يناير 31, 2025
44 يومًا من الحصار والجوع برفقة جثامين أفراد من أسرتي
مشاركة
44 يومًا من الحصار والجوع برفقة جثامين أفراد من أسرتي

فاطمة أنور لطفي الجخلب،٣٥ عاما، متزوجة، سكان خانيونس.

تاريخ الإفادة :٢٤/١/٢٠٢٥                                           

أنا متزوجة من محمد خميس قنديل، ٣٥ عاما، أسكن في شقة في عمارة من ٣ طوابق في السطر الغربي في خانيونس، وأعمل معلمة في روضة أطفال.

في حوالي الساعة ٦:٣٠ صباح ٧/١٠/٢٠٢٣، كنت بدأت تجهيز نفسي للذهاب لعملي، وفجأة بدأنا نسمع اصوات انفجارات قوية. في البداية اعتقدنا أنه تصعيد عادي كالذي يحدث في كل مرة، ولم أكترث للأمر وأكملت تجهيز نفسي، ولكن بدأت الاصوات تتعالي شيئًا فشيئًا وشعرت ان ما يحدث غير عادي، لذلك توقفت عن تجهيز نفسي وبدأت أتصفح القنوات الإخبارية لأفهم ما الذي يدور حولنا، وحينها عرفت بأنها بداية حرب وقدرت أن الأمور ستكون صعبة. على الفور أعلنت الروضة تعليق الدوام حتى إشعار آخر. ومنذ تلك اللحظة بدأت الأحداث تتزايد، لتبدأ المجازر واستهداف المدنيين المسالمين في بيوتهم، حيث أن الاستهدافات أصبحت لا تفرق بين مدني كبير أو صغير أو حتى نساء، حتى أن الاستهدافات لم تميز المباني سواء مدرسة أو مسجد أو جامعة أو أبراج سكنية، فأصبح كل شخص ومكان في قطاع غزة هو محط أنظار جيش الاحتلال. كانت الاستهدافات جزءا من يومنا نستيقظ على أصوات انفجارات، وقذائف دبابة، والاشتباكات وقنابل الإضاءة، فكانت بين الحين و الأخر تصلنا شظايا الاستهدافات بالقرب من بيتنا.  بقينا في المنزل رغم الخطر الذي يحيطنا، ولكن حدث ما لم نكن نتوقعه، في حوالي الساعة ٣:٠٠ عصر ٤/١٢/٢٠٢٣، بدون سابق إنذار، بدأت قوات الاحتلال بشن حزام ناري في المنطقة أدى لزلزلة المنطقة بالكامل وكان يرافق ذلك أصوات الدبابات وإطلاق النار والقذائف وقنابل الإضاءة، كان حدث لا يمكن وصفه أو نسيانه.  كنت حينها متواجدة في البيت أنا ووالدتي (بسمات،٦٠عاما)، ووالدي (أنور، ٦٩عاما)، عمتي (نجوى،٦٥عاما)، أخي(أحمد،٢٧عاما) وزوجته (نغم،٢٢عاما)، وأختي (مها،٣٤عاما) وكانت حامل في شهرها التاسع، وابنها(أحمد، عامان ونصف)، وأخي(محمد، ١٥عاما).  ومن شدة القصف تجمع كل من بالبيت في الطابق السفلي في زاوية بعيدة نوعا ما عن الشبابيك، لأن جميع شبابيك البيت تكسرت وزجاجها قد تناثر نتيجة الحزام الناري، ومن شدة الحدث لم نستطع حتى إخلاء المنزل، لأن والدي مقعد علي كرسي متحرك، ووالدتي كبيرة بالسن وأختي حامل ومعها طفل صغير، وكان من الصعب عليهم الخروج والركض في الشارع لنستطيع الهروب.  استمر القصف والأحزمة النارية أكثر من ٤ ساعات،  وحاولنا التواصل مع الصليب الأحمر في تلك الاثناء ولكن أخبرونا بأنهم لا يستطيعون القدوم لإنقاذنا بحجة أن المنطقة خطرة.  سلمنا أمرنا لله، ومع حلول الليل توقفت الأحزمة النارية، لذلك بسرعة كبيرة توجهنا للطوابق العليا وأحضرنا مستلزماتنا من فرشات وحرامات وبعض اللوازم. وما أن جهزنا مكانا بعيدا عن الشبابيك والأبواب، لننام فيه جميعنا، فجأة بدأنا نسمع اصوات الدبابات تقترب، لذلك تحسباً من أن تصلنا فبدأنا تجهيز بعض المستلزمات حتى نستطيع الخروج في صباح اليوم التالي قبل أن تصلنا الدبابات. لكن كانت الأحداث تتسارع، وقبل منتصف الليل، كانت الدبابات قد تمركزت أمام منزلنا، و كانت هذه اللحظة بداية الحصار لنا، حيث إنه في هذا الوقت كانت دبابات جيش الاحتلال تطلق رصاص عشوائيا علي جميع المنازل في المنطقة. لهذا وحتى لا نشعر جيش الاحتلال بتواجدنا داخل المنزل كنا نلتزم بعدم الحركة حتى لا تصدر أصوات يسمعها جنود الجيش، خوفاً من أن يقوموا حينها بهدم المنزل فوق رؤوسنا. لذلك كنا لا نتحرك كثيرا في المنزل وجلسنا في غرفة بجانبها الحمام، وعندما نريد الذهاب للحمام نزحف زحفا حتى نصله. أما بالنسبة للمياه فكانت مازالت متوفرة في المنزل مياه الشرب والاستخدام، أما الطعام فكنا نتناول المعلبات التي لا تحتاج للطهي، حتى لا تخرج من المنزل ريحة طعام، ويشعر حينها جيش الاحتلال بوجودنا، وكنا نختار الأوقات التي نسمع فيها أن أصوات جنود الجيش بدأت تبتعد عن المنزل لنقضي حاجتنا ونتناول الطعام. ومع حلول أذان المغرب واختفاء الضوء من المكان، كنا نلتزم أماكننا لأن في هذه اللحظات ومع اقتراب الليل تكون الأصوات مسموعة بشكل كبير. واستمرينا علي هذا الحال ١٠ أيام، وخلال هذه المدة كان جيش الاحتلال يطلق الرصاص علي جدران البيت صباحا ومساء.

وفي حوالي الساعة ١٠:٠٠ صباح ١٥/١٢/٢٠٢٣، كنا نجهز طعام الإفطار وفجأة شعرنا بأن السور الخارجي للمنزل يسقط وأصوات الدبابة تقترب بشكل كبير. على الفور، تجمع كل من في المنزل في المطبخ وأغلقنا الباب بشكل محكم ووضعنا خلفه جالونات زيت الزيتون وبعض المعدات على أمل أن لا يستطيع الجيش فتح الباب.  وبعد دقائق، إذ بالرصاص يخترق باب المطبخ وبشكل كثيف، تبعه إلقاء قنابل داخل المطبخ من خلال الفتحات التي كانت تفتح بسبب اختراق الرصاص، مما تسبب بإصابتنا جميعا نتيجة انفجار القنابل داخل المكان. ومع استمرار إطلاق الرصاص، استشهد والدي (انور)، الذي كان يجلس خلف الباب مباشرة، وخلفه عمتي (نجوى)التي استشهدت أيضا، وتبعتهم أختي (مها) هي وجنينها الذي تحمله في شهره الأخير. أما نحن البقية، فأصبنا في أنحاء جسمنا. بعد ذلك، صرخ الجنود لنفتح لهم الباب بعد محاولات عديدة منهم وعدم قدرتهم علي فتحه. وفي هذه الأثناء، كان أخي أحمد مصابا بشظية في فمه والدم ينزف منه بشكل كبير، وأنا كنت مصابة في كتفي، ووالدتي أصيبت بشظية في ظهرها وشظايا في أقدامها، وزوجة أخي في رأسها، وأخي محمد في قدميه، وابن اختي أحمد كان مصابا بشظية في بطنه وكان ينزف بشكل كبير أيضا. وتوجه أحمد لفتح باب المطبخ، وما أن قام بفتحه حتي أصابوه في رأسه مما أدى لاستشهاده علي الفور. كانوا حينها ما يقارب ١٠ جنود إسرائيليين، وبعد ذلك أمرونا أن نخرج خارج المنزل، وأخرجونا إلى الحديقة الخارجية، وأمرونا بالجلوس على الأرض على ركبنا وأن نرفع أيدينا خلف رؤوسنا. وبدأت مرحلة التحقيق، و كانوا حينها ٥ جنود وكانوا يصوبون الأسلحة نحو رؤوسنا، وبدأوا بالأسئلة وبشكل خاص كانوا يوجهون الأسئلة لأخي محمد، ولكن لأنه مصاب ولا يستطيع الكلام حينها كنا نقوم أنا وأمي بالإجابة عنه بشكل فوري حتى لا يتهور أحد الجنود ويقوم بضرب أخي وهو مصاب. كان التحقيق يتمحور في البداية عنا بشكل شخصي، بعد ذلك عن المنطقة، المساجد، الأنفاق وغير ذلك من الأسئلة. وأثناء التحقيق، ذهب بعض الجنود للمنزل وبدأوا بالتفتيش فيه وأخذوا جميع الهواتف المحمولة واللابتوبات. وبعد أن أنهوا التحقيق تركونا ما يقارب ساعة بالخارج، بعد ذلك أمرونا برفع راية بيضاء والخروج من المنزل، وما أن هممنا للخروج حتي تراجعوا عن هذا القرار، وأمرونا بالعودة للمنزل وإغلاق الباب علينا وعدم التحرك داخله.  وعدنا للمنزل مرة أخرى وكانت حينها جثث الشهداء من عائلتي ملقاة على أرض المطبخ، فدخلنا للمنزل وبدأنا بتعقيم الجروح بواسطة القطن والمعقم. وكانت حالة ابن أختي أحمد تزداد سوءا بشكل كبير والنزيف لا يتوقف، وما أن مضى بعض الوقت حتي فارق الحياة و لحق بأمه شهيدا وبهذا لم يتبق في المنزل سوى أنا وأمي وأخي الصغير وزوجة أخي. وبعد أن قمنا بتضميد إصاباتنا، قمنا بإغلاق باب المطبخ على الشهداء ومكثنا في غرفة قريبة من الحمام، وحل الليل الموحش، وحاولنا النوم ولكن لم نستطيع، فكيف ننام ونحن فقدنا عائلتنا؟ هذا إلى جانب القلق المستمر بأنه ماذا سوف يحل بنا، ونحن محاصرون، ومصابون، والشهداء مقابلنا. وانقضت الليلة الأولى. وفي اليوم التالي بدأنا تجميع المعلبات من المنزل وكل شي لا يحتاج للطهي، من الدقة والزعتر والحلاوة، وكنا نتجنب الحركة الكثيرة داخل المنزل، ولا نذهب للحمام إلا حينما نشعر ببعد حركة الجيش عن المنزل، ومع حلول الليل نمكث في أماكننا ولا نتحرك حتى الصباح، حتى إذا احتجنا للذهاب للحمام نقوم بالضغط على أنفسنا حتى الصباح لنستطيع قضاء الحاجة. وبعد مدة قليلة نفذت كمية المعلبات المتواجدة في المنزل، لذلك قمنا بوضع الغاز تحت الدرج بعيدا عن الشبابيك، لنقوم بتجهيز الطعام حتى لا تظهر رائحة الطعام للخارج، فكنا نقوم بتجهيز فطائر الخبز والمعكرونة. لم نذق للأكل طعماً في هذه الظروف، وكنا نتجرعه للحفاظ على أرواحنا أطول فترة ممكنة، لا يهم ما الذي نتناوله ولكن المهم أن لا نموت جوعا. أما بالنسبة لجيش الاحتلال فكان هناك دوريتان، دورية صباحية ودورية مسائية، في الوقت الذي تستلم فيه الدورية وقتها تبدأ بإطلاق الرصاص بشكل مباشر على المنزل لإلحاق الضرر والأذى بنا وبالمنزل، هذا إضافة إلى أصوات الكلاب التي كانت تقف دائما أمام باب المنزل و تبدأ بالنباح. هذا إضافة إلى أن جيش الاحتلال كانوا يدخلون لحديقة المنزل ليقطفوا الثمار المزروعة من برتقال وليمون و تفاح، فكان عندنا حديقة تحتوي علي أنواع عدة من الفواكه والخضروات، فكانوا يتلذذون بقطفها ونحن نتضور جوعا داخل المنزل. ومع حلول الليل كان جنود الاحتلال يتعمدون إضاءة الكشافات على شبابيك المنزل بشكل مفاجئ، حيث يقومون بإضاءة وإطفاء الكشافات بشكل متكرر، هذا إضافة لإلقاء القنابل الضوئية داخل حديقة المنزل لتتوهج بضوئها الأحمر حتى نشعر للحظة أن المنزل بدأ يحترق بنا، واستمرينا على هذا الحال ٤٤ يوما.

وفي حوالي الساعة ١١:٠٠ صباح ٢٩/١/٢٠٢٤، بدأنا نشعر بحركة كثيرة في المنطقة، لذلك التزمنا في المكان الذي نجلس فيه، وبدأنا نشعر أن الاصوات تقترب، أصوات حركة أقدام. اعتقدنا أن جيش الاحتلال عاد لمنزلنا مرة أخرى، لذلك قمنا بتغطية أنفسنا بالحرامات، والالتزام بالسكون حتى أننا قمنا بكتم أنفاسنا لكي لا يشعروا بوجودنا. وبعد وقت قليل، شعرنا بوجود أشخاص في المنزل، فبقينا مكاننا ملتزمين حتى نعرف من الذي دخل علينا، ولكن حينما سمعنا أنهم يتحدثون اللغة العربية، بدأنا بإخراج رؤوسنا من تحت الحرام، لنعرف أن المتواجدين في المنزل هم شباب من منطقتنا. من شدة صدمتنا لم نستطيع حتى التكلم، لم نصدق أن الجيش قد انسحب ونحن مازلنا علي قيد الحياة وأن هناك من استطاع الوصول لنا، وحينها أخبرونا بأن جيش الاحتلال انسحب من يومين كيف لم تشعروا بهذا ولماذا لم تخرجوا، ولكن نحن من شدة الهواجس والخوف والأصوات التي كنا نسمعها التي أصبحت ترافق سمعنا، لدرجة أننا لم نعرف أنها اختفت من المكان وأن الجيش غير متواجد. وعلى الفور أخذنا الشباب وقاموا بتشغيل سيارة والدي لنخرج بها من المنطقة، وتركنا جثث الشهداء داخل المنزل لأننا لم نستطيع إخراجها ولا نعرف إلي أين نأخذها ولا نعرف إلى أين نتجه، وأخبرونا بأن هناك كثير من الناس عادوا لمدينة حمد، فيمكننا الذهاب هناك، فقاموا بإيصالنا لمدينة حمد. وعندما وصلنا كنا لا نعرف إلى أين نتجه، ولكن حينها تذكرنا بأن أختي مها التي استشهدت كانت قد قامت بشراء شقة سكنية جديدة في مدينة حمد، ولحسن الحظ أننا حملنا معنا الأشياء الخاصة بأختي مها، وبعد أن بحثنا وجدنا مفتاح البيت في شنطتها، فقام الشباب بوضع مستلزماتنا داخل الشقة.  وبعد ذلك أخذونا لمستشفى شهداء الاقصى في دير البلح، وبعد الكشف تبين بأن لحم الجسم قد بنى فوق الشظايا المتواجدة في أجسادنا لذلك يصعب عليهم إخراجها، فكل ما فعلوه أنهم قاموا بتعقيم الإصابات وإعطائنا بعض المسكنات. وبعد ذلك عدنا مرة أخرى لمدينة حمد، ومكثنا هناك ٣ أيام، حتى استطعنا التواصل مع أقاربنا واستطاعت زوجة أخي التواصل مع أهلها، وحينها أخذونا عندهم في مواصي خانيونس. مكثنا هناك معهم في غرفة من الأسبستوس لمدة ٤ أيام، حتى استطعنا التواصل مع أختي هالة التي تسكن في الزوايدة فذهبنا أنا ووالدتي وأخي الصغير، أما زوجة أخي بقيت مع أهلها. وبعد ذلك بدأنا نستوعب ما الذي حدث معنا، وكنا ننتظر أن يستقر الوضع في مدينة خانيونس حتى نستطيع إخراج جثث الشهداء من المنزل. وفي ٢٣/٢/٢٠٢٤، استطاع زوج أختي الذهاب لمنزلنا وإخراج جثث الشهداء وقمنا بدفنهم.

وعندما تم إعلان وقف إطلاق النار في قطاع غزة، عدنا مرة أخرى لمنزلنا، وليتبين لنا أنه تعرض لتدمير كبير، أكثر مما تركناه عليه، حيث تم حرق الطوابق العليا وتدمير جزء من الطابق الأرضي. قمنا بإصلاح غرفتين وحمام والمطبخ الذي كان يتواجد فيه الشهداء. عدنا للمنزل بسبب عدم تواجد مكان أخر نمكث فيه، رغم صعوبة الموقف، حيث إننا مع كل خطوة في المنزل نسترجع ذكريات ما الذي حدث معنا، نتذكر كيف قام جيش الاحتلال بقتل أفراد عائلتي أمام عيوننا، كيف مكثنا هذه المدة الطويلة ونحن والشهداء مقابل بعضنا البعض، كيف استطعنا الخروج من الموت بعد كل هذه الأحداث، كيف سنكمل حياتنا بعد كل الذي مررنا فيه، حيث أننا فقدناهم ولكن مع هول الأحداث لم نستطع البكاء عليهم، البكاء على فقدانهم، ولكن الآن بدأنا نستوعب ما الذي حدث وبدأنا نشعر بفقدانهم.