ورقة موقف
خلف العدوان الحربي الشامل الذي شنته قوات الاحتلال الإسرائيلي بتاريخ 8/7/2014 على قطاع غزة، واستمر لمدة 50 يوماً، دماراً هائلاً طال البنية التحتية في القطاع وترك آثاراً كارثية على معظم القطاعات الأساسية اللازمة لحياة السكان. وقد أدى العدوان، الذي يعتبر الأكثر شراسة، والأوسع نطاقاً في تاريخ الاحتلال الاسرائيلي، إلى تدمير آلاف المنشآت المدنية، من ضمنها آلاف الوحدات السكنية، ومئات المنشآت التجارية، المنشآت الصناعية، المنشآت الزراعية، مزارع الدواجن والحيوانات، وعشرات المساجد، المدارس، رياض أطفال، الكليات، الجامعات، المستشفيات، الكنائس، البنوك، المؤسسات الأهلية، مراكز الشرطة والمراكز الرياضية.
وبالتزامن مع العمليات الحربية الاسرائيلية، استمر الحصار المشدد المفروض على قطاع غزة منذ ما يزيد عن 8 أعوام، ورغم التوصل إلى اتفاق إعلان وقف إطلاق النار بتاريخ 26/8/2014، وبدء الحديث عن إعادة إعمار غزة كأولوية قصوى لإغاثة عشرات آلاف المنكوبين، ومن ضمنهم أكثر من 250,000 شخصاً تعرضت منازلهم للدمار، من بينهم 110,000 شخصاً أصبحوا بلا مأوى، اشتد الحصار بأبشع أشكاله وأقسى حالاته.
وبتاريخ 16/9/2014، أعلن مبعوث الأمم المتحدة للشرق الأوسط روبرت سيري، آلية الامم المتحدة لإعادة اعمار غزة (خطة سيري لإعمار غزة)، وأوضح أن الأمم المتحدة واسرائيل والسلطة الفلسطينية قد توصلوا إلى اتفاق يسمح ببدء العمل في اعادة اعمار قطاع غزة بوجود رقابة دولية على استخدام المواد وبمشاركة القطاع الخاص، مع اعطاء السلطة الفلسطينية دوراً قيادياً في جهود إعادة الاعمار. وأوضح سيري أن الاتفاق يقدم الضمانات الأمنية من خلال آلية للرقابة على المواد، للتأكد من استخدامها بالكامل لأغراض مدنية.
وقد انتقد المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان ومنظمات المجتمع المدني والقطاع الخاص بشدة هذه الآلية فور الاعلان عنها، واعتبر المركز أن الآلية تعتبر مأسسة للحصار وغطاءً دولياً له، كما اعتبرها بمثابة إعطاء شرعية دولية للعقوبات الجماعية ولجرائم الحرب الممارسة بحق سكان مدنيين. وأضاف أن الآلية سوف تفاقم معاناة السكان المدنيين وخاصة أصحاب البيوت المدمرة، ولن تساهم في إعادة الإعمار. وقد أكد المركز أن المدخل الصحيح لإنهاء الآثار الخطيرة التي خلفها العدوان الحربي الاسرائيلي على قطاع غزة يتمثل في الإعلان الفوري عن إنهاء الحصار، وإقرار المجتمع الدولي، والأمم المتحدة على وجه الخصوص، بأن سياسة الحصار هي غير قانونية، وتندرج في إطار سياسة العقاب الجماعي المفروض على السكان المدنيين، والضغط، وبكافة الوسائل القانونية، على السلطات الإسرائيلية المحتلة من أجل رفع كافة أشكال الحصار الجائر، وبشكل فوري، ليتسنى التدفق السريع لمواد البناء، وبما يستجيب لحجم الدمار الذي خلفه
العدوان الحربي.
وبتاريخ 12/10/2014، انعقد في العاصمة المصرية القاهرة مؤتمر إعادة إعمار قطاع غزة، برعاية مصرية نرويجية، ورئاسة الأمم المتحدة والاتحاد الاوروبي وجامعة الدول العربية. وشارك في المؤتمر أكثر من 50 دولة و20 منظمة إقليمية ودولية، وذلك بهدف تعزيز قدرة الحكومة الفلسطينية في تحمل مسؤوليتها بشأن إعادة تأهيل قطاع غزة، إضافة إلى توفير الدعم المالي الخاص بإعادة إعمار القطاع. وقد تعهدت الدول المانحة خلال المؤتمر بتقديم 5.4 مليار دولار، خُصص نصفها لجهود إعادة إعمار القطاع.
واليوم، وبعد أكثر من مرور أكثر من 6 شهور على انتهاء العدوان الحربي، و4 شهور ونصف على سريان آلية الامم المتحدة لإعادة اعمار غزة، إتضح بشكل جلي، وبما لا يدع مجالاً للشك، عجز الآلية عن الوفاء بالحد الأدنى من الاحتياجات الأساسية لعملية اعادة الاعمار. وقد تابع المركز التطورات اللاحقة لسريان خطة إعادة الاعمار، وطريقة عمل الآلية الأممية، ووثق ما يلي:
– أحاط الغموض وعدم الوضوح تفاصيل آلية الأمم المتحدة لإعادة إعمار غزة (خطة سيري)، وظلت طبيعة العلاقة بين أطرافها (الأمم المتحدة، السلطة الفلسطينية واسرائيل) غير معلنة، وغير واضحة المعالم حتى بالنسبة لبعض الأطراف ذات العلاقة بالبناء والإنشاءات.
– بتاريخ 14/10/2014، أي بعد نحو شهر من الاعلان عن تلك الآلية، بدأ التنفيذ الفعلي لها، وذلك بتوريد كميات محدودة جداً من مواد البناء، حيث تم توريد 600 طن أسمنت (15 شاحنة)، 400 طن حديد (10 شاحنات) و2000 طن حصمة (50 شاحنة)، وذلك بحسب لجنة إدخال البضائع إلى غزة. وقد تم الاحتفاظ بهذه الكمية نحو اسبوعين قبل أن يتم توزيعها على نحو 70 شخصاً من أصحاب المنازل المدمرة جزئياً، فيما حرمت باقي الشرائح الأخرى التي تضررت خلال العدوان، وخاصة أصحاب المنازل والمنشآت التي دمرت كلياً، من استلام أية كميات من مواد البناء.
– لقد تم توريد كميات مادة الأسمنت لصالح شركة خاصة واحدة، هي شركة فلسطين للخدمات التجارية “سند“، والتي بدورها تقوم بتوزيع ما يتم استلامه على 18 نقطة توزيع، تابعة لشركات خاصة، في جميع أنحاء قطاع غزة. جدير بالذكر أن كميات مواد البناء الأولى وزعت على نقاط توزيع 4 فقط، وقد جرى زيادة عددها تدريجياً إلى أن وصلت إلى 18 نقطة، وذلك بعد استيفائها شروط المراقبة والضمانات الأمنية التي تضعها الآلية، حيث يقوم المواطن باستلام الكمية المحددة له منها، بعد دفع ثمنها من أمواله الخاصة.
– تبين أن إجمالي كميات مواد البناء التي وردت كانت محدودة جداً. فقد بلغت نحو 80,000 طن، منها 48,000 طن فقط من
الاسمنت، وقد تم توزيع هذه الكميات على شكل حصص قليلة استفاد منها نحو 62,000 شخص من أصحاب المنازل المدمرة جزئياً، وذلك وفقاً لاتحاد المقاولين الفلسطينيين في غزة. جدير بالذكر أن القطاع يحتاج إلى 5,000,000 طن من مواد البناء لإعادة إعماره، من بينها 1,500,000 طن أسمنت، 3,000,000 مليون طن حصمة و500,000 طن من حديد البناء ومادة البيتومين، وفقاً لتقديرات اتحاد المقاولين الفلسطينيين وشركات إنشائية متخصصة (تم تقدير الاحتياجات بشكل أولى).
– ويتضح مما سبق، أن كميات مواد البناء التي تم توريدها إلى القطاع تساوي احتياج القطاع لأسبوع واحد فقط، علماً بأن عملية الاعمار تتطلب فتح المعابر بشكل كامل، والسماح يومياً بدخول نحو 20,000 طن مواد بناء، من بينها 4,000 طن أسمنت، 1,600 طن حديد و16,000 طن حصمة بحسب اتحاد الصناعات الانشائية. أما في حالة استمرار الآلية المعمول بها حالياً فإن عملية اعادة الاعمار ستستغرق أكثر من 20 عاماً، وذلك وفق تقديرات شركات المقاولات والبناء في غزة.
– وقد تسلم أصحاب المنازل المدمرة جزئياً الكمية المحددة لهم، وفقاً للآلية الأممية، من نقاط التوزيع الـ 18 المنتشرة في القطاع، وذلك بعد إشعارهم بذلك من قبل وزارة الأشغال العامة والإسكان بغزة، من خلال كشوفات دورية صادرة عنها، وتطالبهم فيها بالتوجه إلى الموردين لاستلام الكمية المحددة لهم وفقاً لبرنامج حصر الأضرار الذي نفذته UNDP وUNRWA، ويقوم المواطن المتضرر بدفع قيمة هذه المواد قبل استلامها.
– اشتكى العديد من المواطنين الذين تسلموا حصصهم من مواد البناء، أن كمية الأسمنت المخصصة لهم لا تفي باحتياجاتهم الحقيقية ولا تكفي لترميم منازلهم، وهو ما اضطر العديد منهم إلى بيع الكمية المحدودة التي استلموها في السوق السوداء، ومن ثم يعاد بيعها مرة أخرى لمحتاجين آخرين بأسعار مضاعفة عدة مرات.
– ونظراً لأن كمية الأسمنت الواردة تم توزيعها فقط على أصحاب المنازل المدمرة جزئياً أو متضررة بشكل طفيف، واستثناء باقي الشرائح الأخرى، بمن فيهم أصحاب المنازل والمنشآت المدنية الأخرى المدمرة كلياً، فيما لم تدرج أصلاً المشروعات الانشائية الخاصة ضمن الآلية، فإنه لم يُشرع بإعادة بناء مباني جديدة حتى الآن، وبالتالي فإن الأزمة التي طالت مواد البناء ظهرت بشكل واضح في مادة الأسمنت، بينما لم تظهر في باقي المواد الاخرى، وبخاصة حديد البناء والحصمة، رغم أن الكميات التي تم توريدها منها إلى القطاع محدودة جداً.
– وقد تركت تلك الآلية البيروقراطية والبطيئة آثاراً وخيمة على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في قطاع غزة، والذي وصلت فيه كافة المؤشرات الاقتصادية مراحل تدهور كارثية، بما في ذلك معدلات البطالة والفقر، واستمرار الأزمات على مستوى الخدمات الإنسانية كالصحة والتعليم والضمان الاجتماعي. وفي الوقت الذي توقع فيه الكثيرون أن تنعش خطة إعمار القطاع الأممية الاقتصاد الغزي قليلاً، وتعمل على تشغيل نحو 200 ألف عامل، وفقاً لتقديرات اتحاد المقاولين الفلسطينيين، توقف نحو 70 ألف عامل، بين مهندس وفني وعامل عن العمل، وذلك جراء توقف نحو 300 شركة مقاولات عن العمل كلياً. جدير بالذكر أن الحصار الاسرائيلي أدى إلى تدهور الأوضاع الإنسانية في القطاع، وبخاصة فيما يتعلق بمستويات الفقر والبطالة،
حيث بلغت نسبة العائلات الفلسطينية التي تعيش تحت خط الفقر 38.8%، بينها 21.1% تعاني من الفقر المدقع بحسب الاحصاء المركزي للإحصاء الفلسطيني. ووفقاً لنفس الاحصائيات، بلغ معدل البطالة في قطاع غزة 32.5% من بين المشاركين في القوى العاملة.
– يعيق تأخير وصول أموال المانحين التي خصصت لإعادة اعمار قطاع غزة، عملية إعادة الاعمار بشكل كبير، سيما أن العديد ممن سمح لهم بشراء مواد البناء يفتقرون إلي المال لشراء احتياجاتهم لترميم منازلهم، ما اضطر العديد منهم إلى بيع حصصهم، حتى يتسنى لهم الحصول على بعض الاموال اللازمة لتغطية احتياجاتهم الأساسية وبقاؤهم على قيد الحياة. ووفقاً لوزير الأشغال العامة والإسكان، لم يصل من الأموال المخصصة لإعادة الإعمار سوى 200 مليون دولار، أي ما نسبته 3.7% من مجموع المبلغ (5.4 مليار دولار) الذي تعهدت الدول المانحة بتقديمة في مؤتمر القاهرة لإعادة إعمار غزة كاستجابة لاحتياجات الشعب الفلسطيني، وما نسبته 8.3% فقط من المبلغ المخصص لجهود إعادة إعمار القطاع (2.4 مليار دولار).
وفي ضوء ما سبق، فإن المركز الفلسطيني لحقوق الانسان:
– يرى أن الاستمرار في نفس الوتيرة المتعلقة بالآلية الأممية الخاصة بإعمار قطاع غزة هو عملية محكوم عليها بالفشل مسبقاً، حيث أن تلك الآلية أخفقت كلياً في تحقيق أية انجازات فعلية على الأرض، أو تلبية الحد الأدنى من متطلبات إعادة اعمار القطاع، بل على العكس تماماً، ساهمت هذه الآلية، وما زالت، في مأسسة الحصار المفروض على قطاع
غزة منذ 8 سنوات. إن إلغاء آلية الامم المتحدة المعمول بها حالياً لإعادة الاعمار هو مطلب عاجل، وذلك بعد ان أثبتت فشلها في التخفيف من حدة معاناة متضرري العدوان الحربي، وبخاصة أصحاب المنازل والمنشآت المدمرة كلياً، حيث لم تتلق هذه الشرائح أي تعويضات أو مواد بناء لإعادة اعمار ممتلكاتهم المدمرة كلياً.
– يؤكد أن المدخل الأساسي في التعاطي مع قضية إعمار غزة يجب أن يبدأ بإقرار المجتمع الدولي، والأمم المتحدة على وجه الخصوص، بأن سياسة الحصار الشامل المفروض على قطاع غزة هي غير قانونية، وتندرج في إطار سياسة العقاب الجماعي المفروض على السكان المدنيين. وبالتالي يتطلب ذلك الضغط، وبكافة الوسائل القانونية، على السلطات الإسرائيلية المحتلة من أجل رفع كافة أشكال الحصار الجائر، وبشكل فوري، ليتسنى التدفق السريع لمواد البناء، والذي يستجيب لحجم الدمار الذي خلفه العدوان الحربي الأخير، وكحل وحيد تدركه كافة الأطراف المعنية بإعمار القطاع.
– إن ذلك يتطلب بشكل خاص إزالة كافة القيود عن توريد مواد البناء اللازمة، على ألا تقل الكميات الواردة عن 10.000 طن يومياً، وذلك لتلافي تدهور الأوضاع الانسانية، وعودة الحياة لطبيعتها، فضلاً عن تحريك العجلة الاقتصادية، وتشغيل الآلاف من العاطلين عن العمل لتخفيض نسبة الفقر.
– إن مساهمة كافة الأطراف في جهود إعادة الاعمار يحتاج إلى فتح السوق بشكل أكبر أمام التجار، وخاصة لمن يتوفر لديهم القدرات الإدارية والفنية والمالية للتنافس على مواد البناء، وخاصة استيراد الاسمنت، وعدم ترك ذلك لاحتكار شركة بعينها. كما ينبغي على السلطات الإسرائيلية المحتلة أن تباشر بتوسيع معبر كرم أبو سالم، وفتح كافة معابر القطاع الحدودية الأخرى التي جرى إغلاقها في الماضي، وذلك لتستجيب لحاجات إعادة الإعمار الضخمة، بما يسرع من وتيرة الإعمار.
– يدعو الدول المانحة إلى الوفاء بالتزاماتها المالية التي تعهدت بتقديمها في مؤتمر القاهرة الخاص بإعادة إعمار قطاع غزة بشكل عاجل، حيث يساهم تأخر وصول تلك الأموال إلى المتضررين، في تأخير عملية إعادة الإعمار، وبالتالي في استمرار تدهور أوضاعهم الإنسانية. وفي هذا المضمار يجب الاشارة إلى ضرورة إزالة كافة الأسباب التي من شأنها أن تثير خشية المانحين، وأهمها استمرار الحصار الإسرائيلي وعدم وضوح آلية الأمم المتحدة لإعمار غزة، واستمرار الانقسام الفلسطيني، فضلاً عن التهديدات الاسرائيلية المستمرة في شن عدوان جديد على قطاع غزة.
– يذكر بأن فشل المجتمع الدولي، وعلى مدار السنوات الثمانية السابقة، في الانتصار لقواعد القانون الإنساني الدولي، والقانون الدولي لحقوق الإنسان، قد شكل حالة إحباط كبيرة، خاصة لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان في قطاع غزة، والذين عانوا ويلات ثلاثة حروب متعاقبة شنتها قوات الاحتلال الاسرائيلي في غضون أقل من ست سنوات، فضلاً عن استمرار آثار وتداعيات الحصار الجائر على حياة السكان الاقتصادية والاجتماعية.
– يدعو الأطراف السامية المتعاقدة على اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، إلى القيام بخطوات عملية، وفقاً لالتزاماتها القانونية، من أجل إجبار السلطات الإسرائيلية المحتلة على احترام تلك الاتفاقية، ووقف كافة السياسات التي تنتهك حقوق الفلسطينيين الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فضلاً عن حقوقهم المدنية والسياسية.