يحذر المركز الفلسطيني لحقوق الانسان من التداعيات الكارثية التي يتسبب بها استمرار اغلاق كافة معابر قطاع غزة أمام حركة سفر الحالات العاجلة من المرضى وجرحى العدوان المتصاعد في كافة مناطق القطاع. وتشكل سيطرة القوات الإسرائيلية المحتلة على معبر رفح، المنفذ الأخير لسفر المرضى والجرحى، حلقة مهمة وأخيرة في سلسلة الانتهاكات الجسيمة التي تؤكد الإمعان في ارتكاب جريمة إبادة جماعية بحق سكان قطاع غزة، فمن لم تقتله آلة الحرب لن يوفره الحصار الاسرائيلي المطبق على قطاع غزة ليبقى مصير آلاف الجرحى والمرضى محصوراً على الموت المحقق ولا خيار آخر، بعد تعمد تدمير المنظومة الصحية وإضعاف ما تبقى من قدراتها المنقذة للحياة.
ويرى المركز أن دولة الاحتلال خلقت واقعاً كارثياً وبيئة غير إنسانية وقاتلة لمرضى قطاع غزة، فلا مستشفيات مجهزة تستقبلهم بعد تدمير معظمها، وترك المتبقي منها بلا دواء ومستلزمات وأجهزة طبية بسبب القيود على دخولها. وذلك بالإضافة إلى استخدام الجوع أداة للحصول على أفضلية عسكرية بما يشمل حرمان السكان من أصناف الغذاء الصحي، وتشديد دخول أدوات النظافة والتعقيم لجميع مناطق القطاع ومدينة غزة وشمالها على وجه الخصوص، بحيث يعيش السكان والمرضى في حاضنة خصبة للأوبئة التي أضحت شبحاً يهدد حياتهم بالخطر، مع الخشية من تفشي فايروس شلل الأطفال في قطاع غزة.
وتستكمل القوات المحتلة من خلال سيطرتها على معبر رفح سلسلة انتهاكاتها التي تتعمد فيها الحاق الضرر المادي والبشري بحق مرضى قطاع غزة في سياق تكريس جريمة الإبادة الجماعية، فرغم الحصيلة الكبيرة للضحايا من المدنيين، والتي بلغت نحو (39) ألفَ قتيلٍ، ونحو (90) ألفَ جريحٍ أخرين، بالإضافة إلى انهيار المنظومة الصحية وعجزها عن تقديم الخدمات الصحية، إلا أن القوات المحتلة:
أولاً: تصر على حرمان نحو (14) ألفاً من المرضى وجرحى العدوان ممن تُصنف حالاتهم ببالغة الخطورة ولا يتوفر لهم علاج داخل غزة وفق لمجموعة الصحة في فلسطين. كما بلغ عدد الحالات الحاصلة على تحويلة للعلاج بالخارج (5867) حالة، فيما تنتظر (8010) حالة أخرى حصولها على تحويلة للعلاج خارج القطاع، منهم 57% اناث، ونحو 43% ذكور من مجمل الحالات المرضية، ويشكل الأطفال وكبار السن نحو 43% منها، منهم (4454) حالة مرضية بالغة الخطورة، يعانون من أمراض القلب، العيون، الجهاز الهضمي، ونحو (4500) من جرحى العدوان، و (4380) مريضاً بالسرطان، و (620) مريضاً بالفشل الكلوي.
ووفق ما أفاد به والد الجريح عبد الله معين عطا الغندور، لباحثينا، فإن ابنه في حالة حرجة جداً بعد تعرضه للإصابة بترت قدمه اليسرى على أثرها، وزاد من اصابته اعتداء جنود الاحتلال عليه خلال تواجده في مستشفى الشفاء في مارس 2024، وفي مرة أخرى خلال الاقتحام الثاني للمستشفى الأهلي العربي “المعمداني” وهو ما تسبب بتهتك في عظام القدم اليمنى، مضيفاً بما يلي: “ابني عبد الله يبلغ من العمر 28 عاماً، متزوج وأب لطفلة. تعرض للإصابة نهاية شهر فبراير 2024 في قصف إسرائيلي، ونقل إلى مستشفى الشفاء لتلقي العلاج، هناك قرر الأطباء بتر قدمه اليسرى وتركيب بلاتين في قدمه اليمني بسبب وجود تهتك في العظام. وخلال فتره علاجه وتواجده اقتحمت قوات الاحتلال المستشفى في مارس 2024، واعتدى عليه الجنود بالضرب، وداسوا على قدمه اليمنى كذلك أطلقوا النار عليها من مسافة قريبة، وتركوه ينزف حتى انسحب الجيش من المستشفى. نقلته العائلة إلى مستشفى المعمداني وسط مدينة غزة، لإيقاف النزيف، وأثناء تواجده في مستشفى المعمداني قام الجيش الإسرائيلي باقتحام المستشفى وإخراج المرضى ومنهم ابني بعد الاعتداء عليه مجدداً. ابني يتواجد حالياً في حي الزيتون شرق مدينة غزة، ولم نستطع اخلاؤه كونه ينتظر الموافقة للحصول على تحويلة للعلاج في الخارج لتركيب مفصل لقدمه اليمنى، ولكن اغلاق المعابر يحرمه من حقه في السفر لتلقي العلاج، بل ويحكم عليه بالإعدام كونه في مناطق محاصرة لا يتوفر فيها أي علاج للجرحى”
ثانياً: حتى الأسبوع الأول من شهر يوليو2024، تم الإعلان عن وفاة (436) من مرضى السرطان جراء عدم تمكنهم من السفر لاستكمال العلاج[1]، وذلك بعد عجز المستشفيات عن تقديم الحد الأدنى من الخدمات الصحية لهم، فيما يعتقد أن المئات ممن يعانون أمراضاً مختلفةً لقوا حتفهم بصمت، دون توفر أي احصائيات بشأنهم نتيجة الارتباك في أنظمة الرصد والتوثيق الطبي الرسمية، وكذلك عدم تمكن هؤلاء المرضى من الوصول إلى مراكز الرعاية والمستشفيات لاسيما في مناطق مدينة غزة وشمالها المحاصرة.
ثالثاً: بسبب استمرار العدوان، والنهج الإسرائيلي القائم على استهداف المنشآت الصحية والعاملين فيها المخالف للقانون الدولي الإنساني، الذي يوجب احترام وحماية أفراد الخدمات الطبية القائمين بالمهام الطبية في جميع الأحوال ، فقد اضطر الكثير من الأطباء إلى النزوح و مغادرة قطاع غزة نتيجة استهداف الاحتلال للمنظومة الصحية والعاملين فيها، الذي أسفر عن مقتل ما يزيد عن (50) طبيباً متخصصاً في قطاع غزة خلال العدوان، من بينهم اثنين من أصل خمسة أطباء متخصصين في الباثولوجي، وهو أهم التخصصات في تشخيص وعلاج مرضى الأورام السرطانية. ويقلل كل ذلك من فرص نجاة مئات المرضى والجرحى كنتيجة لقتل وتهجير الكفاءات الطبية ممن كان بإمكانهم القيام بعمليات جراحية تنفذ حياة مئات المرضى والجرحى.
وتقدر منظمة الصحة العالمية (WHO) أن نحو (10) ألاف مريض يحتاجون الرعاية الطبية المتخصصة خارج القطاع بشكل عاجل، من بينهم نحو (750) طفلاً مصاب بالسرطان وأمراض خطيرة أخرى، وما لا يقل عن ألفي مريضـ/ـة بأمراض أخرى تحتاج إلى السفر العاجل لتلقي العلاج، إضافةً إلى الآلاف من جرحى العدوان الحربي المستمر. ويرقب هؤلاء المرضى ورود أسمائهم ضمن قوائم المرضى المسموح لهم بالسفر، غير أن بقاء المعبر مغلقاً ينسف آمالهم بتلقي العلاج المنقذ لحياتهم.
ووفق تقرير نشره المركز سابقاً، بلغ مجموع المرضى الذين نجحوا بالسفر للعلاج بالخارج (4895) مريضـ/ـةً، قبل سيطرة الجيش الإسرائيلي على معبر رفح في السابع من مايو/آيار الماضي، وذلك من أصل (25) ألف مريضـ/ـةً تم تقديم طلبات سفر لهم بغرض العلاج واجراء عمليات جراحية عاجلة غير متوفرة بمستشفيات قطاع غزة، وكانت وتيرة السفر بمعدل (40) حالة يومياً ، ما يمثل (3%) فقط من عدد الحالات المسموح لها بالخروج، حيث كان الاحتلال يضع معايير مجحفة ويرفض جميع طلبات سفر المرضى الذكور ضمن الفئات العمرية الصغيرة. وتجدر الإشارة إلى أن السفر قبل سيطرة الاحتلال على معبر رفح كانت بعد موافقة إسرائيلية لجميع الفئات بما فيها المرضى والجرحى.
المريض م.ل، 30 عاماً، نزح عدة مرات في مناطق جنوب القطاع، وهو بالأساس من سكان حي النصر بمدينة غزة، أفاد لباحثي المركز أن حالته الصحية تتدهور بشكل متسارع بعدما حاول مراراً وتكراراً المراجعة للسفر رغم حصوله على التحويلة قبل إغلاق المعبر، وكان يتلقى ردوداً أنه مرفوض كونها من فئة الاعمار الصغيرة، ويضيف: “ أعاني منذ منتصف العام الماضي من ورم سرطاني في الغدد الليمفاوية والدرقية، وقد أجريت لي عملية جراحية لاستئصال 10 غدد انتشر فيها الورم، وقتها اضطر الطبيب ترك بعض الغدد القريبة من أعصاب الدماغ لخطورة التدخل الجراحي حولها. وبحسب الأطباء من المفترض أن أعاود الفحوصات للاطمئنان بعد أربعة شهور أي في أكتوبر 2023، وهنا لم أتمكن من ذلك بسبب اندلاع العدوان الحربي على غزة واستمراه حتى هذه اللحظة، حيث تأخرت عن اجراء هذه الفحوصات، بل وزادت حالتي سوءاً، عاد الشق الأيمن من رقبتي للانتفاخ مجدداً ولا أستطيع تحريك رقبتي من شدة الألم، بسبب عدم تلقي أي علاج منذ بدء العدوان. أشعر أنه فات الوقت لإنقاذ حياتي من انتشار الورم، وقد قمت بجميع إجراءات الحصول على التحويلة الطبية بتاريخ 30-12-2023، غير انني لم أتمكن من السفر منذ ذلك الوقت”
وباستمرار العدوان الحربي للشهر العاشر على التوالي وتعثر جهود وقف إطلاق النار، وفي ظل غياب أي ضغط حقيقي ورادع لدولة الاحتلال صاحبة السجل الطويل في الإفلات من العقاب، وهو ما توّجها دولةً فوق القانون الدولي بتنكرها لقرارات محكمة العدل الدولية، الصادرة بتاريخ 28 يناير/كانون الثاني، والتي تلزمها اتخاذ تدابير كافية تضمن عدم ارتكاب جريمة إبادة جماعية، ورأيها الاستشاري الأخير الذي أكد عدم أحقيتها في ممارسة السيادة على أي جزء من الأرض الفلسطينية بذريعة المخاوف الأمنية، وهو ما تخالفه القوات المحتلة باستمرار سيطرتها على معبر رفح وإغلاقه.
لذا فإن المركز الفلسطيني لحقوق الانسان يدعو المجتمع الدولي وعلى وجه الخصوص الدول الأعضاء في مجلس الأمن الدولي، بضرورة إيقاظ ضميرها الإنساني للضغط على دولة الاحتلال الاسرائيلي من خلال إصدار قرار ملزم وفق أحكام الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة يضمن إنشاء ممرات آمنة للإخلاء الطبي بشكل عاجل لتمكين المرضى والجرحى العدوان من السفر لتلقي العلاج وإنقاذ حياتهم خصوصاً المرضى والجرحى العالقين في المستشفيات المتبقية بمدينة غزة وشمالها.
إن المركز إذ يرحب بأي جهد يتم فيه إخلاء المرضى كما حدث في حالة المرضى الأطفال الذين سمح لهم بالسفر لاستكمال علاجهم في عدة دول مستضيفة أواخر شهر يونيو/ حزيران الماضي، ويحذر من أي خطوات جزئية يتم فيها السماح لفئات محدودة من المرضى والجرحى وحرمان الكم أكبر منهم كما اعتادت دولة الاحتلال على ممارسة سياسة العقاب الجماعي من خلال معايير مجحفة تخالف اتفاقية جنيف الرابعة وتحرم المرضى من حقهم في التنقل والسفر لتلقي العلاج وإنقاذ حياتهم، بالإضافة إلى حرمان جميع سكان القطاع من حرية الحركة التي كفلتها القوانين الدولية.
كما يجدد المركز دعوة المقرر الخاص بالصحة، وكافة المنظمات الدولية وعلى رأسها منظمة الصحة العالمية بعدم ادخار أي جهد يُنهي معاناة آلاف المرضى والجرحى الفلسطينيين، ويضمن إخلاءهم بطرق آمنة لتلقي العلاج الضروري والعاجل. كذلك يدعو المركز الأطراف الدولية السامية بضرورة الضغط على دولة الاحتلال وضمان امتثالها لكافة المواثيق والأعراف الدولية، وخاصة اتفاقيات جنيف الأربعة، وقرارات محكمة العدل الدولية، ومجلس الأمن الدولي، الداعية لوقف إطلاق النار، وحماية المدنيين بما فيهم المرضى والجرحى.
______
[1] معلومات حصل عليها باحثو المركز من د. صبحي سكيك، مدير عام مستشفى الصداقة التركي الخاص بمرضى السرطان.
نسخة تجريبية