تاريخ الإفادة: 13/9/2025
محمود عصام محمود العطار، متزوج وأب لأربعة أطفال، سكان شمال غزة ونازح حاليا وسط القطاع
كنت أقيم مع عائلتي الممتدة المكونة من12 فردًا غالبيتهم من النساء والأطفال، في منزلنا الكائن قرب دوار أبو شرخ في جباليا النزلة شمال قطاع غزة. كنت أعيش حياة بسيطة ومتواضعة يسودها الأمان والطمأنينة. أخرج يوميًا إلى عملي لأجل توفير قوت يومي لعائلتي، ورغم ضيق الحال وقلة فرص العمل المنتشرة نتيجة البطالة، لم أفقد الأمل أو أشعر باليأس يومًا، فقد كان الله يرزقني من حيث لا أحتسب. كنت أنا وزوجتي وأطفالي نحاول أن نحيا بسلام، نحب الحياة، وأجتهد قدر استطاعتي في إسعاد أسرتي ورسم البسمة على وجوههم، كل ذلك حتى اندلعت الحرب الإسرائيلية على غزة بتاريخ 7/10/2023، فبدأت معاناة النزوح المتكرر التي أثقلت حياتنا.
في البداية، اضطررت مع أسرتي وعائلتي الممتدة إلى التوجه نحو مدينة رفح في جنوب قطاع غزة. وهناك واجهنا ظروفًا قاسية، تمثلت في صعوبة الحصول على الطعام، ونقص حاد في المياه سواء الصالحة للشرب أو للاستخدام اليومي. كما عانينا من انتشار الأمراض نتيجة الاكتظاظ الشديد بالنازحين داخل المدينة، الأمر الذي جعل الحياة صعبة للغاية.
وبعد تهديد الجيش الإسرائيلي باجتياح مدينة رفح في مطلع أيار/مايو 2024، اضطررنا إلى النزوح مجددًا نحو أحد مراكز الإيواء، حيث سكنت مع عائلتي في مدرسة صوفا قرب شارع ميراج بمدينة خانيونس. مكثنا هناك فترة قصيرة حتى اجتاحت قوات الاحتلال المنطقة، فانتقلنا مرة أخرى إلى موقع التل جنوب غرب مدينة دير البلح وسط القطاع، لكن الحال لم يكن أفضل كثيرًا؛ فالمعاناة لازمتنا في كل مكان.
وبتاريخ 19/1/2025، أُعلن عن التهدئة، وكانت لحظة لا يمكن وصفها. اجتاحتنا فرحة غامرة، بكينا من شدّة الفرح، وظننا أن معاناتنا قد شارفت على النهاية. كنا نعتقد أن العودة إلى منازلنا التي هُجّرنا منها قسرًا ستنهي ذلّ المخيمات وقهر النزوح ووجع الفقر الطويل.
لكن عودتنا كانت صادمة؛ ليتنا لم نعد. فعندما وصلنا إلى منطقة منزلنا في جباليا النزلة وجدناه مدمرًا بالكامل، لم يتبقَّ منه شيء يذكر. لم نجد مأوى يضمنا سوى التوجه إلى مخيم حلاوة بأرض حلاوة في جباليا البلد. وهناك بدأت معاناة جديدة، إذ واجهنا صعوبة كبيرة في توفير أبسط مقومات الحياة، بعدما لم تترك قوات الاحتلال شيئًا في محافظة شمال قطاع غزة إلا ودمرته.
ورغم قسوة الظروف، حاول المواطنون إعادة شيء من ملامح الحياة، فبدأت الأوضاع تستقر نسبيًا بعد مرور بعض الوقت من خلال توفير سيارة مياه عذبة متنقلة، ومد خطوط مياه أرضية عبر البلدية، إضافة إلى توفير الطعام عبر التكيات. لكن سرعان ما تبدد هذا الاستقرار المؤقت مع عودة الحرب بتاريخ 18/3/2025، حين أعلن جيش الاحتلال الإسرائيلي استئناف القتال وانتهاء فترة الهدنة التي استمرت 42 يومًا.
منذ ذلك اليوم بدأت المعاناة الكبرى، خاصة بعد إغلاق المعابر ونفاد المواد الغذائية في معظم المناطق. أسرتي بدأت تتضور جوعًا، الأمر الذي أجبرني على التوجه نحو منطقة المساعدات قرب موقع زيكيم. وهناك تعرضت للإصابة بشظية عيار ناري في صدري وساقي اليسرى. كنت أعلم خطورة التوجه إلى ذلك المكان، وأدرك تمامًا أنني قد أعود محمولًا على الأكتاف جثة هامدة، لكن ما كان يوجع قلبي هو أنني رغم كل الخطر لم يكن أمامي خيار سوى البحث عن لقمة تسد جوع أطفالي. والأسوأ من ذلك أنني كنت غالبًا ما أعود خالي اليدين، بعدما لم أستطع الحصول على شيء نتيجة تزاحم عشرات الآلاف من المواطنين في المكان ذاته.
وبعد أن ألقى الجيش الإسرائيلي مناشير يطالب فيها سكان جباليا البلد بإخلاء منازلهم، ومع التقدم السريع لآلياته في المنطقة، اضطررت مع عائلتي إلى النزوح نحو منطقة دوار الصفطاوي في جباليا. لكن ما هي إلا فترة قصيرة حتى وصلت الآليات العسكرية إلى هناك أيضًا، فاضطررنا للنزوح مرة أخرى إلى منطقة مسجد الخالدي جنوب غرب جباليا.
مكثنا هناك لبعض الوقت، إلى أن أعلن الجيش الإسرائيلي بدء عملية عسكرية موسعة في محافظتي غزة والشمال، وطالب السكان بإخلاء المدينة والتوجه نحو الجنوب.
ورغم تلك التحذيرات، تمسكنا بالبقاء في المنطقة، على أمل أن تنتهي الأوضاع سريعًا، لكننا عشنا تحت قصف شديد رافقه تدمير واسع للمنازل والأبراج في عدة مناطق من محافظة غزة.
ومع اشتداد القصف بشكل غير مسبوق في المنطقة التي كنا نتواجد فيها، والقريبة من أحياء النصر والشاطئ الشمالي غرب مدينة غزة، عشنا واحدة من أبشع اللحظات مساء يوم الأربعاء الموافق 10/9/2025.. كانت تلك الليلة لا تُوصف؛ غارات متواصلة تهز المكان من كل اتجاه، وأصوات انفجارات متتالية تملأ السماء، وسط حالة من الرعب والصراخ تعم بين الناس. الجميع كان في حالة فوضى، لا يعرفون إلى أين يتجهون ولا أين يمكن أن يجدوا ملاذًا آمنًا، في وقت بدا فيه الموت حاضرًا في كل مكان.
هذه الوحشية أجبرتنا على اتخاذ قرار النزوح نحو جنوب قطاع غزة. قمنا بفك الخيام وترتيب أغراضنا، وتواصلنا مع أحد سائقي الشاحنات ليحضر مساء الجمعة الموافق 12/9/2025. حضر السائق، وحمّلنا الأغراض، وسرنا عبر شارع الرشيد دون وجهة محددة، بين عشرات الأسر الأخرى التي لم تعرف إلى أين تذهب. كان كل ما يدور في ذهني أن أنجو مع أسرتي من الموت.
بحثنا طويلًا عن مأوى، لكننا لم نجد مكانًا، خاصة مع قيام أصحاب الأراضي بوضع سور على أراضيهم ومطالبة النازحين بدفع 5 شواكل على الأقل لكل متر. اضطررت عندها للتوجه إلى مدينة دير البلح، وإنزال حمولة الشاحنة في حوالي الساعة 01:00 فجر يوم السبت الموافق 13/9/2025 أمام مقر كلية فلسطين التقنية، على أمل أن نجد مأوى، لكن دون جدوى؛ فمباني الكلية كانت ممتلئة عن آخرها، والشوارع محاطة بالخيام.
اضطررنا للمبيت في الشارع، وقلوبنا تتحسر لعدم وجود مكان يحمينا. شعرت بحالة الذل التي لم أتخيل يومًا أن أعيشها؛ حتى الأرض الفارغة يُطلب عليها إيجار، وكأن قسوة الاحتلال لم تكف، لتأتي بعدها قسوة بعض الناس على بعضهم، مما زاد من شعورنا بالخذلان والوحدة.
ومن الجدير بالذكر أن صاحب الشاحنة كان أحد أقرباء العائلة، وقد طالبنا بمبلغ 1500 شيكل كأجرة للنقل. وأقسم بالله أننا لم نملك من هذا المبلغ شيئًا واحدًا، فتم الاتفاق على وضعه دَيْنًا علينا، على أن نقوم بسداده لاحقًا حال تيسرت ظروفنا.