تاريخ الإفادة: 18/8/2025
نهاد نزار إبراهيم حمودة، 40 عاما، متزوجة وأم لـ 5 أبناء، سكان بيت لاهيا شمال غزة، ونازحة في مدينة غزة.
أنا متزوجة من السيد باسل حمودة، وهو موظف في وزارة الداخلية بغزة. لدينا خمسة أبناء، وهم: معاذ (23 عامًا) وخميس (17 عامًا) وعبيدة (13 عامًا) وسجى (21 عامًا) ونور (19 عامًا). كنت أقيم في شمال مدينة غزة، وتحديدًا في بيت لاهيا بمنطقة الدوار الغربي، داخل منزل مكوَّن من ثلاثة طوابق لعائلة زوجي.
منذ سنوات، أعاني من مرض السرطان بعد تشخيصي بورم في الدماغ، وما زلت أواجه صعوبات كبيرة في الحصول على العلاج المناسب. وفي عام 2018، تم اكتشاف ورم آخر في الكبد، الأمر الذي سبب لي معاناة شديدة تمثلت في نوبات استفراغ متكررة وانخفاض حاد في ضغط الدم وصل إلى 80/40 ملم زئبقي.
بعد عرض حالتي على عدد من الأطباء في غزة وتشخيصها من أكثر من جهة طبية، قررت السفر لتلقي العلاج خارج القطاع. وقد حصلت على تحويلة طبية للعلاج في مستشفى النجاح بمدينة نابلس في الضفة الغربية، حيث خضعت لعملية جراحية لاستئصال الورم وتلقيت العلاجات اللازمة بعد العملية.
كما أنني أعاني منذ عدة سنوات من ورم حميد ضاغط على المخ، الأمر الذي اضطرني للتنقل لفترات طويلة بين مستشفيات الضفة الغربية وقطاع غزة وجمهورية مصر العربية لمتابعة العلاج. وبرغم ضيق الحال وعدم توفر المال الكافي لتغطية النفقات، كنت أتمكن من مواصلة رحلة العلاج بفضل مساندة أهل الخير وتبرعاتهم.
مع مرور الوقت وبسبب الورم الذي رفضت إزالته من رأسي خشية المضاعفات المحتملة، مثل تحوله من حميد إلى خبيث أو فقدان حياتي أثناء العملية، بدأت أعاني من ضعف تدريجي في النظر. اضطرني ذلك للسفر على نفقتي الخاصة إلى جمهورية مصر العربية، حيث قصدت مستشفى الشرق في مدينة الزقازيق، وهناك أبلغني الأطباء أن الحل الأمثل لحالتي هو استئصال الورم من الرأس، إلا أنني رفضت ذلك.
خضعت لعمليتين جراحيتين في العينين، ما أدى إلى تحسّن جزئي في بصري، وبلغت تكلفتهما نحو 2000 دولار أمريكي. كما أخبرني الأطباء أنني بحاجة إلى زراعة قرنية، غير أنني لم أتمكن من إجراء العملية بسبب ارتفاع تكلفتها. اكتفوا بتزويدي بقطرات للعين وبعض الفيتامينات، وحددوا لي موعد مراجعة لاحق بتاريخ 9/10/2023.
اندلاع العدوان
مع اندلاع الحرب على قطاع غزة صباح يوم السابع من أكتوبر 2023، لم أتمكن من السفر لمتابعة علاجي، إذ انقلبت حياتنا رأسًا على عقب بشكل مفاجئ. فقد أيقظتنا أصوات الانفجارات العنيفة والقصف المتواصل، إيذانًا ببدء حرب شرسة على القطاع.
منذ الساعات الأولى، شنّ طيران الاحتلال الإسرائيلي غارات كثيفة، استهدفت المساجد والمنازل، التي انهار كثير منها فوق رؤوس قاطنيها من النساء والأطفال وكبار السن، ناشرة الرعب والفزع في كل مكان. كنا نعيش حالة من الذهول أمام مشاهد القصف والقتل والدمار، التي لم تُبقِ على حجر ولا شجر ولا بشر.
وفي اليوم الأول من الحرب، تلقى أحد جيراننا اتصالًا من جيش الاحتلال يهدد فيه بضرورة إخلاء الحي بأكمله خلال نصف ساعة، تمهيدًا لقصف عمارة سكنية مكوّنة من سبعة طوابق تعود ملكيتها لأحد الجيران.
أصابتنا حالة من الذعر والخوف الشديد، فسارع زوجي إلى إخراجنا مع أبنائنا من المنزل، من دون أن نتمكن من أخذ أي من مستلزماتنا أو أغراضنا، خرجنا كما نحن بملابسنا فقط. كان الحي بأكمله يعيش لحظات رعب وفزع، فغادرنا جميعًا وتوجهنا إلى منزل جدتي القريب في بيت لاهيا، حيث مكثنا ستة أيام فقط.
لكن القصف لم يتوقف لحظة، والخطر كان يحيط بنا من كل مكان، فقررنا النزوح إلى مدرسة للإيواء، معتقدين –كما جرت العادة في الحروب السابقة– أن المدارس ستكون أماكن آمنة للنازحين. وهكذا انتقلنا إلى مدرسة الفاخورة في مشروع بيت لاهيا.
منذ وصولي إلى المدرسة بدأت أرى مشاهد مروعة؛ أفواج من السكان يفرون من منازلهم في المناطق الحدودية القريبة من مواقع الجيش، متجهين إلى المدارس المجاورة، هربًا من القصف ومشاعر الخوف، وعاجزين عن استيعاب ما يجري حولهم.
مكثنا داخل فصل دراسي تقاسمناه مع ثلاث عائلات أخرى. كنّا جميعاً نملك فقط غطاءين وفرشتين، نعيش في ظروف مأساوية وصعبة للغاية. وبعد ثلاثة أيام فقط، أصبحنا غير قادرين على تحمّل الأوضاع القاسية داخل المدرسة؛ فلا طعام متوفر، ولا مياه كافية، إلى جانب الاكتظاظ الشديد.
في تاريخ 18/10/2023، اضطررنا إلى مغادرة المدرسة والتوجه إلى منزل أقارب زوجي القريب من نادي بيت لاهيا، بحثًا عن مأوى يحمينا ويحفظ أطفالنا. لكننا لم نجد مكانًا ثابتًا نستقر فيه، فبتنا نتنقل بين بيوت الأقارب خلال الأيام التالية، فيما كانت الأوضاع تزداد سوءًا والقصف يشتد من حولنا. كان المنزل الذي قصدناه ضيقًا للغاية ويضم نحو 50 نازحًا، فلم نستطع المكوث فيه سوى ليلة واحدة فقط. وفي الساعة الثالثة فجرًا، تعرضت المنطقة لقصف عنيف بأحزمة نارية من دون أي إنذار مسبق، فتعالى صراخ الناس داخل منزل عائلة عليان، حيث سقط عدد كبير من الشهداء، وانهارت البيوت على رؤوس ساكنيها من أطفال ونساء وشيوخ. ولحسن الحظ، كتب لنا النجاة بأعجوبة، فتمكنا من الخروج من المنزل، وسرعان ما وجدنا أنفسنا نسير في الشوارع بلا وجهة واضحة أو ملجأ آمن.
توجهنا مجددًا إلى إحدى مدارس الإيواء، وهي مدرسة فيصل بن فهد الثانوية للبنات في منطقة بئر النعجة بجباليا، واضطررنا للمبيت في ساحة المدرسة مفترشين الأرض على مدار يومين متتاليين. كانت المدرسة مكتظة بالنازحين، والخوف يحيط بنا في كل لحظة. ومع اشتداد القصف الجوي والمدفعي بالقرب منها، لم نجد بدًّا من مغادرتها مرة أخرى.
انتقلنا بعدها إلى عيادة الصفطاوي التابعة لوكالة الغوث (الأونروا)، ومكثنا نحو 15 يومًا، على أمل أن نجد بعض الأمان بعد مغادرتنا بيت لاهيا. غير أن القصف الجوي والمدفعي لم يتوقف عن استهداف العيادة ومحيطها. ومع ازدياد حدة القصف، ألقى الجيش مناشير تهددنا بضرورة الخروج من المكان تحت طائلة القصف والقتل.
خرجنا مع آلاف النازحين وسط مشاهد الموت والدمار، عائدين أدراجنا شمالًا باتجاه مستشفى الإندونيسي في منطقة الشيخ زايد. قطعنا الطريق سيرًا على الأقدام رغم المسافة الطويلة والمخاطر التي أحاطت بنا في كل شارع، حيث استهدفت طائرات “الكواد كابتر” الإسرائيلية النازحين بالرصاص، فيما كانت آليات الاحتلال تقصف بشكل عشوائي.
مكثنا في المستشفى نحو شهر كامل، ونحن نعيش حالة من الخوف الدائم من احتمال اقتحام الجيش للمكان. وفي 13/12/2023، شنّت طائرات الاحتلال قصفًا عنيفًا بأحزمة نارية بجوار المستشفى وفي محيطه، ما أدى إلى استشهاد أعداد كبيرة من النازحين وإصابة آخرين بأعداد أكبر، فيما عجزت المستشفى عن استيعاب هذا الكم من الجرحى. ومع اقتراب الجيش من المبنى، اضطررنا للخروج مع آلاف النازحين لإنقاذ حياتنا وأطفالنا.
توجهنا بعدها إلى مدرسة لوكالة الغوث في معسكر جباليا، هي مدرسة بنات جباليا الإعدادية المقابلة لبركة أبو راشد، لاستكمال رحلة نزوحنا في ظل الحرب والخطر المتواصل. لكننا لم نمكث هناك سوى أسبوعين فقط، إذ اجتاح الجيش الإسرائيلي معسكر جباليا بتاريخ 20/1/2024، وحاصر المدرسة من جميع الجهات. أطلق الجنود الرصاص وقنابل الغاز، ثم نادوا علينا وأجبرونا على النزوح. خلال ذلك، اعتُقل عدد من الرجال وأُصيب آخرون، فيما جرى احتجاز ابني خميس (17 عامًا) لمدة ست ساعات قبل أن يُفرج عنه.
خرجنا حينها وسط الدبابات والمجازر التي ارتُكبت من حولنا، نسير بخوف بين الشوارع المدمرة، متوجهين إلى مدرسة الدحيان قرب مفترق الشيخ رضوان بمدينة غزة، حيث لم نمكث أكثر من يوم واحد. بعد ذلك، نزحنا مجددًا إلى منطقة الصفطاوي عند أقارب لنا، حيث بقينا 15 يومًا في منزل مكتظ بالنازحين من أطفال، ونساء، وكبار سن، ومرضى.
في مطلع شهر فبراير 2024، عاد الجيش الإسرائيلي واقتحم المنطقة مجددًا، وأجبرنا على الخروج تحت تهديد الدبابات والطائرات. لجأنا حينها إلى مدرسة أربيكان في جباليا البلد، حيث افترشنا الأرض في ساحة المدرسة ثلاثة أيام فقط. لكن مع استمرار القصف والاكتظاظ البشري، اضطررنا للنزوح مرة أخرى إلى مدرسة بيت لاهيا.
استشهاد شقيقي حمادة
وأثناء وجودنا هناك، تلقيت خبرًا صادمًا باستشهاد شقيقي حمادة نزار إبراهيم الزين (26 عامًا) بتاريخ 12/3/2024، بعدما قنصته قوات الاحتلال أثناء محاولته جلب الطعام من المساعدات التي كانت الطائرات تلقيها على شاطئ الواحة.
بقينا في المدرسة حتى 8/8/2024 نعيش أوضاعًا مأساوية قاسية، نعاني الفقر والجوع وانعدام الطعام والشراب، إضافة إلى غياب العلاج الذي كنت بأمس الحاجة إليه. وخلال تلك الفترة، اقتحم الجيش الإسرائيلي منطقة دوار بيت لاهيا، وقصف بوابة المدرسة، ما زاد من حالة الخوف والفزع بين النازحين.
وفي نهاية يوليو 2024، تعرضتُ لإصابة خطيرة إثر سقوط مبنى قريب من المدرسة بفعل القصف، ما أدى إلى سقوطي أرضًا وإصابتي بكسر في المفصل، وتبين بعد الفحص الطبي أنني أعاني أيضًا من هشاشة في العظام.
النزوح إلى الجنوب
لاحقًا، قررنا التوجه إلى مدينة غزة على أمل أن نجد فيها قدرًا أكبر من الأمان. مكثنا يومين في منتزه البلدية، لكن مع قسوة الظروف المعيشية في الشمال اضطررنا لاتخاذ قرار النزوح إلى الجنوب، باستثناء ابني معاذ الذي أصرّ على البقاء هناك.
عبرنا شارع الرشيد حيث كانت قوات الاحتلال تقيم نقاط تفتيش، وهناك دفعني أحد الجنود أنا وابني خميس بقوة فسقطنا أرضًا على جهة المفصل المكسور، مما زاد من آلامي وإصابتي. كما جرى احتجاز خميس لمدة ثلاث ساعات وخضع خلالها للتحقيق قبل أن يتم الإفراج عنه.
بعد ذلك واصلنا السير مشيًا على الأقدام حتى وصلنا إلى مخيم الصمود في منطقة بئر 19 بمواصي خانيونس. وفي مساء ذلك اليوم، توجهت إلى مستشفى ناصر، حيث تبيّن أن حالتي الصحية قد تفاقمت وأن الكسر يحتاج إلى تغيير المفصل، إلا أن الطبيب اكتفى بإعطائي مسكنات للألم لعدم توفر العلاج اللازم.
مكثنا في المخيم داخل خيمة ضيقة ومهترئة، نعيش مرارة النزوح المتواصل وصعوبة الحياة في ظل الحرب والفقر. وفي 20/11/2024، أصابنا ألم هائل بخبر استشهاد ابني البكر معاذ، إثر استهدافه أثناء محاولته جلب الطعام.
استشهاد شقيق وفقدان آخر واعتقال ثالث
بعد أيام قليلة، تلقيت خبر استشهاد شقيقي محمد (30 عامًا) وفقدان أثر أخي ياسر (32 عامًا) بعد أن خرج لجلب الطعام والحطب من منزل العائلة في بيت لاهيا بتاريخ 24/11/2024، ولا نعرفه مصيره للان. ولم تنتهِ المآسي عند هذا الحد، ففي 26/11/2024، تلقيت خبر استشهاد شقيقي الآخر إبراهيم نزار إبراهيم الزين (38 عامًا) إثر استهدافه بصاروخ مزّق جسده إلى أشلاء.
وبعد أسبوعين، فُجعت مجددًا باعتقال شقيقي تامر (35 عامًا) على حاجز الإدارة المدنية في جباليا، ليزداد الحزن والألم الذي نعيشه في هذه الظروف القاسية.
مع إعلان الهدنة بتاريخ 19/1/2025، بدأ العديد من النازحين بالعودة إلى منازلهم المدمرة في شمال القطاع. لكنني لم أتمكن مع أسرتي من العودة، إذ لم يعد لدينا منزل يؤوينا، ولا خيمة في الشمال، كما أن تكاليف النقل الباهظة التي بلغت نحو 5000 شيكل حالت دون قدرتنا على العودة.
بالإضافة إلى ذلك، أعاني من مرض السرطان وأجد صعوبة في الحركة، فيما زوجي عاطل عن العمل ولا نملك مصدر دخل. ولم يكن بمقدورنا مغادرة خيمتنا والذهاب دونها، في ظل انعدام مقومات الحياة الأساسية من ماء وغذاء.
العودة إلى الشمال
بتاريخ 7/2/2025، عدت وحدي إلى شمال غزة سيرًا على الأقدام لنقل رفات ابني معاذ، الذي كان مدفونًا في أحد منازل المواطنين ببيت لاهيا، إلى مقبرة البلدة، ثم عدت أدراجي إلى منطقة المواصي. وبعد نحو 15 يومًا، عدنا مجددًا إلى الشمال، حيث وفر لنا أهل الخير خيمة مؤقتة، قبل أن نضطر لبناء خيمة أخرى من خشب وشوادر فوق ركام منزلنا المدمر.
عانينا بشدة للحصول على المياه العادية ومياه الشرب، وبقينا في تلك الظروف حتى 18/3/2025، موعد عودة الحرب، حين اضطررنا للنزوح مرة أخرى إلى محيط مركز رشاد الشوا بحي الرمال بمدينة غزة. ومنذ ذلك الحين وحتى اليوم، ما زلنا نعيش في خيمة تبرع بها أهل الخير.
مع إغلاق المعابر ووقف توزيع المساعدات من المؤسسات، تكبدنا الجوع وسوء التغذية، حتى اضطررت للذهاب إلى مستشفى الشفاء مدة 12 يومًا للحصول على محاليل ملحية وجلوكوز لأتمكن من استعمالها داخل الخيمة، نتيجة فقداني للوزن والإرهاق الشديد. وقد فقد أطفالي أيضًا جزءًا كبيرًا من أوزانهم. كما يعاني ابني عبيدة من تضخم في الغدد اللمفاوية عند إصابته بجروح جلدية، ورفضنا أخذ عينة كما طلب الطبيب، مما تسبب له في تقرحات والتهابات جلدية مؤلمة.
أناشد الجهات المعنية بتوفير خيمة جديدة صالحة للسكن بدلاً من الخيمة المتهالكة التي نقيم فيها حاليًا، والتي ليست ملكًا لنا. كما أطالب بوقف الحرب فورًا، وتمكينا من العودة إلى أماكن سكننا، حتى لو كان ذلك بجوار منازلنا المدمرة، فمجرد العودة إلى أرضنا تمنحنا شعورًا بالأمان والكرامة.
أطالب أيضًا بتسهيل سفري للخارج لأتمكن من متابعة علاجي، وتوفير العلاجات اللازمة لي في الوقت الحالي، والأهم من ذلك توفير فرشة طبية مناسبة.
نحن نحب الحياة ونتمنى أن نعيش كما يعيش باقي البشر في هذا العالم؛ حياة كريمة خالية من الذل والإهانة، أرجوها لي ولزوجي وأطفالي بعد كل ما فقدناه وعانيناه.