، و3 أعمام كل واحد في شقة.
بدأت الأوضاع تتدهور، ففضلا عن القصف الجوي والمدفعي والبحري وتحليق طائرات الاستطلاع (الزنانات) والكواد كابتر، قطع التيار الكهربائي من الأيام الأولى للحرب، ولم نستطع رفع مياه البلدية التي تأتي ساعتين بالأسبوع لسطح المنزل، وأصبحنا نشتري الماء المالح للغسيل والطهو والتنظيف والاستحمام، وشراء الماء العذب للشرب. وانقطع الغاز فصرنا أنا وإخوتي وأمي نجمع الحطب من الأراضي الزراعية المحيطة بالبيت لنطهو عليه ونسخن الماء للاستحمام، فضلا عن شح الكثير من المواد الغذائية وغلائها الباهظ فالكثير من الأشياء تم الاستغناء عنها لارتفاع سعرها، كالسكر حيث وصل الكيلو إلى 70 شيكلا، والحطب وصل الكيلو إلى 50 -60 شيكلا، وصرنا نجمع الأوراق والكرتون وعلب البلاستيك لإشعالها والطهو عليها بدل الغاز والحطب، واقتصر أكلنا على المعلبات “الحمص والبازيلاء والفول” وشوربة العدس، والكثير من الأيام نأكل فقط خبز وحلاوة وجميعه كان يوزع مجانا من قبل وكالة الأونروا للاجئين كمساعدات
في تاريخ 13/01/2024، ألقت طائرات الاحتلال الإسرائيلي مناشير مكتوب بها ضرورة إخلاء عدد من البلوكات في محافظة الوسطى لأنها معركة قتال خطيرة، وكان بيت العائلة من ضمن بلوكات الإخلاء. قمنا بجمع العديد من الأغراض وانتقلت مع عائلتي للعيش في بيت خالتي، وهي تقطن بالزوايدة ولكن بعيدة عن منطقة الإخلاء، وأعمامي والنازحين الذين كانوا عندنا توجهوا إلى أماكن متفرقة. أصبحت الحياة أصعب وأشد قسوة، وكان صوت القصف الجوي والمدفعي متتاليا ولا يتوقف، فضلا عن مصاعب الحياة التي تزداد يوما بعد يوم. بعد شهر من النزوح عدنا إلى البيت وكان ذلك في منتصف شهر فبراير، وعاد أعمامي والنازحين أيضا، وكان والدايّ يفكران يومياً في كيفية تدبير الأساسيات وتدبير النقود التي أصبحت شحيحة، حتى أننا عندما كنا نريد سحب النقود من البنك ندفع عمولات كبيرة للصرافين، لأن البنوك عمليا تعطلت.
في حوالي الساعة 11:40 مساءً بتاريخ 04/06/2024، تلقى عمي رامي إبراهيم مسلم أبو بطيحان، اتصالا من رقم خاص، عرف المتصل نفسه أنه من الجيش الإسرائيلي، وطلب من عمي بضرورة إخلاء شقته لأنهم سيقصفون البناية، فأخبره عمي أن والده ووالدته وإخوته وعائلتين من النازحين موجودون ويجب إخبارهم، فقال له المتصل معك 20 دقيقة للإخلاء، حيث بقي الخط مفتوحا بين عمي والمتصل. على الفور تركنا البيت جميعا ولم نستطع أخذ أي شيء من أغراضنا. وسرعان ما قصفت قوات الاحتلال البيت ودمرته كليا، وبعد أن دمر المنزل والنار مشتعلة به، أخبر المتصل عمي “أخطأنا بالهدف، نعتذر منك.”
توجهت عائلتي إلى بيت خالتي مرة أخرى، ومكثنا خمسة أيام، حيث نصب والدي وأشقائي خيمة بجوار بيتنا المقصوف، والخيمة كانت عبارة عن سقف من الصفيح (الزينكو) وشوادر من الجوانب وعدنا للعيش بالخيمة أنا وأسرتي.
كان والدايّ يحاولان إخفاء الحزن والخوف الذي يشعران به، ونظرا لمكوثنا جميعا في مساحة ضيقة فكنت أستيقظ على بكاء أمي وعدم تأقلمها على الحياة بالخيمة ومناجاتها لربنا بالفرج ووقف الحرب، فضلا عن صمت أبي ونحول جسده وهذا عكس طبيعته المرحة وحبه لطهو أمي المميز.
وفي حوالي الساعة 1:30 فجرا من تاريخ 16/07/2024، استيقظت على نار مشتعلة بالخيمة، كان أبي ينادي عليّ ويطلب مني الاقتراب منه، لكني لم أستطع الحركة، وكنت أشعر بثقل في جسدي، وبعد ذلك لم أشعر بشيء. استيقظت بسيارة الإسعاف لثواني وبعد ذلك فقدت الوعي، ثم صحوت وأنا بمستشفى شهداء الأقصى في دير البلح. وعلمت أن طائرات الاحتلال قصفت الخيمة التي أقطن فيها مع عائلتي، وأن والدتي وشقيقي الأكبر إبراهيم استشهدا على الفور، أما أبي فكانت حالته خطيرة وأدخل العناية الفائقة حتى استشهد بتاريخ 19/07/2024 متأثر بجراحه. كما أصيب شقيقايّ بجرح طفيفة. وأنا بترت ساقايّ وهو ما حرمني القدرة على الحركة، وحاليًا أن قيد العلاج في مستشفى شهداء الأقصى، ويقوم الأطباء بإجراء عملية تنظيفات مكان البتر يوم بعد يوم خوفا من التهاب الجرح وتدهور حالتي.
طوال فترة الحديث مع أسيل كانت ترسم ابتسامة على وجهها الطفولي، ولكنها لم تستطع مقاومة دموعها التي انهمرت بقوة على وجهها النحيل عندما تحدثت عن إصابتها، دنت مني وقالت لي “أصبحت مصابة بالشلل لا أستطيع الحركة إلاّ بواسطة كرسي متحرك”، متسائلة: كيف سأكمل حياتي وتعليمي الجامعي؟ وتحدثت عن طموحها بالعمل في مجال تخصصها حيث كانت تدرس في المستوى الثالث تخصص خدمة اجتماعية في جامعة القدس المفتوحة. كما تساءلت: من سيساعدني؟ فوالدتي التي كانت بمثابة الأم والأخت والصديقة لي قد فارقتني في محنتي، ليت أمي بقيت!