مارس 7, 2024
أيام صعبة في الكنيسة وشهداء بالجملة
مشاركة
أيام صعبة في الكنيسة وشهداء بالجملة

ريم الصوري، موظفة في المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان

تركنا منزلنا في مدينة غزة، يوم ١٣ أكتوبر 2023، بعد أيام من القصف الإسرائيلي المتواصل، وبعد أن وصلتنا رسائل من الاحتلال بإخلاء غزة والشمال والنزوح للجنوب. كان أصعب موقف في حياتنا ما بين النزوح للجنوب أو البقاء في غزة رغم الظروف الصعبة والقاسية التي يشهدها القطاع، وقررنا البقاء في غزة ورفضنا النزوح إلى الجنوب لصعوبة إيجاد مأوى لنا للجوء إليه وخوفا من مخططات الترحيل والهجرة، لذلك أصرينا على البقاء في غزة.

لجأت أنا وعائلتي إلى كنيسة العائلة المقدسة في منطقة الزيتون فيما لجأ باقي العائلة  في كنيسة القديس برفيريوس في منطقة الزيتون أيضاً. كانت ولا تزال أيام صعبة على الجميع من شدة القصف والضرب وعدم الشعور بالأمان، فلا أمان في أي مكان في غزة.

في يوم ١٩ أكتوبر تقريبا الساعة ١٠ مساء، اشتد القصف على المنطقة الموجودين فيها، وتعرضت قاعة كنيسة القديس برفيريوس للقصف، وسمعنا القصف حيث تبعد عنا الكنيسة ما يقارب ١٠٠ متر. تواصلت مع الأقارب هناك لمعرفة الوضع، وعلمت بأن مبنى مجلس وكلاء الكنيسة التابع لها والموجود داخل أسوارها قد تعرض للقصف المباشر دون سابق إنذار. وعلمت من قريبتي التي كنت أتحدث معها بأن هناك عددا من الشهداء والمصابين وآخرين تحت الأنقاض والجميع يبحث والكل لا يعرف من هم الموجودين تحت الانقاض.

بعدها ذهب عدد من الشباب من الكنيسة للمساعدة في الإنقاذ رغم خطورة الوضع بالمنطقة، وبعد ذلك عرفنا أسماء الشهداء والإصابات. كان يوما صعبا علينا بعد أن فقدنا ١٨ شهيداً وشهيدة من اقاربنا وأحبتنا، عدد منهم من الأطفال رحمهم الله، وكذلك كان هناك مصابون.

من الشهداء في ذلك القصف، عائلة مسحت من السجل المدني مكونة من عبد النور سامي الصوري وزوجته فيولا جريس العمش (الصوري) وابنتهما الطفلة علياء عبد النور الصوري، وكذلك عائلة طارق سامي الصوري واستشهد مع زوجته ليزا وليد الصوري وابنهما الطفل عيسى طارق الصوري. ومن الشهداء أيضًا الأطفال الشهداء سهيل ومجد وجولي رامز الصوري، وبقي والداهم بدون أبناء. ومن الشهداء أيضًا يارا جريس العمش (الصوري) وطفليها جورج وجوليت صبحي الصوري، وبقي رب الأسرة صبحي جورج الصوري وحيدا بدون الزوجة والاطفال وهو مصاب بكسور في معظم أنحاء جسمه. ومن الشهداء المسنة إلين حلمي ترزي، ومروان سليم ترزي، وزوجته ناهد ترزي، والطبيب سليمان جميل طرزي، والطفلة سناء عطالله العمش، والشاب وسيم عرفات عكيلة ابن حارس الكنيسة.

في اليوم التالي، تم تشييع الشهداء من ساحة الكنيسة وقد تفاجأنا من هول المشهد وفظاعة الحدث، حيث شاهدت المبنى المنهار والذي كان يضم حوالي ٩٠ شخصا قد مال باتجاه الشمال واستند المبنى على سور الكنيسة والذي منع انهيار المبنى بالكامل وإلاّ لكان عدد الشهداء تضاعف مرات. كان الحدث مريعا ومنظر الشهداء ممددين وملفوفين بالأكفان البيضاء وصلاة الخوري على مثل هكذا عدد هو مشهد فظيع لم تعتده الكنيسة ولم أره في حياتي. رحم الله الشهداء ولطف بأبناء شعبنا جميعا. كما استشهدت بعد شهر تقريبا المصابة ايفا سليم ترزي متأثرة بإصابتها.

الوضع الاقتصادي

ومع استمرار الحرب الإسرائيلي أكثر من 4 أشهر يشهد سوق غزة عجزا كبيرا في جميع المنتجات والمواد الغذائية المطلوبة للسكان أدى الى ارتفاع هائل ومخيف بالأسعار، حيث تذهب إلى السوق فلا تجد سوى بعض المعلبات الصغيرة وبعضها منتهية الصلاحية. وإذا توفرت بعض السلع الأساسية التي يحتاجها الناس تجد أن أسعارها خيالية ومخيفة.

مياه الشرب، تحتاج إلى الوقوف في طوابير طويلة للحصول على جالون مياه سعته ٢٠ لترا، وقد تضطر للانتظار عدة ساعات لتحصل عليه بسعر ٥ شيكل. أما مياه الحمام والاستعمال المنزلي فهي ضمن طوابير الانتظار أمام المساجد والأماكن التي يتوفر لديها بئر مياه، حيث يتعذر وصول المياه إلى المنازل بعد أن دمر الاحتلال البنية التحتية وتعطلت بفعلها قدرة عمل البلديات على إيصال المياه للمنازل.

وكذلك ارتفعت أسعار الدقيق بشكل خيالي، وبلغ سعر كيس الدقيق زنة ٢٥ كجم إلى ١٥٠٠ شيكل والذي كان يباع قبل الحرب بحوالي ٦٠ شيكلا فقط، الأمر الذي دفع المواطنين للبحث عن بدائل الدقيق الأبيض بالشعير والذرة وطحن القسماط الخاص بقلي شرائح الدجاج، وبعضهم طحن علف الحيوانات والطيور.

أما غاز الطهي فقد استهلك المواطنون ما لديهم بالمنازل وما لدى جيرانهم وأقربائهم الذين نزحوا إلى مناطق الجنوب ولم يعد هنالك محطات لتعبئة الغاز أو الوقود بعد أن دمرها الاحتلال ومنع إدخال المحروقات بمختلف أنواعها. ووصل سعر جرة الغاز سعة ١٢ كجم إلى ٧٠٠ شيكل بزيادة عشرة أضعاف عن سعرها الأصلي. أما باقي المحروقات فيتراوح سعر لتر البنزين بين ٤٠ إلى ٥٠ شيكل والسولار ٣٥ شيكل بزيادة ٨ أضعاف عن السابق.

 أما المواد الغذائية المصنعة والمعلبات، فلا يوجد معكرونة مطلقا وعلبة الفول وصل سعرها ١٤ شيكل والتي كان سعرها حوالي ٢ شيكل قبل الحرب، وكذلك معلبات الحمص وقد تجد علبة أو اثنتين لدى البائع من البازلاء أو الفاصولياء وبأسعار مرتفعة جدا وباقي المعلبات من الزيتون المقطع أو الصلصة أو المشروم.

أما البقوليات فقد بلغ سعر كيلو الفول الجاف ٣٠ شيكل والحمص ٢٥ شيكل والعدس المجروش ٣٥ شيل والعدس الحب غير موجود إطلاقا. أما الأرز فقد بلغ سع الكيلو الواحد من النوعية الرديئة ٤٥ ش في حين يصل كيلو الشقحة إلى ٥٥ ش.

ولم يعد هناك أي خضروات أو فواكه في الأسواق، ويتوفر بعض الحمضيات التي تشتهر بها غزة كالليمون والبرتقال والبلانسية. أما البندورة فقد بلغ سعر الكيلو الواحد ٣٥ شيكل ومعظمها صغيرة أو خضراء غير ناضجة وبعض البطاطا التي وصلت ٢٥ شيكل، وهي خضار كانت مشهورة بتدني سعرها باعتبارها يعتمد عليها المواطن الغزي الفقير والغني ولكنها اليوم باتت بأسعار لا يقدر عليها حتى الأثرياء إن وجدوا.

أما مواد التنظيف فقد أصبحت من الكماليات التي يحاول المواطن تقنين استخدامها ليوفر احتياجاته الأساسية، فورق الحمام يصل سعره ٥٠ شيكلا ومواد التنظيف تضاعف سعرها مرة أو مرتين.

كل هذه الأمور قد يحصل عليها المواطن الذي يتوفر لديه راتب أو وجد فرصة عمل أو وجد لنفسه بسطة صغيرة يعتاش منها. وحتى الموظفين يحصلون على رواتبهم بصعوبة بعد أن دمرت المصارف وماكنات الصرافة الآلية، الأمر الذي دفعهم للتوجه لبعض التجار للحصول على رواتبهم مقابل نسبة يدفعها للتاجر قد تصل الى ١٠ % من راتبه …أما معظم المواطنين الفاقدين لأي مصدر دخل فقد تحولوا إلى متسولين أو باحثين عن لقمة عيشهم من الحشائش التي تنبت وحدها في بعض الأراضي الفارغة وحتى في المقابر كالخبيزة والسلق والحماصيص وغيرها من النباتات الربانية.

هذا شرح موجز لحالة السوق يعكس تلقائيا معاناة المواطن في غزة والشمال الذي يبذل يوميا عدة ساعات من يومه في البحث عن طعامه وطعام أسرته وعليه أن يجري من الصباح ليوفر الحطب الذي أصبح الوقود البديل اليومي العادي للغاز، أو لإيجاد جالون مياه للشرب أو لتعبئة برميل المياه للاستخدام اليومي للطهي والتنظيف والحمام ..أو أن يمضي يومه للحصول على كيلو من الطحين الاسمر او الذرة او الشعير لعجنه وخبيزه ….

ويبقى أن نذكر بأن معظم المواطنين باتوا مهجرين داخل مدينتهم فقلة من الناس ما زالوا يقطنون بيوتهم. فلا أحد يقطن حي تل الهوا ولجأ سكانه إلى شرق غزة ليعيشوا في المدارس أو بيوت الأصدقاء. وهرب سكان الشرق إلى غرب غزة ودخلوا بيوت المواطنين المتروكة وعاشوا فيها منذ عدة أشهر. ويتنقل الناس داخل غزة من منطقة إلى أخرى حسب الهجوم اليومي المتوقع لقوات الاحتلال. فإذا استهدف منطقة رحل سكانها إلى منطقة أخرى وتنقلوا عدة مرات حتى باتت بيوتهم ليست لهم وقد يسكنها أناس غيرهم وهم يسكنون بيوت غيرهم أو يعيشون في مدرسة لا يتوفر بها أي مقومات للحياة الآدمية فهي غير مهيأة للأعداد الكبيرة التي التجأت لها بحثا عن الأمان.