قتلت قوات الاحتلال الإسرائيلي مواطنًا فلسطينيًّا وأصابت 50 آخرين، مساء أمس الثلاثاء، بعد إطلاقها النار تجاه آلاف المدنيين الفلسطينيين المجوّعين، قرب نقطة توزيع مساعدات أقامتها في رفح جنوب قطاع غزة، مع استمرار جريمة الإبادة الجماعية منذ نحو 20 شهرًا. وتكرر إطلاق النار من قوات الاحتلال صباح اليوم تجاه مواطنين حاولوا الوصول لنقطة توزيع مساعدات أخرى في منطقة موراج جنوب خانيونس، ما أدى إلى سقوط المزيد من الضحايا.
تدلل آليات التوزيع في المنطقة وتطورات العملية على عدم فاعلية الآلية الإسرائيلية لتوزيع المساعدات، وأن ما يجري يمثل محاولة خداع مفضوحة لأنسنة صورة الاحتلال أمام المجتمع الدولي والرأي العام العالمي.
وفي هذا السياق يقول المحامي راجي الصوراني، مدير المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان:
“ما شهدناه من قيام قوات الاحتلال بإدارة توزيع المساعدات الإنسانية هو فعل مهين ومذل في حد ذاته، والإجراء حاط بالكرامة الإنسانية لكل الشعب الفلسطيني عن وعي وعن قصد من الاحتلال، خاصة لأولئك الذين عانوا على مدار 20 شهرًا من تجويع إسرائيلي ممنهج ومتعمد، في واحدة من أبشع الجرائم الجماعية المعاصرة. هذا ليس خبزًا يُقدَّم للجوعى، بل هو خبز مغمس بدم الضحايا الذين قضوا جوعًا وقصفًا تحت الحصار. من يمارس الإبادة الجماعية، بما فيها التجويع ضد المدنيين وضمنهم الأطفال والنساء والمرضى والجرحى، لا يمكن أن يكون حريصا على إطعامهم وتوفير الغذاء لهم، بالذات عندما يكون الهدف من حرب الإبادة هو القضاء على الشعب الفلسطيني ووجوده. كيف يمكن لمن مارس سياسة القتل والتجويع أن يتحول فجأة إلى منقذ يطعم ضحاياه؟ لا منطق ولا قانون ولا أخلاق يمكن أن تبرر ذلك. ما يقوم به الاحتلال اليوم هو محاولة للهيمنة على قوت السكان وتجويعهم عمدًا، بينما يواصل قصفهم بلا توقف. الاحتلال، بصفته القوة القائمة بالاحتلال، لا يمتلك شرعية إدارة أو تنظيم المساعدات الإنسانية، بل هو المسؤول المباشر عن الكارثة. إن من يمتلك الحق والقدرة على إدارة عملية الإغاثة هم العاملون في الأمم المتحدة، وفي مقدمتهم وكالة الأونروا، الذين لديهم الخبرة والتفويض والشرعية للقيام بهذه المهمة بما يضمن الكرامة الإنسانية والحياد الكامل”.
ووفق المعلومات التي توفرت لطاقم المركز، ففي حوالي الساعة 09:00 من يوم الثلاثاء الموافق 27 مايو 2025، بدأ عشرات النازحين الفلسطينيين بالتوافد عبر شارع الرشيد الساحلي إلى نقطة توزيع مساعدات أقامتها قوات الاحتلال الإسرائيلي بجوار مستشفى حمد بن خليفة (قيد الإنشاء)، في شارع أبو بكر الصديق، بحي تل السلطان جنوب غرب مدينة رفح. وتولت منظمة “غزة الإنسانية” (GHF) المساعدات في النقطة، تحت حراسة مباشرة من شركة أمن أميركية خاصة تُدعى “SRS”، مع تمركز لقوات الاحتلال في محيط المنطقة. وللحصول على المساعدة، أجبر النازحون للسير مشيًّا على الأقدام عدة كيلو مترات وصولاً إلى منطقة أمنية خطرة وصفها الاحتلال بأنها ممر إنساني، وطلب فيها من النازحين عدم التحرك تجاه نقطة توزيع المساعدات التي أحيطت بالأسلاك الشائكة، وجرى وضع مسارات عبارة عن ممرات محاطة بالأسلاك الشائكة، طلب من النازحين التجمع فيها، بشكل يعكس الإذلال والسيطرة، وصولاً لنقطة التوزيع التي تمركز داخلها موظفو المنظمة، لاستلام الطرد الذي يحتوي على حزمة محدودة من المساعدات، دون ضوابط أو تدقيق أو معايير.
وحسب إفادات شهود عيان، بعد استلام عدد من النازحين طرودًا غذائية، انتشرت أنباء عن وجود المساعدات، ما دفع آلاف النازحين المنهكين من الجوع والعوز إلى التوجه لنقطة التوزيع. وأمام الحشود الهائلة، انهارت بوابات الدخول والأسلاك المحيطة بالنقطة، وانسحب أفراد شركة الحماية، فيما تمكن المواطنون من الحصول على ما تبقى من طرود غذائية.
ومع استمرار توافد المدنيين وفقدان السيطرة على المكان، أقدمت قوات الاحتلال الإسرائيلي المتمركزة قرب النقطة على إطلاق نيران أسلحتها الرشاشة بشكل عشوائي ومباشر تجاه النازحين، ما أدى إلى إصابة نحو (50) مدنيًا بجروح متفاوتة، نُقلوا إلى مستشفى الصليب الأحمر الدولي الميداني لتلقي العلاج.
وفي ساعات صباح اليوم الأربعاء الموافق 28 مايو 2025، أعلنت المصادر الطبية عن وفاة أحد الجرحى، وهو المواطن سالم عطا سالم أبو موسى، 30 عامًا، من سكان مدينة خان يونس، متأثرًا بجراحه. ووفق شهود عيان، جرى فقدان عدد من المصابين والنازحين في محيط ميدان العلم في شارع الرشيد الساحلي، أثناء محاولتهم الفرار من المكان.
وأفاد الصحفي محمد نبيل حسين أبو عرمانة 37 عاماً، من سكان مدينة رفح لباحث المركز بما يلي:
” شاهدت صباح الثلاثاء توجه عدد من النازحين في حي المواصي عبر شارع الرشيد الساحلي غرب مدينة رفح إلى نقطة توزيع المساعدات التي أقامتها قوات الاحتلال الإسرائيلي قرب مستشفى حمد قيد الإنشاء في حي تل السلطان غرب مدينة رفح. وعند حوالي الساعة 12:00 ظهراً شاهدت عودة عدد من النازحين وهم يحملون طرودا غذائية، فتوجهت نحو نقطة التوزيع للتصوير، وعندما وصلت كانت أعداد النازحين زادت بشكل لا يمكن تقديره وهو ما أدى إلى تدمير 5 بوابات مخصصة للمرور والأسلاك المحيطة بالنقطة والحصول على ما تبقى من طرود غذائية ثم انسحب أفراد شركة الحماية الأمريكية. وفي حوالي الساعة 4:30 مساءً بدأت أسمع صوت إطلاق نار من جنود الاحتلال المتمركزون في نقطة عسكرية قرب ميدان العلم ومن الآليات حولها واستمر إطلاق النار حتى الساعة 05:30 مساء. قبل مغادرتي للمكان شاهدت سيارات الإسعاف التابعة لنقطة مستشفى أبو يوسف النجار في حي مواصي رفح وهي تنقل الإصابات بسبب إطلاق النار من الجنود الإسرائيليون”.
وأفاد صحفي آخر طلب عدم ذكر اسمه لباحث المركز بما يلي:
“سمعت معلومات عن توجه أعداد من النازحين إلى نقطة توزيع المساعدات التي أقامتها قوات الاحتلال الإسرائيلي في حي تل السلطان في مدينة رفح فتوجهت إلى مواصي رفح ووصلت إلى دوار العلم في حوالي الساعة 04:00 مساءً، وكانت الأعداد مهولة، حتى أنني سمعت من بعض الشبان وصول نازحين من منطقة الوسطى ومدينة غزة، وبسبب الأعداد المهولة من النازحين لم أتمكن من الوصول إلى نقطة توزيع المساعدات وبقيت في محيط ميدان العلم وقمت بعملي كصحفي في تصوير ما يحدث. وفي حوالي الساعة 04:30 مساءً بدأ جنود الاحتلال يطلقون النار من داخل آلياتهم تجاه النازحين وشاهدت وصورت مشاهد إصابة شابين بالقرب مني، واستمريت في التصوير حتى الساعة 05:30 مساءاً، ثم غادرت المكان نحو مواصي خان يونس”.
وفي تطورٍ ذي صلة، أطلقت قوات الاحتلال النار تجاه عشرات المواطنين، الذين حاولوا الوصول اليوم الأربعاء إلى نقطة توزيع مساعدات في منطقة موراج جنوب خانيونس، ما أدى إلى سقوط المزيد من الضحايا، حيث يواصل طاقم المركز التحقق من حصيلة الضحايا وظروف استهدافهم.
يرى المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان أن ما حدث يدلل على من جديد على أن “الآلية الجديدة لتوزيع المساعدات” تخالف بشكل كامل معايير العمل الإنساني والإغاثي التي نص عليها القانون الدولي الإنساني، وأنها خطوة متعمدة لإقصاء المنظمات الدولية والهيئات الإنسانية المحايدة، وعلى رأسها الأمم المتحدة ووكالاتها، وخاصة وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “أونروا” من القيام بدورها في غزة.
ويرى المركز في هذا الحادث استمرارًا لسياسة ممنهجة تعتمدها قوات الاحتلال الإسرائيلي في استباحة المدنيين الفلسطينيين، وخصوصًا في سياق الحصار والتجويع الذي يرقى إلى جريمة إبادة جماعية وجريمة ضد الإنسانية.
ويشدد على أن آلية الاحتلال لا تقدم حلًا ناجعًا للمجاعة التي تفتك بشدة بسكان القطاع، بل تمنح الاحتلال شرعية زائفة لترسيخ سياسة التجويع الإجرامية كسلاح ضد الفلسطينيين في قطاع غزة، والاستمرار في توظيف ملف الإغاثة والمساعدات لابتزاز السكان والسيطرة على حياتهم اليومية وعلى مقومات بقائهم.
ويحذر المركز من النتائج الكارثية التي قد تترتب على استمرار وقف إدخال المساعدات وعرقلة توزيعها، عبر المنظمات الأممية المختصة، أو استخدام آليات توزيع مسيّسة أو عسكرية تهدف إلى إذلال المدنيين خاصة مع تفشي المجاعة التي تعصف بالسكان وتهدد حياتهم.
وإذ يدين المركز إطلاق النار تجاه المدنيين، فإنه يدعو المجتمع الدولي، والدول الأعضاء في الأمم المتحدة، إلى تحمل مسؤولياتهم الإنسانية والقانونية على الفور، والتدخل العاجل والضغط على الاحتلال، من أجل وقف جريمة الإبادة الجماعية المستمرة، وفتح جميع المعابر المؤدية إلى قطاع غزة، واستئناف إدخال المساعدات الإنسانية دون قيود وبشكل فوري وواسع النطاق، وتحت إشراف الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة، بعيدًا عن أي تدخل عسكري أو سياسي من أي أطراف أخرى.
ويعيد المركز التأكيد على ضرورة فرض آليات ضغط حقيقية على دولة الاحتلال لإجبارها على إنهاء الحصار غير القانوني في قطاع غزة، وتعزيز دور المؤسسات الدولية وعلى رأس ذلك حماية وكالة الأونروا من أي تقويض لعملها، وتجديد الدعم لها، بصفتها المؤسسة الوحيدة القادرة على تقديم استجابة إنسانية عادلة للسكان في غزة وبما يتسق مع ولايتها الأممية والتزامات المجتمع الدولي تجاه الشعب الفلسطيني.
ويطالب المركز الدول الأطراف في نظام روما الأساسي لمحكمة الجنايات الدولية إلى الوفاء بالتزاماتها، حيث يتعين عليها تفعيل مذكرات التوقيف الصادرة بحق كبار قادة الاحتلال الاسرائيلي وتنفيذها، واتخاذ جميع التدابير اللازمة لضمان ملاحقتهم ومحاسبتهم على كل جرائمهم المحتملة، بما في ذلك جريمة الإبادة الجماعية وجرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية التي ترتكبها اسرائيل في غزة منذ أكثر من عام ونصف، وبما ينهي حالة الإفلات من العقاب، التي لم تعد تشكل تهديدًا على حقوق الفلسطينيين فحسب، بل سابقة خطيرة تهدد النظام الدولي برمته.