منذ احتلالها للضفة الغربية وقطاع غزة في العام 1967، عمدت قوات الاحتلال الإسرائيلي- من خلال أجهزة أمنها المختلفة، وعلى رأسها جهاز الأمن الداخلي “الشين بيت”- إلى تجنيد بعض الفلسطينيين بهدف نشر الفساد في صفوف المجتمع الفلسطيني وتدمير مقدراته الثقافية، الاجتماعية، السياسية، والاقتصادية. في هذا السياق، وعلى مدار سنوات احتلالها للضفة الغربية وقطاع غزة، استخدمت تلك القوات هؤلاء الفلسطينيين كأذرع أمامية لتسهيل مهامها الخاصة بملاحقة النشطاء الفلسطينيين، وتنفيذ عمليات قتل خارج إطار القانون بحقهم (الإغتيالات).[1] هذه الحقيقة وضعت المتعاونين مع قوات الاحتلال في مكانة مجرمي الحرب الإسرائيليين، وهو الأمر الذي كان يوجب ملاحقتهم وتقديمهم للعدالة، بنفس المستوى الذي يتوجب فيه ملاحقة مجرمي الحرب من قادة قوات الاحتلال وجنوده.
برغم ذلك، ألزمت اتفاقيات التسوية المرحلية- التي أنشئت بموجبها السلطة الوطنية في العام 1994- منظمة التحرير الفلسطينية بعدم ملاحقة المتعاونين مع إسرائيل ومضايقتهم. في حينه، قوبل هذا الالتزام بإنتقادات حادة من قبل منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية، التي اعتبرت في ذلك تنازلاً غير مبرر عن حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة في ملاحقة هؤلاء المجرمين وتقديمهم للعدالة. فقد نص البند 4 من المادة 20 من اتفاقية التسوية المرحلية الأولى الموقعة بين منظمة التحرير وإسرائيل عام 1994 (اتفاق حول قطاع غزة ومنطقة أريحا) على ما يلي: “مع تولي السلطة الفلسطينية زمام الحكم، يلتزم الجانب الفلسطيني بحل مشكلة أولئك الفلسطينيين الذين كانوا على اتصال بالسلطات الإسرائيلية. وإلى أن يتم التوصل إلى حل متفق عليه، يتعهد الجانب الفلسطيني بعدم محاكمة هؤلاء الفلسطينيين أو إلحاق الأذى بهم بأي شكل.” وتضمنت الاتفاقية الإسرائيلية – الفلسطينية المرحلية حول الضفة الغربية وقطاع غزة الموقعة بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل عام 1995 ضمانات مماثلة للعملاء، حيث نصت المادة 16 – 2 على ما يلي: “الفلسطينيون الذين أقاموا صلات مع السلطات الإسرائيلية لن يكونوا عرضة لأعمال المضايقة أو العنف أو التعسف أو المحاكمة. وسيتم أخذ إجراءات ملائمة ومستمرة بالتنسيق مع إسرائيل من أجل ضمان حمايتهم.”
شهدت الفترة 1994-2004، تطوراً سلبياً فيما يتعلق بملاحقة مواطنين بإدعاء العمالة. فقد تميزت تلك الفترة بأخذ مجموعات العمل المسلح الفلسطينية على عاتقها مهمة محاسبتهم خارج إطار القانون الرسمي، في ظل تقاعس السلطة الوطنية عن ملاحقة ومحاسبة المشتبه بتعاونهم مع قوات الاحتلال. هذا التطور السلبي الخاص بمحاسبة أشخاص بإدعاء العمالة كان جلياً خلال انتفاضة الأقصى، التي أكسبت تلك المجموعات زخماً غير مسبوق، وأظهرت عجزاً ملحوظاً لدى أجهزة الأمن الفلسطينية في ملاحقة هؤلاء المتعاونين، وإضعاف دورهم الهام والمؤثر في إنجاح عمليات الاغتيال التي تنفذها قوات الاحتلال بحق النشطاء الفلسطينيين خلال هذه الإنتفاضة. هذان الأمران شجعا مجموعات العمل المسلح التابعة للفصائل الفلسطينية المختلفة على تنصيب نفسها كـ “جهة قضائية وتنفيذية” تحاسب هؤلاء المتعاونين بعيداً عن جهاز القضاء الرسمي. فوفقاً لتوثيقات المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، قتلت مجموعات العمل المسلح التابعة للفصائل الفلسطينية المختلفة- منذ إنطلاق انتفاضة الأقصى في سبتمبر 2000 حتى نهاية العام 2005- ما يزيد عن 90 فلسطينياً على خلفية الإدعاء بالتخابر مع قوات الاحتلال الإسرائيلي. وفي أغلب الحالات، كان يتم إعدام هؤلاء الفلسطينيين رمياً بالرصاص من قبل أفراد تلك المجموعات، بعد أن يتم إختطافهم وإقتيادهم إلى جهة غير معلومة، ومن تم اخضاعهم للتعذيب، ورميهم بالرصاص.
برغم ذلك، شهد العام 2005، تطوراً إيجابياً فيما يتعلق بعدد الأشخاص الذين أعدموا خارج إطار القانون بإدعاء التعاون مع قوات الاحتلال مقارنة بالعام 2004 فقد سجل ذلك العام أربع حالات فقط قتل فيها مواطنين خارج إطار القانون على خلفية الإدعاء بالتخابر مع إسرائيل، مقارنة بـ 22 حالة خلال العام 2004. هذا الأمر لا يمكن تفسيره بعيداً عن التطورات القضائية الخاصة بقضية المتهمين بالتخابر مع إسرائيل، وهي التطورات التي بدأت تأخذ زخماً ملحوظاً خلال العام 2005.
أمام الجدل واسع النطاق الذي يشهده المجتمع الفلسطيني حول قضية من يتهموا بالتخابر مع قوات الاحتلال، والنقاش الدائر حول الأسلوب الأمثل لمحاسبة هؤلاء المجرمين كشرط مسبق لوقف هذه الظاهرة، يؤكد المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان على ما يلي:
· يعتبر المركز أن المتعاونين مع قوات الاحتلال الإسرائيلي هم جزء لا يتجزأ من بنية الاحتلال ومن أخطر أدواته وأذرعه المزروعة في جسم الشعب الفلسطيني، ينفذون ويساهمون في تنفيذ الجرائم المستمرة التي تواصل قوات الاحتلال اقترافها بحق الشعب الفلسطيني. وموقف المركز من جرائم المتعاونين مع قوات الاحتلال لا يختلف عن موقفه من جرائم الاحتلال التي تمثل جرائم حرب يجب معاقبة مقترفيها من قادة وجنود الاحتلال وتقديمهم لمحاكم دولية، بموجب القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني. وفيما تكون ملاحقة مجرمي الحرب من قادة قوات الاحتلال وجنوده مهمة دولية، فإن مهمة ملاحقة المتعاونين مع الاحتلال وتقديمهم للقضاء هي مهمة فلسطينية بحتة، ينبغي الوقوف أمامها بكل حزم، وتتحمل السلطة الوطنية الفلسطينية المسؤولية الكاملة، كحق وواجب، لتنفيذ هذه المهمة في إطار من القانون.
· يذكر المركز أن حركة حقوق الإنسان كانت قد رفعت صوتها عالياً منذ نحو سنوات عديدة منتقدة اتفاقية التسوية المرحلية التي قدمت فيها منظمة التحرير الفلسطينية ضمانات بعدم ملاحقة المتعاونين مع الاحتلال ومضايقتهم، واعتبرت في ذلك تنازلاً غير مبرر عن حقوق مشروعة للشعب الفلسطيني بملاحقة هؤلاء المجرمين وتقديمهم للعدالة. ومع أن القيود التي تضمنتها اتفاقيات التسوية المرحلية الخاصة بعدم ملاحقة العملاء أو مضايقتهم، تنطبق فقط على المتعاونين مع الاحتلال قبل توقيع اتفاقية التسوية المرحلية، يرى المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان إن تقديم ضمانات بعدم المس بهم وملاحقتهم وفقاً للقانون، يشكل انتقاصاً وتنازلاً عن حق مشروع للشعب الفلسطيني الذي عانى وما يزال من جرائم الاحتلال ومتعاونيه. ويرفض المركز بشكل قاطع أي تقاعس من جانب السلطة الفلسطينية عن فتح ملفات جميع المتعاونين واتخاذ الإجراءات القانونية بحقهم، وذلك تأكيداً على مبادئ سيادة القانون وأنه لا ينبغي التسامح مع كل من يخالف القانون، وأن المتعاونين مع الاحتلال لا يمكن أن يكونوا فوق المساءلة القانونية.
· يؤكد المركز إن المطالبة بتقديم المتعاونين مع الاحتلال للعدالة لا يعني بأي حال القبول بعرضهم أمام محكمة أمن الدولة. وموقف المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان المعارض لوجود محكمة أمن الدولة ليس له علاقة من قريب أو بعيد بقضية واحدة. فمنذ إنشاء هذه المحكمة في العام 1995، اعتبرت منظمات حقوق الإنسان أنها تشكل انتقاصاً للسلطة القضائية وأنها تفتقر للمعايير الضرورية الواجب توفرها في محاكمة عادلة، حيث تجري محاكمات سريعة ولا يتوفر فيها دفاع ملائم وأحكامها غير قابلة للاستئناف. ومع إقرار السلطة الفلسطينية للقانون الأساسي وقبله قانون السلطة القضائية وقانون تشكيل المحاكم والتي خلت جميعها من أية إشارة لمحاكم أمن الدولة وأكدت على مبدأ استقلال السلطة القضائية، فإن من المهم التأكيد مجدداً على المطالبة بإلغاء هذه المحاكم كشرط مسبق وضروري لترسيخ مبدأ استقلال القضاء وسيادة القانون.[4]
· يؤكد المركز أن موقفه من عقوبة الإعدام هو موقف مهني وأخلاقي من حيث المبدأ وليس له علاقة بقضية بعينها.[5] وأمام الجدل واسع النطاق في العالم حول جدوى هذه العقوبة، ورغم استمرار العمل بها من قبل العديد من بلدان العالم بما فيها الولايات المتحدة الأميركية، لا يرى المركز أن هذه العقوبة تشكل رادعاً للجريمة. وهي واحدة من أبشع العقوبات التي ينبغي العمل على إلغائها في جميع أنحاء العالم، بما فيها فلسطين،لأنها تمثل انتهاكاً للحق في الحياة. وإلغاء هذه العقوبة لا يعني التسامح مع المدانين بجرائم خطيرة، بمن فيهم العملاء، ولكن ينبغي النظر في عقوبات رادعة وتحافظ على إنسانيتنا في آن. ولا يتعارض هذا الموقف الذي يتبناه المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان إزاء عقوبة الإعدام، مع مبدأ سيادة القانون الذي يناضل المركز بصرامة بغية تطبيقه واحترامه.
“أنتج هذا الإصدار بمساعدة الاتحاد الأوروبي. المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان مسئول بشكل كامل عن هذا الإصدار، الذي لا يمكن على الإطلاق أن يعكس وجهات نظر الاتحاد الأوروبي.” |
[1] شكلت سياسة الإغتيالات أحد أهم الأدوات التي إستخدمتها قوات الاحتلال لمواصلة العمل بعقوبة الإعدام (خارج إطار القانون) على الرغم من إلغاء هذه العقوبة بموجب الأمرين العسكريين الإسرائيليين رقم 266، و395 القاضيان بإلغاء عقوبة الإعدام في الضفة الغربية وقطاع غزة على التوالي. وكان الأمر رقم 266 قد صدر بتاريخ 24 يوليو 1968، فيما صدر الأمر 395 في مارس 1971، ، ليلغي المادتين (111، 112) من قانون العقوبات الأردني للعام 1960، والمادة 37 من قانون العقوبات رقم 74 لسنة 1936والقاضيان بتطبيق عقوبة الإعدام في الضفة الغربية وقطاع غزة على التوالي. بشأن هذين الأمرين أنظر ، قيادة قوات جيش الدفاع الإسرائيلي في منطقة قطاع غزة وشمالي سيناء. مناشير، أوامر وإعلانات. العدد 23، في 4 آذار 5731 (1/3/1971). وأنظر أيضاً، ، الطواقم الفنية الإستشارية. الأوامر العسكرية الصادرة في الضفة الغربية منذ 7/6/1967. آذار 1994 (المجلد الثاني، تموز 1994)، ص147. وبشأن قانون العقوبات البريطاني رقم 74 لسنة 1936 أنظر، مازن سيسالم، اسحق مهنا، سليمان الدحدوح. مجموعة القوانين الفلسطينية. الجزء الثاني عشر، الطبعة الرابعة، فبراير 1997.
[2] يحدد هذا القانون إجراءات تنفيذ أحكام الإعدام الصادرة عن المحاكم الفلسطينية. وفقاً لهذا القانون، للمتهم الحق في الطعن بقرار المحكمة لدى محكمة الإستئناف خلال مدة أقصاها 15 يوماً من تاريخ صدور الحكم بحقه، وإلا اعتبر الحكم قابلاً للتنفيذ. في حالة رفض محكمة الإستئناف للطعن المقدم من قبل المتهم، يحال القرار إلى رئيس السلطة الفلسطينية، للمصادقة أو إصدار العفو، حيث يتمتع رئيس السلطة الفلسطينية، بموجب القانون الأساسي، بالحق في إصدار العفو العام.
[3] في فبراير 1995، أصدر الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات قراراً يقضي بإنشاء محكمة أمن دولة عليا، دون تحديد إختصاصاتها، أو طبيعة القضايا التي ستنظر فيها. أنظر، قرار رقم (49) لسنة 1995 بإنشاء محكمة أمن دولة عليا. في الوقائع الفلسطينية، الجريدة الرسمية للسلطة الوطنية الفلسطينية، العدد الرابع، 6 مايو 1995.
[4] على الرغم من إصدار الرئيس الفلسطيني المنتخب محمود عباس لقراراً بتاريخ 22 يونيو 2005 يقضي بإعادة محاكمة جميع المدانين أمام محكمة الدولة أمام القضاء الفلسطيني المدني، إلا أنه لم يصدر- حتى زمن إعداد هذه الورقة- أي مرسوم يقضي بإلغاء محكمة أمن الدولة بشكل واضح وصريح.
[5] حول موقف المركز من عقوبة الإعدام انظر، المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان. عقوبة الإعدام في السلطة الوطنية: ورقة موقف.