يوليو 10, 2025
تقرير ميداني: عرب المليحات في أريحا .. النموذج الأحدث لسياسة الاحتلال بالتهجير القسري في الضفة الغربية
مشاركة
تقرير ميداني: عرب المليحات في أريحا .. النموذج الأحدث لسياسة الاحتلال بالتهجير القسري في الضفة الغربية

تشهد منطقة الأغوار الفلسطينية، وخاصة شرق محافظة أريحا، تصعيدًا خطيرًا في انتهاكات قوات الاحتلال الإسرائيلية الرامية إلى تفريغ الأرض من سكانها الأصليين، عبر ممارسة أشكال متعددة من التهجير القسري بحق التجمعات البدوية. ويبرز من بين هذه الحالات ما تعرض له تجمع عرب المليحات التحتا، جنوب شرق قرية العوجا، من ضغوط منهجية دفعت سكانه إلى إخلاء مساكنهم ومناطق رعيهم في واحدة من أخطر عمليات الترحيل القسري خلال الفترة الأخيرة.

ويأتي هذا التهجير وسط تصعيد خطير في اعتداءات المستوطنين، لا سيما ما يُعرف بـ”الاستيطان الرعوي”، الذي يستخدم قطعان الماشية كأداة لفرض السيطرة على الأراضي الفلسطينية وحرمان أصحابها منها، بما يشكل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني وقواعد حقوق الإنسان، وفي مقدمتها حظر التهجير القسري لسكان الأرض المحتلة.

يهدف هذا التقرير إلى توثيق وقائع التهجير التي تعرض لها سكان تجمع عرب المليحات، ورصد الأضرار الإنسانية والمجتمعية الناجمة عنه، ضمن جهود المركز في فضح الجرائم الإسرائيلية المتواصلة، والدعوة إلى محاسبة مرتكبيها، وضمان الحماية الدولية للمدنيين الفلسطينيين.

ووفق المعلومات والشهادات التي جمعها طاقم المركز، ففي ساعات صباح يوم الخميس الموافق 3/7/2025، شرعت نحو 18 عائلة فلسطينية مكونة من 123 فردا، منهم 28 امرأة و61 طفلا، بتفكيك منازلهم المكونة من الصفيح والحديد والطوب وحظائر من الشادر وحظائر مواشيهم المبنية من الصفيح والحديد والشادر، ونقلها إلى منطقة تبعد 5 كم عن منطقة سكنهم، وأراضيهم، بعد سلسلة من الاعتداءات التي نفذها المستوطنون في المنطقة بحق السكان.

صورة توضيحية لموقع تجمع عرب المليحات وتواجد المستوطنات والبؤرة في محطيه وأماكن تنفذ الهجمات على السكان  والناطق التي منع السكان من الوصول إليها- إعداد باحث المركز

واضطرت العائلات للنزوح بعد إقدام المستوطنين على إقامة بؤرة استيطانية عبارة عن خيمة وحظيرة مواشي في وسط التجمع بتاريخ 1/7/2025، وهي امتداد لبؤرة سابقة أقاموها بداية العام في منطقة راس العوجا في الناحية الشمالية من التجمع.

مشاهدات ميدانية

وخلال زيارته الميدانية للمنطقة، رصد طاقم المركز، الظروف المأساوية التي أخضع لها المواطنين الفلسطينيين، وحالة الأسى والقهر التي ألمت بهم خلال تفكيكهم مساكنهم للرحيل قسرًا عن المنطقة جراء سلسلة من اعتداءات المستوطنين. فقد كان السكان المهجرون يتعاونون لتفكيك مساكنهم وخيامهم ونقلها في شاحنات إلى منطقة تبعد عدة كيلو مترات ليبدؤوا من جديد تأسيس حياة بعد أن تم اقتلاعهم من منطقتهم.

تقول باحثة المركز، هنادي البرغوثي:

“اعتبرت سلطات الاحتلال وجود هذه التجمعات البدوية حالة صمود خطرة، حيث تراها حراسة للأرض الفلسطينية؛ وهو ما جعلها هدفا مركزيا لسياسات الإزالة عبر أدوات مختلفة مثل: التوسع الاستيطاني، الاعتداءات المتكررة، إقامة البؤر الرعوية، الهدم المتكرر، وحملات التحريض من الإدارة المدنية الإسرائيلية. عمليات الهدم التي كانت تحدث بشكل متقطع خلال السنوات الماضية تصاعدت بشكل ممنهج في السنوات الأربع الأخيرة وترافقت مع سرقة الأغنام وحرق المعدات الزراعية وتهديد سبل العيش الأساسية مما شكل ضغطا دائما ومتواصلا على السكان وأدى في نهاية المطاف إلى دفعهم نحو الرحيل القسري.”

وعن دوافع اضطرار السكان للرحيل تحدثت سيدة، 34 عاما متزوجة أم لثلاثة أطفال لباحثة المركز بما يلي: 1

“قررنا الرحيل بعد أن دمر مستوطنون خيام جيراننا، وبعد أن أصبحت الاعتداءات في الآونة الأخيرة شبه يومية لا تحتمل. فككنا خيمتنا وجمعنا ما تبقى من حاجياتنا، وانتقلنا إلى منطقة تُعرف باسم العوسج في منطقة العوجا، هناك حالياً نحو 11 عائلة من التجمع، تحاول أن تبدأ من جديد في ظروف قاسية وغير مستقرة، ومن حسن الحظ أن فترة التهجير تزامنت مع العطلة الصيفية وهذا خفف جزئياً من تأثير الصدمة على طفلتي التي كانت تدرس بالمدرسة الوحيدة في المنطقة. اليوم نواجه قلقاً كبيراً حول مستقبل أطفالنا الدراسي مع اقتراب بداية الفصل القادم لا توجد لدينا مدرسة قريبة أو خطة واضحة لتعليم الأطفال، ونحن نخشى أن يفقدوا حقهم في التعليم كما خسرنا الأرض والمأوى من قبل، فكل ما تبقى من ذاكرتنا في عرب المليحات هو صور ممزقة وأرض خالية وخوف لا يفارق أطفالنا.”

يشكل موقع التجمع على شارع المعرجات الطريق الحيوي الذي يربط بين رام الله ومدينة أريحا نقطة استراتيجية جعلته في مرمى الاستهداف المباشر؛ إذ إن السيطرة على هذا الشارع تعد أداة مركزية لمنع التمدد الجغرافي للتجمع من الجهة الشرقية ولفرض واقع ميداني جديد يقصي الوجود الفلسطيني ويمهد لتوسيع الاستيطان.

منطقة التجمع المهجر. تصوير باحثة المركز

ووفق ما أفاد به السكان لطاقم المركز، فإن السنوات الأربع الأخيرة شهدت تصعيدا كبيرا في الهجمة على التجمع تمثل ذلك في زرع البؤر الرعوية الاستيطانية بشكل متسارع خاصة منذ بداية أكتوبر 2023، حيث تم تهجير تجمع المعرجات الوسطى بالكامل وإنشاء بؤرة استيطانية رعوية في موقعه.

وتكررت هذه السياسة في تجمعات أخرى مثل واد السيق، شرق محافظة رام الله، وشلال العوجا، شمال أريحا، إلى أن وصلت إلى عرب المليحات الذي يعد من أكبر وأهم التجمعات البدوية في الممر الواصل بين أريحا ورام الله. هذا التسلسل لا يمكن فصله عن استراتيجية أوسع تهدف إلى إفراغ المنطقة من الوجود الفلسطيني لصالح المشاريع الاستيطانية الكبرى.

ووفق المعلومات والشهادات التي جمعها طاقم المركز، كان التجمع يضم نحو 70 عائلة فلسطينية، قوامها 500 شخص، اضطر أغلبهم للرحيل عن المنطقة منذ نحو ثلاثة أعوام، بسبب المضايقات التي نفذتها قوات الاحتلال عبر منعهم من الوصول إلى المراعي في المنطقة الشمالية من التجمع، والتي تصنف ضمن منطقة إطلاق نار وتحمل رقم (906)، بالإضافة إلى منعهم من الرعي في المنطقة الجنوبية من مستوطنة “ميأوت أريحا” التي تبعد عن التجمع 500 متر.

مواطنون يفككون مساكنهم. صورة حصل عليها باحث المركز من أحد النشطاء في المنطقة

وتعرض التجمع لعدة هجمات من مليشيات المستوطنين، خلال عام 2025، شكلت في مجموعها حالة ضغط وإرهاب للمواطنين لدفعهم إلى الرحيل عن المنطقة في إطار مساعي تغيير الواقع الديمغرافي فيها.

وضمن ما سبق توثيقه من طواقم المركز، أقدمت مجموعة مستوطنين بتاريخ 31/5/2025، على إحراق مسجد تجمع عرب المليحات الواقع على أطراف التجمع، ومساحته 36م2، ومبني من الحديد والصفيح، حيث كسروا زجاج المسجد وألقوا مواد سريعة الاشتعال داخله، مما أدى إلى احتراقه بالكامل.

سبق ذلك، قيام مستوطنين بسرقة نحو 30 رأس من الماشية في منتصف شهر فبراير الماضي، والتجوال طوال ساعات النهار بين منازل المواطنين، وإلقاء الحجارة عليها، ومنعهم من الوصول الى المراعي الطبيعية في محيط التجمع، وقطع خط المياه الموصل إلى التجمع أكثر من مرة.  كما قام المستوطنون بتنفيذ هدم في منتصف مارس الماضي طالت بركسين من الصفيح وحظيرة وخزانات مياه والواح طاقة شمسية.

يروي المواطن سلمان مليحات لباحثة المركز ما حدث في التجمع المذكور من اعتداءات :2

“منذ بداية عام 2025، بدأ تجمعنا البدوي في منطقة عرب المليحات جنوب شرقي قرية العوجا، يتعرض لهجمة ممنهجة من مجموعات المستوطنين. في مطلع شباط/فبراير الماضي، اقتحم عدد من المستوطنين المنطقة، وسرقوا جرارًا زراعيًا نستخدمه في الري ونقل الأعلاف وخدمة الماشية. هذه الحادثة تسببت بخسارة كبيرة لنا، وأثّرت مباشرة على سبل معيشتنا اليومية، خاصةً أننا نعتمد على هذا النوع من المعدات الزراعية بشكل أساسي.  وبعد نحو أسبوعين من هذه الحادثة، وتحديدًا في منتصف فبراير، عاد المستوطنون مجددًا إلى محيط التجمع، وهذه المرة هدموا بشكل مباشر عددا من البركسات والمساكن البسيطة التي تقيم فيها بعض العائلات.  نفّذ المستوطنون الاعتداء بأيديهم، مستخدمين أدوات حديدية وجرافات صغيرة. هدموا المساكن، وألقوا محتوياتها في العراء، وكان واضحًا أن هدفهم ليس فقط التخريب، بل فرض حالة من الترهيب والضغط المتواصل علينا. لاحقًا، تكررت الاعتداءات بوتيرة يومية تقريبًا. كان المستوطنون يتسللون في ساعات الليل، يقتربون من التجمع، يطلقون صرخات تهديد، يرشقون الحجارة على الخيام، ويلاحقون الأطفال ويخيفون النساء. في بعض الليالي، حاولوا التسلل لسرقة الأغنام أو العبث بسياجات المراعي. لم نشهد أي حماية، لا من جهة الاحتلال ولا من أي جهة أخرى. كنا وحدنا في مواجهة خطر منظم ومتصاعد. في ظل هذه الظروف، ومع ازدياد الخطر المحدق، بدأنا نفقد القدرة على البقاء. ابتداءً من 2و3 تموز/يوليو 2025، شرعت العائلات الباقية في التجمع – والتي بلغ عددها حينها 18 عائلة – بتفكيك خيامها ومساكنها، ونقل ما أمكن من الأمتعة إلى منطقة تُعرف بـ”العوجا – المنطقة الشرقية”، على بُعد نحو 5 كم شرق موقعنا الأصلي. نزوحنا لم يكن طوعيًا؛ لقد أُجبرنا على الرحيل تحت ضغط الاعتداءات المتكررة، وسرقة ممتلكاتنا، وتخريب مساكننا، وانعدام الشعور بالأمان. لم نغادر لأننا اخترنا ذلك، بل لأن البقاء في التجمع بات يشكّل تهديدًا وجوديًا علينا وعلى أطفالنا. واليوم، كل ما تبقى في المكان هو خيام فارغة وآثار أقدامنا، بينما نحاول في منطقتنا الجديدة أن نعيد لمّ شمل العائلات، ونبحث عن حدٍّ أدنى من الاستقرار.”

وتروي سيدة من سكان تجمع عرب المليحات (متزوجة وأم لخمسة أطفال) لباحثة المركز: 3

“كنا نعيش في خيمة بسيطة نعتمد في معيشتنا على تربية الأغنام والمواشي. منذ بداية عام 2025 بدأ الوضع في تجمعنا “عرب المليحات” يزداد سوءا، وفي مطلع شهر فبراير اقتحم المستوطنون منطقتنا حرقوا لنا جرارا زراعيا كنا نعتمد عليه في الري ونقل الأعلاف. وبعد أسبوعين فقط عادوا مرة أخرى وهذه المرة لم يسرقوا فقط بل بدأوا بهدم المساكن البسيطة التي نقيم فيها لم يكن برفقتهم أي جهة رسمية بل نفذوا الاعتداء بأيديهم مستخدمين أدوات حديدية وجرافات صغيرة دمروا مساكن الجيران وألقوا محتوياتهم في العراء. في اليومين الأخيرين قبل رحيلنا أنشأ مستوطنون بؤرة استيطانية جديدة داخل التجمع قريبة جدا من مساكننا مما زاد من الضغط النفسي وأجبرنا على المغادرة. أصبحت الاعتداءات شبه يومية كانوا يقتربون من التجمع ليلا يطلقون صرخات تهديد يرشقون الحجارة على الخيام ويخيفوننا كنا نعيش في حالة رعب دائم. في إحدى الليالي استيقظنا لنجد أحد الخزانات قد أفرغ وسياج المراعي قد قطع كل يوم كنا نفقد شيئا من أماننا وفي 2 تموز 2025 لم نعد قادرين على التحمل بدأت العائلات المتبقية ومنها عائلتي بتفكيك الخيام ونقل ما أمكن من الأمتعة إلى منطقة تعرف بـ العوجا المنطقة الشرقية. رحلنا لأننا نريد إبعاد الخطر المباشر عن حياتنا وحياة أطفالنا.”

ويقع تجمع عرب المليحات جنوب شرق قرية العوجا، في مدينة أريحا، ويقطنه سكان من عائلتي الكعابنة والمليحات، اللتين هاجرتا من منطقة بئر السبع، واستقرتا لاحقًا في المنطقة. ويتكون التجمع من مساكن مبنية من الصفيح والطوب والحديد، ويعتمد سكانها على تربية المواشي بشكل أساسي. ويوجد في التجمع مدرسة من الصفيح، باتت مهددة بفعل التوسع الاستيطاني الذي اقترب حتى محيط المدرسة؛ مما حول البيئة التعليمية إلى مساحة قلق وخطر دائم وضرب أحد أهم أعمدة الاستقرار الاجتماعي والنفسي في التجمع.

يشار إلى أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي والمستوطنين هجروا منذ 7/10/2023 حتى نهاية يونيو 2025 سكان (46) تجمعا فلسطينيا جزئيا وكليا، أي 428 عائلة فلسطينية (2635 فرداً منهم 1073 طفلاُ)، منها 8 تجمعات تم تهجيرها خلال الستة أشهر الأولى من عام 2025.4

البؤرة الاستيطانية التي أقامها مستوطنون في المنطقة

يؤكد المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان أن ما يجري في تجمع عرب المليحات يُشكّل جريمة تهجير قسري ممنهج ترقى إلى جريمة حرب، وفقًا لاتفاقيات جنيف ونظام روما الأساسي، ويندرج ضمن سياسة أوسع تهدف إلى تغيير الطابع الديمغرافي في مناطق الأغوار، وإحلال المستوطنين مكان السكان الأصليين.

ويشير إلى أن هذا النمط من الاعتداءات التي ينفذها المستوطنون لا تُعد ممارسات عشوائية أو فردية، بل هي نتاج تنسيق منهجي ومتعمد بين أذرع الاحتلال المختلفة: الحكومة، والجيش، والمستوطنين. ويعكس تقاسم الأدوار، سياسة رسمية تهدف إلى ترسيخ السيطرة الإسرائيلية على أراضي الضفة الغربية، وتفريغ المناطق الفلسطينية، عبر أدوات عنف منظّمة ومحمية قانونيًا وعسكريًا، في إطار تغيير الواقع الديمغرافي وتكريس خطة الضم.

وبناء عليه، فإن المركز:

  • يطالب المجتمع الدولي، بالتدخل العاجل لوقف عمليات التهجير القسري وتوفير الحماية الفعلية للتجمعات البدوية في الضفة الغربية.
  • ويدعو الأمم المتحدة وهيئاتها المعنية، إلى إرسال لجان تقصي حقائق لتوثيق هذه الانتهاكات ووضع حد لسياسة الإفلات من العقاب التي يتمتع بها الاحتلال الإسرائيلي.
  • ويحث المحكمة الجنائية الدولية على تسريع وتيرة تحقيقاتها في جرائم الحرب المرتكبة في الأراضي الفلسطينية، بما يشمل جرائم التهجير القسري، وتوسيع دائرة المساءلة لتطال المسؤولين عن سياسات الاستيطان والتهجير القسري.

  1. إفادة تلقتها باحثة المركز بتاريخ 5/7/2025، وطلبت صاحبتها عدم ذكر اسمها. ↩︎
  2. إفادة لباحثة المركز بتاريخ 4/7/2025. ↩︎
  3. إفادة تلقتها باحثة المركز بتاريخ 5/7/2025، وطلبت صاحبتها عدم ذكر اسمها. ↩︎
  4. مركز أبحاث الأراضي، الرابط: ↩︎

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *