شهادة بلال أحمد أبو ركبة من جباليا، شمال غزة
“يوم الخميس 14/12/2023، كان من أسوأ وأصعب أيام حياتي وأكثرها خوفًا. جاء هذا اليوم بعد حصار علينا لمدة 13 يوما من الحرب لدرجة أن الشمس لم نشاهدها. كنت أشبه بسجين أنا وأخي الصغير ياسر وأمي وأبي. بعد هذا الحصار الشديد، وفي تمام الساعة 8:55 من يوم الخميس الأسوأ في حياتي، سمعت صوتاً بالشارع. كان الناس والجيران في محيط بيتنا يخرجون ومعهم إضاءات مختلفة الألوان وكشافات الجوال. نظرت من شباك البيت وسألت لأعرف أين هم ذاهبين وماذا يجري، فرد عليّ جارنا أبو محمد التلولي وأبلغني أن الجيش بالحارة وطلب منا الخروج. ذهبت بسرعة إلى أهلي، حيث كانت أمي تقريباً نائمة في فراشها، وأبي كان يسمع الأخبار على أمل أن يكون هناك هدنة إنسانية أو وقف إطلاق النار. قلت لهم: قوموا، الناس والجيران طلعوا من الحارة. حملت الشنط والحقائب اللازمة وخرجنا من البيت ومشينا مع الناس عبر مجموعات لأن القناص الإسرائيلي كان متوقفا على آخر الشارع. سألت الجيران والعم ابو محمد التلولي كيف طلعوا، فقال أن الجيش جاء مشياً على الأقدام من الناحية الشرقية، ونادى عليهم بالاسم وطلب منهم الخروج إلى الشارع وطلب منهم أن يخلعوا الملابس في البرد القارص وأبقاهم في الهواء والبرد القارص تقريبا ٣ ساعات. ثم بعد التحقيق معهم طلب من بعض الناس أن يرجعوا بسرعة لبيوتهم ويطلبوا من النساء والأطفال أن يغادروا المنازل بسرعة لأنهم يريدون حرق الحي، وأعطوهم إضاءات مختلفة وطلب منهم أن يلبسوا ملابسهم بعد ٣ ساعات، وحدد الجنود لهم مساراً لتحرك الناس على الشارع العام باتجاه المعسكر. نزلنا جميعا مع الناس نمشي مع بعض، ووصلنا تقريبا في شارع الصالة، وعند مفترق الشارع تفاجأنا بإطلاق النار علينا من جميع الاتجاهات رغم أننا جميعاً مدنيون عزل. كان أبي وأمي وأخي قد سبقوني بالمشي. في تلك اللحظة التي أطلق بيها الجيش الإسرائيلي النار علينا. كانت أمامي بنت جيراننا تقريبا عمرها ١١سنة، وكانت ترتدي بيجامة النوم لونها أصفر وتحمل شنطة لونها زهري، فجأة ارتمت على الأرض. نظرت إليها وشاهدت الدم يتسلل من تحت رأسها، وأدركت أنها استشهدت على الفور. هنا أنا لم أفكر سوى أنها آخر أيام عمري. تفاجأت بطفلة تانية صغيرة تصرخ خوفاً وتمسك في يدي وبنطالي من إطلاقات النار. حضنت الطفلة وقلت لها لا تخافي يا عم اهدئي ووضعت يدي علي عينيها وجلست علي ركبي، ثم حدث إطلاق نار تجاه مكاني، أصابت إحدى الرصاصات الأرض بالحجارة الصغيرة على الأرض وتناثرت على رجلي ورأس. بدأت أصرخ بصوت عالٍ NoNo، ثم سمعت أخي ياسر يصرخ علي بلال بلال، وصرت أنا أصرخ عليه، ثم سمعته يقول أبويا وأمي. أسرعت رغم الرصاص متجهاً لأخي لأجد أبي بخير واقعاً على الأرض وأمي ملقاة على الأرض وكانت مصابة بعيار ناري في رجلها اليمنى، وأخي يصرخ. لا أعرف كيف حملت أمي أنا وأخي، وتوجهت إلى مخزن قريب. كانت أمي خائفة عليّ أنا وأخي وطلبت أن نتركها في وسط الشارع ونهرب من الموت لكن رفضت كلامها ولم اتركها. اتخذت قرار أني راح أموت معها وما راح أتركها، وتفاجأت أن بعض الجيران والناس دخلوا أيضًا المكان يحتمون من الرصاص. سحبت أمي إلى مدخل المخزن. لم أستوعب ما الذي حدث معنا، كنت فاقداً التركيز والتفكير، وبدأت في محاولة إسعاف أمي بإسعافات أولية من لا شيء. كان أخي يلبس بيجامة فيها حبل، قطعته منها وربطت رجل أمي لأوقف نزيف الدم. وجدت داخل المخزن دماراً من الحجار والخشب، لم أستطع أن أضيئ جوالي حتى لا يحدد القناص أو الطائرة الإسرائيلية مكاننا. ثم وجدت داخل المخزن فراشاً مرصوصاً على طاولة وبعض المساند. أعطيت الفراش للمصابين الذين معنا وهم أمي وجارنا شادي العجرمي، وأعطيت الأغطية للصغار. ثم بدأت أحاول أن أنتبه لأمي، وكنت متعبا ومرهقاً مع حالة من عدم التركيز، كان معي بعض من السجائر فأولعت العديد منها لأحاول استيعاب ما يجري وماذا يفترض أن أعمل. أبي سألني كيف بدنا نطلع من هنا، والخوف داخل عينيه وصوته الخافق!. قلت له ربنا موجود وشايف وعارف بالحال، ولو بدي أحفر الأرض سأسعى لإخراجكم بإذن الله. بدأت بمحاولة تدفئة أمي في بعض الاشياء من ملابسها، وكنت أبكي بشدة، وأخي ياسر يطلب مني أن أهدأ وأن اقويه وأرفع من معنوياته. لم أكن أسيطر على نفسي، أبكي داخل قلبي على أغلى شي في حياتي وهي أمي. بين الثواني والدقائق بدأت أنتظر النهار على أحر من الجمر حتى أفكر وأرى ماذا سأفعل حتى أخرج أهلي والجيران والناس إلى بر الأمان. خلال الليل سمعنا بعض الانفجارات في المنطقة والقذائف العشوائية وكنا نشعر أن الشظايا تتناثر حولنا ولكن ربنا سلمنا. في ساعات الفجر الأولى سمعت الآذان الله وأكبر من بعيد. هنا جلست أنا وأخي ندعو ربنا أن يخرجنا من هذا الضيق، حتى بدأ الصباح الباكر. قمت لتفقد رجل أمي، ثم دخلت من سور المخزن حتى وجدت باب بيت مغلق ففتحته ودخلت البيت، ونقلت أمي المصابة وجارنا المصاب والأطفال والنساء، ثم قمت بترتيب بعض الأمور داخل البيت، وتفقدت ما فيه من أغراض، فوجدت بعض الأشياء لإسعافات أولية لأمي لأن رجلها كانت لا تزال تنزف، فوجدت بعض ملح الطعام وزجاجة ماء عملت منهما محلول معقم ووضعته على جرح أمي النازف. ثم جلست أفكر كيف سنخرج من هنا، وكنت أبكي من قلبي وأبي يسألني ماذا سنفعل؟ ثم قمت بسرعة وطلبت من جارنا داخل المعسكر عبر الجوال أنني بحاجة للمساعدة وأني أريد حمالة إسعاف من عيادة الوكالة، ثم وجدت بلطة، بدأت أهدم بها الجدار حتى أحدثت فتحة خرجت منها لتفقد الطريق. كانت الطريق مكسرة وصعبة جدا ولكن لم أفقد الأمل، تفقدت الطريق خوفا من القناصة أو دبابات الجيش، وشعرت أنها آمنة ولكن صعبة جدا على الخروج بالمصابين منها. ثم جاءني اتصال هاتفي من جارنا أبلغني أنه وصلني ودخل معي إلى الشقة. حملت أمي على الحمالة وأسرعت هاربا من الموت عبر الطريق الوعرة والصعبة، حتى تمكنت من قطع الطريق إلى الشارع الثاني، ووصلت لبر الأمان لأصل بعض أزقة المخيم من الناحية الشرقية، ودخلت مسرعًا خوفا من قذائف المدفعية.
توجهت نحو عيادة الوكالة لعلاج أمي، ووجدت عربة كارو يجرها حمار، ونقلت أمي عبرها لعيادة الوكالة ووصلتها وهناك قال لي الطبيب: ابحث عن إسعاف وانقلها إلى المستشفى المعمداني. لم يكن هناك سيارة إسعاف قريبة من المكان، ونقلت والدتي عبر الكارة ووصلت إلى الإسعاف لأطلب منه أن ينقلني لغزة للمعمداني، ولم يوافق وصرخت عليه، حتى انتبهت طبيبة على الصراخ وجاءت نحوي ونظرت إلى رجل أمي وطلبت مني أن أنقلها لمركز طبي آخر وهو بيت الخير لعمل صورة أشعة داخله، وكان هذا المركز يقع وسط جباليا البلد، فنقلتها على كارة الحمار، وكنت في حالة انهيار، ولم يستطع أبي وأخي أن يأتوا معي لأنهما كانا متعبين. وصلت بيت الخير وصاحب الحمار والكارة رفض أن يأخذ الأجرة وقال لي ربنا يشفي أمك. دخلت إلى المركز وعملنا لأمي تحليل دم وصورة الأشعة. لم يكن هناك عمليات وتم التعامل معها كنوع من الإسعافات الأولية، وتم تركيب محلول وتم تعقيم الجرح ووقف النزيف وتم تجبير رجل أمي.
ثم نقلتها نحو زوجتي وسط الظروف الصعبة جدًا، ووصلت إلى مركز صحي الهلال الاحمر في جباليا حيث كانت زوجتي نازحة هناك وأمنت أمي هناك، والحمد لله على كل حال.”
نسخة تجريبية