أحلام على محمد الأقرع، 49 عامًا، أم لأربعة أبناء منهم طفل، محامية بالوحدة القانونية في المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، حاصلة على الدكتوراة في القانون الدولي.
بحثت بين مفردات معجم اللغة العربية لأصفَ ما أعيشه الآن فخانتني الذاكرة ولم أتذكر أي شيء يصفُ مدى الخوف والقلق الذي نحن به… أكتب هذه الكلمات وصوت المدفعية تقصف بكثافة في محيط المكان الذي نزحت إليه، وصوت الطائرات يحلق فوق رؤوسنا بشراسة، رائحة الموت تعبق في المكان، وخوفي من فقدان عزيز لي بات يلازمني، فقد فقدت الأمن والأمان وأصبح الموت روتينياً لحد يجعلنا نجاوره ونحاوره كل ليلة!
في كل صباح أحمد الله على نعمة الحياة، وإن كانت فقط حياة مع كثير من الحزن والأسى فما زلنا أحياء، ولم يصبنا أي من القذائف أو الصواريخ التي تطلقها المدفعية أو الطائرات الإسرائيلية تجاه منازل المواطنين المدنيين.
أتذكر أنه في 12 أكتوبر 2023 وحوالي الساعة 10 ليلاً، كنت متواجدة في غرفة المعيشة في بيتي الواقع في منطقة الصفطاوي شمال غزة، أتحدث مع زوجي عما حدث لابنة أخيه وزوجها وأطفالهما الذين استشهدوا نتيجة القصف العنيف لمنطقة سُكناهم. وكنا نسمع كثافة القصف لمنطقة الكرامة، وفجأة شعرنا بوهجٍ أحمر يدخل علينا من النافذة وصوت انفجار هزّ المنطقة بأكملها. فوراً ودون تفكير خرجنا من المنزل وتوجهت أنا وزوجي وابنتي ديما، ٢٠ عاما، وطفلي محمد 10 أعوام، إلى منزل شقيقي الذي يقطن معنا في نفس المنطقة من أجل قضاء باقي الليل عندهم خوفا من حدوث قصف آخر علينا. كان في منزل شقيقي حوالي 28 شخصا وهم: والديّ، أختي وزوجها وأولادها، إخوتي وأفراد عائلاتهم، حيث نزحوا من منازلهم من شدة القصف. أصبحنا 33 شخصاً داخل المنزل.
قضينا جزءًا من الليل، سمعنا فيه صوت الإسعافات وسيارات الإطفاء وهي تحاول انتشال الشهداء والجرحى من تحت الأنقاض نتيجة القصف الذي وقع على منزل سكني مأهول بالسكان. في ساعات الليل الأخيرة تلقينا خبرًا بأن الناطق باسم قوات الاحتلال الإسرائيلي أعلن عبر صفحته الفيس بوك بضرورة خروج سكان شمال غزة ومدينة غزة إلى جنوب الوادي.
هنا بدأ شعور أن ما يحدث في هذه الحرب ليس كسابقاتها من حروب وتصعيدات، وقد أخذنا هذا الموضع على محمل الجد لأن شدة القصف الإسرائيلي وما ينتج عنه من تدمير وقتل واضح بأنه سيكون الأشرس والأعنف على غزة. بعد تشاورات تم الاتفاق على النزوح إلى منطقة النصيرات، وسط قطاع غزة، عند أحد أصدقاء العائلة. وبعد عدة محاولات تمكنا من الاتفاق مع 4 سيارات لنقلنا في ساعات الصباح الأولى إلى النصيرات.
في حوالي الساعة الخامسة فجراً عُدنا إلى منزلي من أجل إحضار بعض الملابس لأخذها معنا. لحظة خروجي من منزلي تذكرت حياتي التي عشتها فيه وكأنّ فيلم قصير يمر في ذاكرتي، كانت لحظات قاسية جداً على قلبي .. تأملت ُ جدران منزلي كأنني أودع حياتي السابقة، كنت خائفة ألا نعود إليه ثانية، شعور لا يمكن وصفه، فقد اختلطت مشاعر الخوف من المجهول الذي سنذهب إليه والأمل في العودة وعدم فقدان أي شخص منا.
شعوري الداخلي بأنني سوف أعود إلى بيتي وأنها أيام قليلة فقط انعكس على ملابسنا التي وضعناها في حقائب صغيرة لكلٍ منا.
النزوح القسري
في حوالي الساعة 8 صباحاً، وصلت السيارات وبدأنا رحلة نزوحنا القسري. ركبنا في السيارات، حيث ركبت السيارة الأولى أنا وأبي وأمي وزوجي واثنان من أبنائنا. سلكنا الطريق من شارع صلاح الدين، وطوال الطريق من الصفطاوي حتى النصيرات كانت والدتي البالغة من العمر 80 عاما تقريباً تبكي والخوف والقلق ظاهر على معالم وجهها خوفاً على أولادها وأحفادها من جهة، وأنها لن تعود إلى بيتها مرة أخرى كما حدث معهم في عام 1948 من جهة أخرى.
وصلنا منزل صديق العائلة الذي قابلنا بالترحيب والاحترام. وبعد تشاورات مع أفراد العائلة تم تقسيمنا إلى جزئين، جزء يتوجه إلى رفح عند بيت خالتي وجزء يبقى في النصيرات. وبالفعل بعد حوالي ساعة حضرت السيارات لتنقل إخوتي وأولادهم وأبي وأمي وأخواتي .. كانت من أصعب اللحظات التي مرت بي خوفنا من كون هذا اللقاء الأخير بيننا جعلنا نبكي.
أتذكرُ طفلي وهو يعانق أولاد أخي الصغار الذين يلعبون معه وهم يبكون ويقولون لبعضهم ببراءة الطفولة (دير بالك على حالك).
بقيتُ مع أفراد عائلتي وعائلة أختي في النصيرات وبعد ساعات من وجودنا نزح بعض الأقارب والأصدقاء إلى المنزل والمكون من طابقين.
أنا وحوالي 30 شخصا أقمنا في الطابق الأرضي والباقين في الطابق العلوي. كانت وجوهنا (النازحين) متشابهة، شاحبة ويملؤها الخوف من المجهول ولغة العيون كانت السائدة بيننا، حيث كنا نحاول أن نُطمئن بعضنا أنها أيام قليلة وتنتهي هذه الحرب ونعود إلى بيوتنا وينتهي هذا الكابوس المخيف الذي نعيش فيه.
كانت الليلة الأولى من أصعب الليالي، فقد مكثنا في غرفة مساحتها 3×3 تقريباً وبداخلها 14 شخصا (النساء والأطفال).
أذكر في هذه الليلة أنني حاولت أن أغمض عيني ولكن شعور أن قذيفة ما ستسقط علينا دفعني إلى عدم النوم حتى الصباح.
في اليوم التالي، كنا جميعاً نتلهف لسماع خبر ما عن وجود هدنة أو وقف إطلاق نار ولكن مع الأسف كنا نسمع أن الموت قد طرق أبواب غزة والدمار حل بها. مرت الأيام ولا جديد .. قتل، تدمير، ألم وحزن، فقط لا غير، حتى أنني كرهت الاستماع للأخبار حتى لا أنقل لغيري شعوري بالخوف واليأس مع يقيني التام أن الخوف أصبح مكانه في قلوبنا جميعاً.
من بين الأيام التي لم ولن أنساها ما حدث من قصف قريب جداً منا، حتى إن البيت أصبح لونه أحمر وصراخ طفلي الهستيري، بعد أن احتضنته بدأ بالصراخ (بابا بابا طلع بدي بابا )، خرجت معه على الباب للبحث عن والده وفور رؤيته له بدأ يصرخ (بابا ما تطلع) وبعدها بدأ يتقيأ من شدة الخوف.
شعور صعب عندما يذهب رب الأسرة إلى السوق لشراء بعض الخضروات والطعام لأولاده ويحدث قصف داخل السوق وهو في داخله، ولا يوجد اتصالات حتى نتأكد أنه بخير ولم يصبه أي مكروه، لقد حدث هذا الموقف معي مرات ومرات وكل مرة يراودني شعور الخوف والقلق من الفقد.
انتظار ساعات طويلة من أجل شراء ربطة خبز ولكن ساعات الانتظار تبوء بالفشل وهذا ما حدث أكثر من مرة معنا.
طبائع تطبعنا بها لم نعهدها من قبل، طهي الطعام على النار لعدم توفر غاز الطهي والخبيز الذي يأخذ ساعات طويلة لخبزه على النار.
في نهاية نوفمبر 2023 بدأ الدقيق ينفد بالكامل من منطقة نزوحي (النصيرات) وإن وجد بصعوبة جدا وكان سعر ال25كيلو يصل إلى 700شيكل. لم يتوفر لدي من الدقيق غير 10كيلو فقط وهذه الكمية قليلة لا تكفي لعدة أيام فقط، اضطر زوجي هو وبعض النازحين معنا من شراء مجروش الذرة ( أكل مخصص للحيوانات) من أجل وضعه مع باقي الدقيق حتى يكفي لفترة أطول.
بدأت معاناتي مع طفلي الصغير برفضه التام أكل هذا الخبز المخلوط بالذرة بسبب قساوته ومحاولتي إقناعه بأكله قابلها إصراره بالرفض. ولكن الجوع وعدم وجود بديل كان أقوي من محاولات الإقناع، كنت اراقبه وهو يأكله وقلبي يعتصر حزنا على هذا الوضع غير الإنساني الذي حل بنا.
شهدنا أياماً غاية في الصعوبة لا يمكن لبشر أن يتحملها (ولكننا فعلنا وللحلم بقية)، قصف عنيف وفي كل مكان قتلى وجرحى وهدم منشئات مدنية في أماكن ادعى الاحتلال أنها مناطق آمنة.
حالة من الخوف كانت تجتاحني عند مرور أيام عدة دون تمكني من الاطمئنان على أبي وأمي وباقي أفراد عائلتي بسبب قطع الاتصالات وشبكات الانترنت، وعندما تعود الاتصالات يصيبني الحزن أكثر عندما أسمع خبر قصف منزل لأحد الأقارب أو الأصدقاء أو إصابتهم وقتلهم.
الآن لا يوجد مقومات للحياة لا يوجد مأمن أو ماء أو طعام غير معلبات مليئة بالمواد الحافظة أو طعام مليء برائحة الدخان المسموم. حقاً أعادتنا هذه الحرب إلى العصر البدائي.
صوت الطائرات والمدافع والقصف الكثيف كفيل أن يجعل التوتر والضغط النفسي والعصبي يلازمنا على الدوام .. حاولت أن أخفف هذا التوتر والضغط عني وعن طفلي الصغير البالغ من العمر 10 سنوات من خلال شراء دفتر وقلم له لكي يرسم ويكتب ما يجول في خاطره. أتذكر عندما رسم أول رسمة له، بدأ يشرح لي عن دبابة تطلق النار على الناس وأخرى تهدم منزلا، كانت رسومات صغيري تدل على أنه لا يوجد في مخيلته إلا الحرب التي يعيش فيها. وعندما قرأ لي ما كتبه عن رحلته إلى سوق دير البلح مع والده وقت الهدنة لشراء كرة وبعض الأشياء البسيطة، كانت لغته البسيطة تدل على مدى فرحته لشراء بعض الأغراض البسيطة.
تألمت كثيراً على حالنا الذي وصلنا إليه وعلى أطفالنا الذين يعيشون حياة لا تليق بطفولتهم، فقد شابت قلوبهم خوفاً من شدة القصف الذي يسمعونه في كل لحظه، وتبدلت كل أحلامهم وأصبحت ألعابهم عبارة عن حرب.
مساء يوم 15/11/2023 لا يمكن أن يُمحى من ذاكرتي وهي وفاة خالة زوجي النازحة معنا والبالغة من العمر حوالي 80 عاماً، حيث كانت تعاني من مشاكل صحية؛ وبسبب نفاد الدواء وعدم التمكن من صرفه من وزارة الصحة بسبب حالة الطوارئ (هو علاج خاص بالرئة وغير متوفر الصيدليات) حيث حل السكون والحزن على الجميع. بصعوبة تم الاتصال بسيارة الإسعاف بسبب القصف في المنطقة ونقلت إلى مستشفى شهداء الأقصى. وفي اليوم التالي بدأت المعاناة في البحث لها عن قبر من أجل دفنها فيه بسبب كثرة عدد الشهداء والوفيات، ولا يوجد أماكن لدفنهم حيث كانوا يدفنون في مقابر جماعية، بصعوبة تم بناء قبر لها داخل مقبرة البريج وتم دفنها به دون أن يُلقي عليها نظرة الوداع غير القليل من أولادها.
أتذكر قبل وفاتها بعدة أيام وهي تتحدث عن أحفادها وعن أملها في انتهاء الحرب والعودة إلى منزلها لتطهو لهم جميع ما يحبونه من الطعام.
المعاناة مستمرة ومريرة ولكن بالرغم من كل الظروف أؤكد بأن نساء غزة وأنا واحدة منهن هزمن المقولة المأثورة
“فاقد الشيء لا يعطيه.” فبالرغم من الخوف الذي يملأ قلبي إلا أنني كل يوم أحاول هزيمته لأكون قوية أمام أطفالي وأمنحهم بعض الأمان وأخبرهم أن ما يحدث سوف ينتهي ونعود إلى حياتنا السابقة.
كل يوم يمر علينا في الحرب لنا فيه حكاية مريرة، أصبحنا لا نحتمل أي خبر نسمعه فكلها أخبار تدمي القلب، فلان قتل هو وجميع أفراد عائلته نتيجة قصف منزلهم، نازحون قتلوا داخل مدارس للإيواء. لا يوجد مكان آمن في قطاع غزة من شماله لجنوبه، وأكذوبة قوات الاحتلال أن منطقة جنوب وادي غزة مكان آمن كُشفت، فقد استشهد الآلاف من المدنيين النازحين في تلك الأماكن. ففي منطقة نزوحي النصيرات وهي وسط القطاع لا يمر يوم إلا وهناك غارات عنيفة وسقوط شهداء وجرحى وهدم منازل على رؤوس ساكنيها. فأشباح الموت تتكدس في الطرقات والبيوت، والموت هو الحقيقة الوحيدة التي تنهار أمامها كل المسميات.
يا لها من مفارقة قاسية لهذا العالم المتحيز للقوة وليس للعدل، فليلة رأس السنة وكل العالم يحتفل بالعام الجديد يأتي لي خبر هدم منزلي في منطقة الصفطاوي من قوات الاحتلال الإسرائيلي، لحظة سماعي الخبر تماسكت للحظات لكن سرعان ما انهار قلبي من البكاء قبل عيوني.
شعرت بحزن وكسر كبير وأن حلمي بأن أعود إلى بيتي انتهى، تمنيت لحظتها لو أنني وضعته في الحقائب الصغيرة التي أخذتها معي عند نزوحي منه.
انتقلت في لحظات لمرحلة جديدة من التفكير بدل العودة للمنزل، العودة إلى الخيمة وأين ستكون وكم من الوقت سأقضي فيها أيام؟ أشهر ؟…. الله أعلم.
تذكرتُ أمي عند خروجنا فقد كانت تبكي خائفة من عدم العودة لبيوتنا. لقد صدق إحساسك يا أمي فأصبح شمال غزة كله بلا مأوى وليس نحن فقط.
لا يمكن لأحد أن ينسى بيته ومملكته الذي عاش فيه حياته بكل تفاصيلها، فكل صورة التقطها بكاميرا جوالي لطفلي في إحدى زواياه لا يمكن نسيانها فهي محفورة في قلبي قبل عقلي.
أحاول أن أستجمع قواي لأنهض من جديد، لأني على يقين تام بأن الله اختار لنا الافضل وأنه رحيم بعباده، فالحمد لله على كل شيء.
أمام كل هذا الخراب والقتل والدمار، وصرخات الأطفال والنساء يجب على المجتمع الدولي أن يتحرك وبشكل عاجل لوقف إبادة كاملة لأكثر من ٢ مليون نسمة.
أكتب لكم ونحن في اليوم 121 للحرب على غزة وهناك حديث عن وجود هدنة. تأملت في وجوه النازحين معي حيث هناك بارقة أمل بدأت تظهر في حديثهم بأنه اقترب موعد عودتهم إلى مكان سكناهم، وحتى إنْ كانت منازلهم مهدومة سوف يعيشون داخل خيمة على أنقاضها.
كل هذا الوقت مر وعشرات الآلاف من المدنيين سقطوا بين شهيد وجريح. أما آن الأوان للمدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية وللمجتمع الدولي أن ينظروا لكل هذه الجرائم التي ترتكبها قوات الاحتلال الإسرائيلي بحق المدنيين؟!
نسخة تجريبية