المرجع: 56/2016
التاريخ: 8 نوفمبر 2016
التوقيت: 09:10 بتوقيت جرينتش
يتابع المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان بقلق بالغ الحالة التي وصل إليها القضاء الفلسطيني وسعي السلطة التنفيذية الحثيث للسيطرة عليه بشكل كامل، في حالة تكرس الاستبداد بالسلطة، من خلال تركيزها في منصب الرئيس الفلسطيني. وقد ظهرت هذه المساعي بصورة جلية في أحداث متوالية مرت بالقضاء الفلسطيني ومجلس القضاء الأعلى والتي عكست بشكل واضح مدى تأثير السلطة التنفيذية على مرفق القضاء.
طالما كان الحديث عن مرفق القضاء يستوجب الكثير من الحرص والحذر لما تمثله مكانته من قدسية وعمله من حساسية تتعلق بشكل مباشر بأمن المواطن والاستقرار والسكينة في المجتمع. وكان المركز دائم الدعم لاستقلال القضاء والحفاظ على هيبته، ويرى أن القضاء اليوم في حاجة ماسة إلى الاسناد والدعم من المجتمع المدني في مواجهة تغول السلطة التنفيذية، والذي بات لا يمكن السكوت عنه.
وتأتي الاطاحة برئيس مجلس القضاء الأعلى، المستشار سامي صرصور، كمؤشر صاعق على الحالة التي وصل إلها القضاء الفلسطيني، وتأكيدا على أن الفصل بين السلطات لم يعد موجودا، ليس فقط بين السلطة التشريعية والتنفيذية، بما يمارسه الرئيس الفلسطيني من اصدار قرارات بقانون، بحجة غياب المجلس التشريعي، المغيب عمداً, بل ايضاً بما تكشفه هذه الحادثة من سيطرة كاملة للسلطة التنفيذية على رأس الهرم في السلطة القضائية.
وكان المستشار صرصور، قبل الاطاحة به بشهر واحد تقريبا، قد تعرض لهجوم كلامي من أحد قادة فتح البارزين، وهو اللواء توفيق الطيراوي، تعلق بممارسة المستشار صرصور لعمله، ليُعلن بعدها ببضعة اسابيع أن الرئيس الفلسطيني قد قبل استقالة المستشار صرصور من منصبه كرئيس لمجلس القضاء الأعلى.
وفي اعتراف بالغ الخطورة، أكد المستشار صرصور في افادة قدمها للهيئة المستقلة لحقوق الإنسان، أن الاستقالة التي تم الاعلان عنها كان قد وقعها قبيل أدائه القسم القانوني لتولي المنصب في 20 يناير 2016.
ويرى المركز أن هذا الاعتراف وموافقة شخص بهذا المنصب الرفيع على توقيع استقالته قبل استلام رأس الهرم في أقدس السلطات، يطرح قضية خطيرة جداً، تثير شكوك مبررة، حول الاجراءات الأخرى التي قام ويقوم بها بعض المتنفذين في السلطة التنفيذية للسيطرة على مرفق القضاء وتقويض استقلاليته.
“كنا نتحدث عن تأثير الانقسام في السلطة القضائية والشكوك حول استقلاليته.. الآن لم يعد الأمر مجرد شكوك، ولا يمكن السكوت بعد فضيحة رئيس مجلس القضاء الأعلى.. نعيد التأكيد على أن القضاء خط أحمر، وأن هذه الفضيحة لا يجب أن تمر دون محاسبة.. وأكرر، إن لم يكن للقضاء أرجل، فعلينا أن نصنع له ارجل من خشب” تعليق المحامي راجي الصوراني، مدير المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان.
وفي هذا السياق، يعرب المركز عن بالغ قلقه من أن تكون الاطاحة برئيس مجلس القضاء الأعلى بهذه الطريقة، مقدمة لمزيد من السيطرة على السلطة القضائية، بما اوجدته هذه الحالة من سابقة ردع قد تطارد كل من يعارض تدخل السلطة التنفيذية في عمل القضاء.
ويضاف إلى ذلك قرار الرئيس الفلسطيني الصادر بتاريخ 3 ابريل 2016 الخاص بتشكيل المحكمة الدستورية والذي جاء في اوضاع تثير الكثير من الشكوك حول الهدف من تشكيلها في ذلك الوقت، وفي ظل حالة الانقسام والنزاعات الداخلية في حركة فتح.
ويعتبر المركز أن هذا التشكيل يأتي في سياق سياسة ممنهجة لاحتواء القضاء، ومد السيطرة من سن القوانين، إلى احتكار تفسيرها. ويرى أن تشكيل محكمة دستورية حقيقية حامية للقانون وسيادته يتطلب توافق وطني لن يكون الا بعد انهاء الانقسام.
وقد كان لهذا التدخل السافر في هيكلية الجهاز القضائي من قبل السلطة التنفيذية تأثيراً كبيراً على مصداقية احكامه وقدرتها على تحقيق وظيفتها المنوطة بها من تحقيق العدالة والاستقرار لكافة اطراف النزاعات.
وقد ظهر ذلك جلياً في الحكم الصادر عن المحكمة الدستورية مؤخراً بتاريخ 6 نوفمبر 2016، والذي اعطى الرئيس حق رفع الحصانة عن اعضاء المجلس التشريعي، وما أثاره الحكم من جدل _ يرتبط بسياق طويل عرضنا لأبرزه في هذا البيان_ يعكس ضآلة ما تبقى من مصداقية للأحكام القضائية في المجتمع الفلسطيني.
وتعليقاً على هذا الحكم، يرى المركز أنه وبالرغم من ضرورة وجود طريقة لمحاسبة اعضاء المجلس التشريعي المتجاوزين للقانون، وأن لا تقف الحصانة كعائق أمام تحقيق العدالة ومكافحة الفساد، إلا أن القانون قصر صلاحية رفع الحصانة على المجلس التشريعي وحده، وذلك بموجب المادتين (95، 96) من اللائحة التنفيذية للمجلس التشريعي.
ويمكن القول أن هناك حالة من الفراغ القانوني بالنسبة لرفع الحصانة عن اعضاء المجلس التشريعي في ظل التعطيل المتعمد للمجلس التشريعي، كأحد تبعات الانقسام الفلسطيني. ويرى المركز أن المحكمة جانبها الصواب عندما جسرت هذه الثغرة بقرار اعطاء الرئيس الفلسطيني منفرداً حق رفع الحصانة.
وكان الأولى بالمحكمة أن تحتفظ لنفسها بحق رفع الحصانة في حال غياب المجلس التشريعي أو أن تشترط موافقتها على قرارات رفع الحصانة الصادرة من الرئيس، بدلا من تكريس مزيد من السلطات المطلقة للرئيس الفلسطيني، والذي يطرح مزيد من الشكوك حول الضغوط التي تتعرض لها المحكمة من قبل السلطة التنفيذية.
وفي ذات السياق، أثار القرار الصادر عن المحكمة العليا بتاريخ 3 اكتوبر 2016 القاضي بإلغاء إجراء الانتخابات البلدية في قطاع غزة واستكمالها في الضفة الغربية الكثير من الشكوك حول استقلالية القضاء.
والحقيقة، إنه وبغض النظر عن الحكم ومسبباته، وتحفظاتنا عليه، إلا أن الأهم هو التنبه للحالة التي وصلت إليها صورة القضاء في الشارع الفلسطيني، والتي كشف عنها هذا الحكم. وعلى النظام القضائي الفلسطيني أن يسأل نفسه: هل مازال عنواناً للحقيقة التي تحقق للجميع السكينة، أم إنه أصبح مبعث للقلق والتشكيك، وكيف كان تدخل السلطة التنفيذية في عمله وهيكليته مسبباً رئيسياً إلى ما وصلت إليه هذه الصورة.
يجب الاقرار بأن مناقشة الأحكام القضائية، أمر يتطلب الكثير من الحرص ويستلزمه الكثير من الاحترام، غير أن هذا الحرص والاحترام يفترضان وجود سلطة قضائية مستقلة، وهذا الأمر في ضوء فضيحة الاستقالة المسبقة لرئيس مجلس القضاء الأعلى أصبح محل تساؤل بل محل اتهام.
وأصبح، أكثر من أي وقت مضى، مجلس القضاء الأعلى وكافة الهيئات القضائية في محل يستوجب عليهم العمل لإعادة الاعتبار للسلطة القضائية وأن تثبت للشعب الفلسطيني أنها ما زالت جديرة بالثقة والاحترام.
وفي سياق متصل، ما زال 17 حكماً قضائياً لم يتم تنفيذها، في مخالفة صريحة للقانون الفلسطيني، سيما المادة (106) القانون الأساسي الفلسطيني، والتي لم تؤكد فقط إلزامية تنفيذ الأحكام القضائية دون تعطيل، بل وجعلت مجرد تعطيل تنفيذها جريمة تستوجب العقاب والعزل من الوظيفة العامة.
ويلاحظ أن التنكر لتنفيذ الاحكام القضائية سياسة تنتهجها السلطة التنفيذية منذ قيام السلطة الفلسطينية، ويرصد المركز ومؤسسات حقوق الانسان الأخرى عدداً من الحالات كل عام. وتعكس هذه الظاهرة تغول السلطة التنفيذية على السلطة القضائية، وخاصة إذا علمنا أن أحداً لم يحاسب على تعطيل تنفيذ الاحكام القضائية.
إن الثقة بالقضاء أمر يتعلق ليس فقط بالأخلاق والعدالة بل بالأمن القومي والاستقرار، وإن المس باستقلاليته وصفة انتحار للسلطة التنفيذية تضع الأمن والنظام العام والاستقرار على المحك.
كل عاقل يعرف أن حل النزاعات من خلال قضاء مستقل ونزية هو الطريقة الوحيدة لوأد الفتن والقلاقل وتعزيز الاستقرار في أي مجتمع. وهذه الحقائق تضع على الرئيس الفلسطيني مسؤولية وطنية وأخلاقية، تفرض عليه ضرورة عدم التدخل في هيكلية أو عمل السلطة القضائية، بل وحمايتها من أي تدخل.
يؤكد المركز أن سياسة السيطرة على القضاء الفلسطيني ليكون وسيلة السلطة التنفيذية لإعطاء شرعية لأفعالها المخالفة للقانون أمر سيسحب الشرعية من القضاء ذاته، وسيؤدي بالنهاية إلى انهيار شامل في كافة مؤسسات السلطة.
إن انهاء الانقسام واعادة الاعتبار للسلطة القضائية هو الطريق السليم لكل من يدعي إنه صاحب مشروع دولة ديمقراطية مستقلة.
وإذ يؤكد المركز على التزامات السلطة الفلسطينية بموجب المادة (14) من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، والتي أكدت على ضرورة ضمان استقلال القضاء، فإنه يهيب بكافة الأطراف السياسية الوقوف عند مسؤولياتهم لضمان اعادة الاعتبار للسلطة القضائية.
ويطالب المركز الاطراف السياسية كافة والرئيس الفلسطيني بشكل خاص بتشكيل لجنة قضائية وطنية، من قضاة متقاعدين وقامات قانونية بارزة، بالتوافق بين القوى السياسية وبمشاركة الكتل البرلمانية والمجتمع المدني، للتحقيق فيما أفاد به رئيس مجلس القضاء الأعلى من توقيعه لاستقالته قبل تولي منصبه، والتأكد من عدم وجود حالات مشابهة في مرفق القضاء، بما فيه النيابة العامة. ويجب أن تؤسس هذه اللجنة لمرحلة انتقالية، تكون بمثابة اللبنة الأولى في مشروع اعادة توحيد مرفق القضاء واعادة الاعتبار له، كخطوة في الطريق لإنهاء الانقسام الفلسطيني.
ويناشد المركز مجلس القضاء الأعلى، بصفته القيم على استقلال القضاء وحسن أدائه، بعدم الخضوع لمحاولات السيطرة من السلطة التنفيذية، واتخاذ كل ما يلزم من أجل ضمان استقلال السلطة القضائية وحجبها عن أي تأثير للسلطة التنفيذية، وفضح أي ممارسات تقوم بها الأخيرة للسيطرة على القضاء.