مايو 15, 2025
لن تكفيني الأرض لتكون عزاءً لي
مشاركة
لن تكفيني الأرض لتكون عزاءً لي

تاريخ الإفادة: 5 مايو 2025

أميرة محمد فايز الإفرنجي (شحتو)، 33 عاماً، سكان غزة – حي الرمال، نازحة حالياً في حي الصحابة – قرب مجمع الصحابة الطبي

أنا أميرة محمد فايز الإفرنجي، أبلغ من العمر 33 عامًا، كنت أعيش مع زوجي وأطفالي في شقة سكنية تقع في الطابق الخامس من عمارة الصديق في حي الرمال بمدينة غزة. في نوفمبر 2023، نزحنا إلى الجنوب بسبب الحرب، وعدنا إلى غزة في يناير 2025 بعد أن ضاقت بنا الحياة في مناطق النزوح. عدنا دون مأوى، فسكنتُ أنا وزوجي وأطفالي في الطابق الأول من بيت والدتي المتضرر جزئيًا بسبب قصف سابق، وحاولنا تهيئته باستخدام الشوادر وبعض الأثاث البسيط لنبدأ من جديد.

زوجي حمزة محمود زهدي شحتو، 37 عامًا، كان رجلاً حنونًا ومحبًا لعائلته، يعمل بكل جهده لتوفير حياة كريمة لنا. قبل استشهاده بيوم، كانت والدته قد طلبت منه زيارة، لأنها اشتاقت لرؤية ابنها وأحفادها، خاصة الصغير عمر الذي لم تكن قد رأته منذ فترة طويلة.

في صباح يوم الخميس 24 أبريل 2025، استيقظنا جميعًا، وأعددت وجبة الإفطار. ابنتي ديما حمزة شحتو، 11 عاماً، كانت تساعدني في المطبخ كعادتها، فتاة ذكية وحنونة، تحفظ خمسة أجزاء من القرآن الكريم، وكانت تحلم بأن تصبح طبيبة في المستقبل. ابني محمود حمزة شحتو، 9 سنوات، حافظ لسبعة أجزاء من القرآن، وكان يساعد والده كثيرًا. ابنتي الصغيرة لين حمزة شحتو، 6 سنوات، كانت مرحة ومليئة بالطاقة. أما طفلي الرضيع عمر حمزة شحتو، عامان فقط، فكان مدلّل الجميع، وروح البيت.

طلبت والدتي مني في ذلك الصباح أن أرافقها لزيارة جدتي المريضة في حي الصبرة. كنت أنوي اصطحاب الأطفال، لكن والدة زوجي طلبت أن تراهم، وفضل حمزة أن يأخذهم معه إلى زيارتها. ابنتي ديما توسّلت إليّ أن تأتي معي، لكنها بقيت بناءً على طلبي. قلت لها: “انتِ الكبيرة، ديري بالك على إخوتك”.

غادر حمزة والأطفال المنزل حوالي الساعة 11 صباحًا. قبّلتهم وودعتهم. كان حمزة وهو خارج بهم يقول: “اليوم عندنا عيد”. كانت تلك آخر مرة يغادرون فيها المنزل سويًا.. وآخر مرة أراهم فيها أحياء.

في تمام الساعة 3:20 عصرًا، وبينما كنت لا أزال في زيارة جدتي، قصف الطيران الحربي الإسرائيلي الطابق الخامس من عمارة الصديق – شارع الجلاء بثلاثة صواريخ مباشرة. القصف كان دون أي تحذير أو إنذار. لم نسمع شيئًا قبل الانفجار. بعد دقائق، بدأت الأخبار تتوارد، والناس يتحدثون عن قصف في شارع الجلاء.

اتصلت بي شقيقتي وقالت لي بصوت يرتجف: “إنا لله وإنا إليه راجعون… حمزة والأولاد استشهدوا”. لم أتمالك نفسي، فقدت الوعي من شدة الصدمة، وعندما أفقت كنت أصرخ دون توقف: “أولادي… وين أولادي؟”

ركضت إلى مكان القصف، وجدت العمارة مدمّرة بالكامل، لم أستطع الاقتراب بسبب الأنقاض والزحام. قالوا لي إنهم نُقلوا إلى مستشفى الشفاء. وصلت هناك وذهبت إلى ثلاجات الموتى. رأيت أكياساً بيضاء على الأرض، طلبوا مني التعرّف على الجثامين، وعرضوا على المساعدة، فرفضت، كنت مصممة على رؤيتهم بنفسي. بدأت بفتح الأكياس وانا قلبي يكاد يخرج من مكانه، كنت أدعو ألا يكون زوجي وأولادي فيهم. الكيس الأول، كان زوجي حمزة، تعرفت عليه من ظهره، لكن الجزء الخلفي من رأسه كان ممزقًا تمامًا. الكيس الثاني، كانت ديما، رأيت خصلة من شعرها، وأذنها الصغيرة وعليها الحلق، وكف يدها فقط، جسدها كان مشوهًا بالكامل. الكيس الثالث، قالوا إنه يحتوي على أشلاء لين، لكني لم أتعرف عليها. كانت ممزقة ومقطعة لدرجة أني لم أستطع تمييز ملامحها. أما محمود وعمر، فلم يُعثر عليهما حينها، وبقي داخلي أمل ضئيل أنهما ربما أُصيبا فقط. لكن بعد يوم من البحث، تم العثور على أشلاء صغيرة متفحمة في مكان الحادث، وتبيّن أنها لهما، وتم دفنهما معًا في كيس واحد، بلا ملامح… بلا وداع.

ومن بين الشهداء أيضاً:

والد زوجي، محمود زهدي شحتو، 63 عامًا. ووالدته، رويدة عيادة أبو حصيرة، 58 عامًا. وشقيقتاه: رغد، 17 عامًا، وندى، 35 عامًا، مطلقة، وكانت تستضيف أولادها كل يوم خميس من نهاية الأسبوع، كما تعوّدوا دائمًا وهم: شهد هاشم السقا، 16 عاماً، عصام هاشم السقا، 13 عاماً، عبد الرحمن هاشم السقا، 11 عاماً. كما كان والد حمزة يستضيف صهر العائلة، فرج علي فرج، 37 عاماً، وبناته: زينة، 13 عاماً، رزان، 12 عاماً، لين، 11 عاماً، سعاد، 5 أعوام، جوري، عامان. واستُشهد أيضًا الشاب محمد زهدي نزار شحتو، ابن أخ زوجي، وعمره 19 عامًا.

كل هؤلاء ذهبوا… في لحظة واحدة، بصواريخ صُمّت عنها آذان العالم.

الناجون الوحيدون من المجزرة كانوا نهى محمود زهدي شحتو، زوجة فرج وأخت زوجي، التي نجت مع طفلها الوحيد علي، 6 أعوام. نجت فقط لتشهد النهاية.

كل شيء انتهى. البيت، العائلة، الضحكة، الحكايات الصغيرة… كل شيء تبخّر تحت الركام.

منذ تلك اللحظة، تغير كل شيء. أصبت بانهيار نفسي حاد. فقدت النطق أيامًا، وكنت أرى وجوه أطفالي في كل زاوية من البيت. لم أعد أحتمل الدخول إلى المطبخ، حيث رتبت ديما الأغراض بيديها صباحًا. كل شيء كان يشير إليهم.. ملابسهم، ألعابهم، أحذيتهم الصغيرة…

أنا اليوم أم فقدت كل أبنائها وزوجها في لحظة واحدة. لا زلتُ عاجزة عن فهم ما حدث. لم يكن هناك “هدف عسكري” في الشقة. لم يكن فيها سوى أب بسيط وأربعة أطفال كانوا في زيارة لجدتهم. بأي منطق يُقصف منزل مأهول بالسكان المدنيين دون إنذار؟ بأي حق يُمحى بيت كامل عن الوجود في غمضة عين؟

الاحتلال لم يكتفِ بقتل عائلتي، بل قتلني معهم وأنا ما زلتُ على قيد الحياة.

زوجي حمزة كان يردد دائمًا:
لن تكفينا الأرض لتكون عزاءً لنا.”
كنت أسمعها منه وأشعر بثقل معناها، لكنني لم أكن أعلم أنني سأعيشها يومًا بهذا الشكل.
واليوم، أصبحتُ أرددها معه… وحدي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *