أبريل 13, 2024
نزوح متكرر وفقدان أعزاء وتدمير وتجريف ممتلكات
مشاركة
نزوح متكرر وفقدان أعزاء وتدمير وتجريف ممتلكات

محمود جميل ياسين شقورة، 47 عام، متزوج وأب لسبعة أبناء منهم أربعة أطفال، أسكن في منطقة بئر النعجة بشمال غزة، وأعمل محامياً في المركز الفلسطيني لحقوق الانسان.

تاريخ الإفادة 31/3/2024

بدأت معاناتي مع هذه الحرب منذ يومها الأول، عندما قررت إخلاء منزلي في السابع من أكتوبر 2023، نظراً لوقوعه بالقرب من أراضٍ زراعية في منطقة بئر النعجة شمالي قطاع غزة.  أخذت ما خف حمله من ملابسنا وأمتعتنا على أمل العودة مجدداً، وتوجهت مع عائلتي إلى شقة يملكها ابن شقيقي في عمارة الجميرا، الكائنة في منطقة حي النصر بمدينة غزة، وتواجد معي بعض إخوتي وأخواتي مع عائلاتهم، وقد بلغ عددنا حوالي (34) فرداً. مكثنا هناك حتى العاشر من أكتوبر، وهو اليوم الذي أتذكره بمرارة ففيه تلقى أحد الجيران اتصالاً من رقم مجهول يطلب إخلاء المبنى على الفور، علمنا بذلك من صراخ سكان العمارة؛ لذا فإن عائلتي هرعت إلى الخارج بشكل عشوائي حتى أننا تركنا المكان حفاة الأقدام والخوف يتملك قلوبنا جميعاً صغاراً وكباراً. ولمدة نصف ساعة بقينا في حالة توتر شديد وانتظار حتى استجمعت قواي وقررنا أن نأخذ أهم أمتعتنا والتوجه على الفور إلى المركز الثقافي الفرنسي، غرب مدينة غزة. بقينا هناك حتى يوم الجمعة الموافق 13 أكتوبر 2023، حيث اقترب منّا الخطر وطُلب منا إخلاء المكان، فتملكتنا الحيرة والجميع يسأل إلى أين نذهب؟! وكيف سنتحرك بهذا العدد مع هذا القصف العنيف؟ تشاورنا وقررنا التوجه على دفعتين نحو محافظة خانيونس، حيث لجأنا في منزل بمنطقة المواصي تملكه إحدى العاملات في المركز الفرنسي وهي تحمل الجنسية الفرنسية والتي كانت هي وأسرتها وبعض الأسر ممن يحملون الجنسية الفرنسية نازحين بداخل المركز وتم اخلاء الجميع من داخل المركز الفرنسي وتم إغلاقه. وفي منطقة المواصي أصبح حالنا كحال سكان قطاع غزة كافة وبدأنا نشعر بالمعاناة في تأمين أبسط متطلبات الحياة اليومية، خاصةً المياه سواء الصالحة للشرب أو الخاصة بالاستخدام الشخصي، فقد وصل بي الحال إلى جمع مياه الأمطار المتساقطة على سطح الغرفة التي أبيت فيها أنا وعائلتي. ومع انقطاع غاز الطهي أصبحنا نقوم بجمع الحطب لإعداد الطعام على النار. وعندما تزايدت أعداد النازحين في منطقة المواصي وخاصة بعد أن هجرت قوات الاحتلال سكان معسكر خانيونس وحي الأمل ومناطق أخرى لتلك المنطقة والتي تفتقد بنيتها التحتية لاستقبال هذا الكم من النازحين، أصبحت المعاناة مضاعفة.  كل شيء من احتياجاتنا الأساسية أصبح يحتاج إلى الوقوف لطوابير طويلة للحصول عليها، علاوة ًعلى الغلاء الفاحش لجميع أنواع الأصناف الغذائية والتي وصلت لعشرات أضعافها. وكل ما ذكرته أو لم تسعفن الذاكرة أن أذكره من معاناة لا يساوي خوف ورعب أطفالي من أصوات القصف العنيف ليلاً، حيث إن قوات الاحتلال كانت تتعمد القصف الليلي بهدف بث حالة من الرعب والخوف في نفوس المواطنين وخاصة الأطفال حيث أننا لم ننم ليالٍ كثيرة نظراً لشدة القصف وقربه منا وقيام قوات الاحتلال باقتحام مناطق مجاورة وقتل وتشريد سكانها والنازحين.

 وذاكرتي المتعبة سجلت أحداثا لا يحتملها قلبي وعقلي. ففي التاسع من نوفمبر لعام 2023، تلقيت خبراً مفاده أن منزلنا قد تم تدميره بالكامل، وأن طوابقه الستة أصبحت ركاماً وحطاماً تكسرت معها ذكرياتي وآمالي ومستقبل أبنائي. وقبل يومٍ واحدٍ فقط تلقيت نبأ استشهاد ابنة شقيقي عمر واسمها جيهان مع زوجها وطفليها، وذلك بعد استهداف الشقة التي كانت نازحة إليها في برج أبو الحصين الواقع بمنطقة بئر النعجة علماً انها من سكان بيت حانون. ولم يتم انتشال جثمان زوجها وطفلها، ولاحقاً أصبح هذا الأمر مستحيلا بعد نسف البرج وتسويته بالأرض. وقد آلمني استشهاد عدد آخر من أبناء عمومتي تزامناً مع هذه الأحداث دون أن ألقي عليهم نظرة الوداع والمشاركة في دفنهم بشكلٍ لائق.

وتوالت أيام الحرب الصعبة والمليئة بفقد أحبة، ومع انقطاع الانترنت والاتصالات لفترات زمنية طويلة، وصعوبتها حال عودتها، فقدنا التواصل لمعرفة أخبار أبناء العائلة ممن تبقوا في مناطق شمال قطاع غزة. حتى أنني علمت متأخراً عن استشهاد واصابة أكثر من عشرة من أبناء عائلتي من بينهم رمزي ابن شقيقي عمر وعائلته، حيث إنه في الثامن من ديسمبر2023 في منطقة الفالوجا شمال القطاع، تم استهدافهم من طائرة إسرائيلية مسيرة ما أدى إلى إصابة رمزي ونجله، بالإضافة إلى استشهاد زوجته وابنته وشقيقته حنان، وتم إخلاء المصابين بصعوبة فيما تبقت جثامين الشهداء ملقاة على الأرض نحو عشرة أيام. لم يقف هذا الحدث هنا بل استمرت معاناة رمزي بسبب إصابته المتوسطة، والتي احتاج فيها لعدة عمليات جراحية ولم تتوفر الإمكانيات في مستشفى كمال عدوان لإجرائها، فتم نقله إلى المستشفى المعمداني بمدينة غزة بصعوبة، وقد مكث هناك حتى اقتحم الجيش الإسرائيلي المستشفى وقام بطرد المرضى والنازحين منه، ليستقر الحال بابن أخي الجريح رمزي في قسم الجراحة التخصصي بمستشفى الشفاء الطبي، وفقدنا أي أخبار عنه حتى علمنا أنه فارق الحياة بعد استهداف طائرات الاحتلال للمبنى الذي تواجد فيه، وتم دفنه في مقابر جماعية بمنطقة الكتيبة حسب ما تم إبلاغنا من أحد الأقارب.

وخلال فترة الهدنة التي امتدت لسبعة أيام (24 نوفمبر-1 ديسمبر 2023) نزح أخي فتحي وأولاده وأسرهم جميعا لمنطقة خانيونس باعتبارها أكتر أمنا من منطقة معسكر جباليا وتم تأمين قطعة أرض لهم ونصب خيم من النايلون. ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، فيوم الخميس الموافق 4/1/2024 وفي حوالي الساعة التاسعة مساءً توفي أخي فتحي بسبب عدم توفر الأدوية الخاصة به وعدم مقدرة جسمه على تحمل البرد الشديد علماً أنه مريض قلب وسيولة حادة في الدم. ولخطورة الأوضاع والقصف في منطقة خانيونس اضطررنا إلى إبقاء أخي المتوفى داخل الخيمة بين أولاده وأحفاده. وفي اليوم التالي توجهنا صباحاً لمستشفى ناصر بخانيونس لإجراء الكشف الطبي والتجهيز لمراسم الدفن وتم دفنه في المقبرة التركية وهنا يكمن القهر والمعناة أن تدفن عزيز عليك في منطقة بعيدة عن منطقة سكنك حيث معروف لدينا نحن أهل غزة نفضل أن ندفن موتانا في المقابر القريبة من بيوتنا لكي نتمكن من زيارتهم من فترة لأخرى.

وبعد شهر من هذا الحدث الأليم، تلقيت اتصالاً بعد انقطاع طويل من أحد جيراني يبلغني فيه أن الاحتلال جرّف ودمّر أرضي القريبة من شارع البحر في شمال غزة. وبهذا لم يتبق لي ولعائلتي أي مأوى نلجأ إليه في حال كتب الله لنا النجاة من هذه الحرب القاسية، خاصة وأنه قد تم تدمير جميع منازل إخوتي وأخواتي في شمال قطاع غزة.

وها نحن نقضي أيامنا مشردين نازحين بعيدين عن ركام منازلنا التي دفنت ذكرياتنا وأحلامنا فيها، وقلوبنا لم تعد تحتمل فقد أي عزيز، ونسأل الله في شهر رمضان الفضيل ألا يُبقي للحكاية بقيةً تُحكى إلا بما هو خير وأمل لمستقبل عائلتي وسكان قطاع غزة أجمعين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *