يطلق المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان نداءً عاجلاً لإنقاذ حياة المئات من الأطفال الرضع والخدج الذين يواجهون خطرًا حقيقيًا يهدد حياتهم، نتيجة حرمانهم من الحليب العلاجي الأساسي لبقائهم على قيد الحياة. ويأتي هذا النداء في ظل استمرار الإغلاق الإسرائيلي الكامل لمعابر قطاع غزة منذ ما يقارب أربعة أشهر، ومنع إدخال المساعدات الإغاثية والطبية، ما يشكّل جريمة حرب وجزءًا من سياسة الإبادة الجماعية المستمرة للعام الثاني على التوالي.
تشير متابعات المركز إلى نقص حاد وغير مسبوق في الحليب العلاجي المخصص للأطفال الخدّج في مستشفيات قطاع غزة. فقد نفدت تمامًا أنواع الحليب المدعّم في أقسام الحضانة، وهي أنواع ضرورية للأطفال الذين يعانون من مشكلات صحية كضعف المناعة، وصعوبة الهضم، وعدم القدرة على الرضاعة الطبيعية.
أفاد الدكتور جميل سليمان، مدير مستشفى الرنتيسي للأطفال، لباحث المركز بما يلي: “الحليب العلاجي الخاص ببعض الأطفال وخاصة الأطفال مرضى الجهاز الهضمي غير متوفر بتاتًا ومنذ فترة طويلة داخل المستشفى، كما لا يتوفر الحليب الصناعي المدعم رقم 1 ورقم 2 الخاص بالمواليد، إضافة إلى عدم مقدرة النساء على إرضاع أطفالهن بسبب ما يعانونه من سوء التغذية. تحتاج المستشفى شهريًا نحو 500 علبة من الحليب العلاجي، بينما لا يتوفر حاليًا سوى كميات محدودة جدًا وهي على وشك النفاذ دون أي تعويض بسبب الحصار الجائر. الأطباء عاجزون عن اتخاذ ما يلزم إزاء تدهور حالة بعض الأطفال الأمر الذي أدى بالفعل إلى تسجيل حالات وفاة يُرجّح أن أحد أسبابها هو نقص الحليب العلاجي. كما نعاني من صعوبة في تشخيص حالات مرض الأطفال بسبب نقص المواد الطبية اللازمة. هنالك حاجة ماسة لتوفير أصناف الحليب العلاجي كـ LF (Lactose-Free)، AR (Anti-Reflux)، Isomil، حليب الصويا (Soya-Based Formula)، الحليب المحلل (Hydrolysed Formula)، بالإضافة إلى أصناف الحليب الصناعي المدعم من المرحلة 1 حتى 3. 1
ووفقًا لباحثي المركز، فإن الحليب الصناعي المدعم، أوشك على النفاذ في الأسواق المحلية، وقد نفذت أصناف عديدة بشكل فعلي، وفي حال توفر كميات محدودة منه في بعض الصيدليات، فإنها تُباع بأسعار باهظة تفوق القدرة الشرائية لأغلبية الأسر في قطاع غزة، ما يجعل الحصول على الحليب خارج متناول من هم في أمسّ الحاجة إليه من الأطفال الرضع.
أفادت السيدة أزهار محمد ورش أغا، 33 عامًا، وتسكن داخل خيمة في شارع الجلاء وسط مدينة غزة، وهي أرملة، قتلت القوات الإسرائيلية زوجها نهاية العام الماضي، ولديها طفلة رضيعة، تبلغ من العمر 4 شهور، لباحث المركز بما يلي: “ولدت طفلتي حور غالب عبد القادر ورش أغا في مستشفى أصدقاء المريض بتاريخ 26 مارس 2025، وكانت ولادتي قيسرية، ووضع الأطباء طفلتي في الحضانة عدة أيام، وكان يتم تغذيتها بالحليب الصناعي والعلاجي بسبب إصابتها بالصفار، وبعد أيام أخرجت من الحضانة، وكنت أرضعها حليب صناعي مخصص للأطفال دون عمر الـ 6 أشهر. ومنذ أن أغلقت القوات الاحتلال الإسرائيلي المعابر الحدودية ومنعت ادخال المواد الإغاثية والإنسانية إلى قطاع غزة، بما في ذلك الحليب العلاجي والصناعي، بدأ الحليب بالنفاذ من الأسواق ومن مستودعات وزارة الصحة، ولم أجد الحليب المخصص لطفلتي، وهو ما اضطرني منذ أيام قليلة إلى شراء علبة حليب لا تتناسب مع عمرها، وهو حليب مخصص للأطفال فوق عمر الـ 6 أشهر بسعر يفوق سعرها الطبيعي عشر مرات. وبعد أن قمت بإرضاع طفلتي منه أصيبت بالنفخة وضيق التنفس والإسهال الشديد، واستدعت حالتها التوجه إلى المستشفى، ونصحني الأطباء في حال عدم توقف الاسهال بالعودة إلى المستشفى لتركيب محاليل اشباع حتى لا تصاب الطفلة بالجفاف. لا أعلم ماذا أفعل ومن أين أحضر الحليب لطفلتي. حالتها الصحية تتدهور، وأقوم بتخفيف الحليب المتوفر وإرضاعها رغم خطورة ذلك على حياتها.”
وأمام استمرار الوضع الراهن، يحذر المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان من تفاقم الخطر الذي يهدد حياة آلاف الأطفال في قطاع غزة نتيجة الارتفاع الحاد في معدلات سوء التغذية، وهو ما يُعد مؤشرًا صارخًا على الانهيار الشامل في الأوضاع الإنسانية تحت وطأة الحصار الإسرائيلي المستمر. فبحسب بيانات صادرة عن مراكز التغذية المدعومة من منظمة اليونيسف، سُجل خلال شهر مايو الماضي فقط ما مجموعه 5119 حالة سوء تغذية حاد لأطفال تتراوح أعمارهم بين 6 أشهر و5 سنوات، من بينهم 636 طفلًا يعانون من سوء تغذية حاد وخيم، وهو أخطر أشكال سوء التغذية وأكثرها فتكًا. ويحتاج هؤلاء الأطفال إلى تدخلات علاجية فورية تشمل التغذية الطبية، والمياه النظيفة، والرعاية الصحية المستمرة، وهي جميعها خدمات أصبحت نادرة إلى حد كبير بفعل الإغلاق الإسرائيلي الممنهج للمعابر ومنع دخول الإمدادات الإنسانية. وقد ارتفعت معدلات الإصابة بسوء التغذية الحاد بنسبة 146% منذ فبراير الماضي، فيما تم إدخال 16,736 طفلًا إلى المستشفيات منذ بداية العام وحتى نهاية مايو لتلقي العلاج، بمعدل 112 طفلًا يوميًا. 2 وقد تلقت منظمة الصحة العالمية تقارير تفيد بوفاة 55 طفلاً نتيجة سوء التغذية.3 ومن المرجح ارتفاع عدد الوفيات مع استمرار الإغلاق ومنع ادخال مواد الإغاثة.
إن منع قوات الاحتلال الإسرائيلي إدخال المواد الغذائية والدوائية، بما فيها الحليب العلاجي المنقذ للحياة، يُعد انتهاكًا صارخًا لأحكام القانون الدولي الإنساني، ويمثل جريمة حرب بموجب المادة 8 من ميثاق روما المؤسس للمحكمة الجنائية الدولية، التي تُجرّم استخدام التجويع كوسيلة من وسائل الحرب، بما في ذلك عرقلة وصول المواد الأساسية لبقاء السكان المدنيين. كما يشكل هذا المنع خرقًا فاضحًا للقرارات الملزمة الصادرة عن محكمة العدل الدولية، والتي قضت بضرورة إدخال المساعدات الإنسانية بشكل فوري ودون عوائق. بذلك يؤكد المركز أن هذه الأفعال تُعد جزءًا من سياسة ممنهجة للتجويع والإبادة البطيئة، تندرج ضمن جريمة الإبادة الجماعية وفقًا للمادة 6 من ميثاق روما، كما تندرج ضمن أفعال الإبادة التي حظرتها المادة الثانية من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية لعام 1948، والتي تجرّم فرض ظروف معيشية يُقصد بها التدمير الكلي أو الجزئي لمجموعة قومية.
ويشير المركز إلى أن إدراج دولة الاحتلال الإسرائيلي مؤخرًا ضمن لائحة الأمم المتحدة السوداء للدول والجهات التي ترتكب انتهاكات جسيمة ضد الأطفال في النزاعات المسلحة، وهو أمر يُعد اعترافًا دوليًا صريحًا بمسؤولية سلطات الاحتلال عن أنماط ممنهجة من الجرائم ضد الأطفال الفلسطينيين. هذا الإدراج لم يأتِ من فراغ، بل جاء نتيجة تراكم الأدلة حول القتل المتعمد، والتجويع، والحرمان من الرعاية الصحية، واستهداف البنية التحتية المدنية التي يعتمد عليها الأطفال للبقاء. يؤكد المركز أن هذا الاجراء لن يكون كافيًا ما لم يُترجم إلى خطوات ملموسة لوقف سياسة الإفلات من العقاب، بما في ذلك التحقيق والمساءلة، وفرض تدابير دولية رادعة لوقف الجرائم الإسرائيلية، وضمان الحماية الفعلية للأطفال الفلسطينيين.
وعليه، يطالب المركز الفلسطيني لحقوق الانسان المجتمع الدولي بالضغط على إسرائيل لوقف جرائمها المستمرة بحق المدنيين الفلسطينيين، وإلزامها على الوفاء بالتزاماتها القانونية وسرعة فتح المعابر الحدودية والسماح بإدخال المواد الإغاثية والإنسانية، بما في ذلك حليب الأطفال العلاجي المنقذ للحياة. كما يطالب المركز المفوضية الأوروبية وجميع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي إلى اتخاذ إجراءات عملية، بما في ذلك وقف اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل، ويرى المركز أن استمرار الاتفاقية يعني تواطؤ الاتحاد الأوروبي في جريمة الإبادة الجماعية المستمرة ضد الفلسطينيين في قطاع غزة. كما يطالب المقرر الخاص المعني بالحق في الصحة بمتابعة وفضح الجرائم الإسرائيلية.