وصلت الأوضاع الإنسانية في جميع مناطق قطاع غزة إلى مستويات كارثية وغير مسبوقة في ظل استمرار جريمة الإبادة الجماعية ضد قطاع غزة، بما في ذلك استخدام تجويع المدنيين وتعطيشهم كسلاح حربي لإجبار السكان على الإخلاء قسراً من مناطقهم وأحيائهم السكنية تحت التهديد، خصوصاً في محافظة شمال قطاع غزة، حيث نزح المدنيون بعد أن تُركوا بلا طعام أو دواء يواجهون الموت دون مستشفيات تعالجهم، لا سيما مع تعمد قصفها واقتحامها المتكرر لإفراغها من المرضى و الطواقم الطبية.
ففي وقتٍ مبكر من يوم أمس الجمعة، 06 ديسمبر 2024، أمرت القوات الإسرائيلية بإخلاء مستشفى كمال عدوان بشمال قطاع غزة من المرضى والطواقم الطبية تحت غطاء من القصف المتواصل للمستشفى ومحيطه، حيث أفاد الدكتور حسام أبو صفية في تصريحات إعلامية أن آليات الجيش الإسرائيلي وطائراته قصفت المستشفى ما أدى لقتل 4 من الكوادر الطبية فيه، تزامن ذلك مع إحكام الحصار عليه وإعطاء أوامر بإخلائه من المرضى ومرافقيهم بالقوة، وإجبار الوفد الطبي الإندونيسي على المغادرة عبر حاجز أقامه الجيش بالقرب من المكان، وقد ذكرت منظمة الصحة العالمية أنه لم يكن هناك أي تحذير رسمي أو أوامر إخلاء قبل قصف مستشفى كمال عدوان شمال قطاع غزة.
أمام كل ذلك، يعبر المركز الفلسطيني لحقوق الانسان عن خيبة أمله إزاء استمرار صمت المجتمع الدولي على جرائم دولة الاحتلال، وعدم اتخاذه أي إجراء يوقف عدوانها على المدنيين وجريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها، فبالرغم من قرار المحكمة الجنائية الدولية التاريخي، والذي بعث الأمل من جديد في نفوس آلاف الضحايا الأبرياء بتقديم قادة الاحتلال للمحاكمة وإصدار مذكرات اعتقال بحقهم، إلا أن جرائم القوات الإسرائيلية المحتلة في تصاعد كبير على نحو غير مسبوق، مع إصرار واضح على التدمير المعنوي والمادي للفلسطينيين، من خلال فرض ظروف معيشية صعبة تشمل منع وعرقلة المساعدات الإنسانية، إلى جانب استمرار تدمير الأحياء السكنية وترحيل المدنيين وقتلهم حتى في مراكز إيواءهم، واستهداف وقتل عمال الإغاثة أثناء ممارستهم عملهم الانساني، وتجاهل كل الدعوات والنداءات التي تطلقها مؤسسات الأمم المتحدة، والتنصل من تنفيذ الأوامر الملزمة الصادرة عن محكمة العدل الدولية وقرارات مجلس الأمن الدولي.
يؤكد المركز وفق متابعته الميدانية أن سكان قطاع غزة يعيشون مزيجاً قاسياً من الخوف والقلق على حياتهم وسط تدهور أوضاعهم الإنسانية المعيشية، لاسيما مع وقف عدد من المنظمات الإنسانية نشاطها الإنساني، وتزايد المؤشرات الدالة على حدوث أزمة جوع غير مسبوقة في جميع مناطق قطاع غزة، بالتزامن مع تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للنازحين وتفاقم ظروفهم المعيشية الصعبة في بيئة الخيام مع دخول موسم الشتاء والبرد القارس.
وبعد تحذير وإعلان خبراء المجاعة المستقلين قبل عدة شهور أن حملة التجويع المتعمدة والممنهجة ضد المدنيين في قطاع غزة تعد شكلاً من أشكال العنف الإبادي، لم يحصل أي تحسن يذكر على عمليات الإغاثة وتدفق المساعدات الغذائية للحيلولة دون الوصول إلى المستوى الحالي من أزمة الجوع في جميع مناطق قطاع غزة، فما تزال القوات المحتلة تحاصر وتجوع المدنيين في شمال قطاع غزة، لا سميا خلال عملياتها العسكرية المستمرة في محافظة شمال قطاع غزة التي تهدف لإخلاء سكانها قسراً وتنفيذ تطهير عرقي رغم كل التحذيرات الدولية، وهو ما وثقه المركز من خلال شهادات قاسية تظهر أوضاع السكان المحاصرين في تلك المناطق، دفعت معظمهم إلى النزوح تحت تهديد القتل والجوع.
وفي تحدٍ لكل النداءات الدولية يتم تشديد الحصار على المدنيين في وسط وجنوب القطاع، ومنع إدخال أصناف الغذاء والدواء بالقدر الكافي لضمان بقائهم على قيد الحياة، فوفق منظمات الأمم المتحدة ما تزال القوات الإسرائيلية المحتلة تمنع دخول الشاحنات التجارية إلى تلك المناطق المكتظة بالنازحين، وتقلل من المساعدات الإنسانية إلى الحدود الدنيا منذ أكثر من ستة أسابيع، وبالإضافة إلى ذلك تصر على خلق حالة من انعدام الأمن تشجع أعمال النهب المسلّحة التي تستهدف القوافل الإنسانية، وهو ما أدى إلى زيادة كبيرة في سرقة القوافل خلال الفترة الأخيرة، منها نحو100 شاحنة دقيق لبرنامج الغذاء العالمي، حيث لم يتمكن البرنامج من توفير سوى 45% من حاجة الأشخاص الذي يستهدفهم، مع تقديم مساعدات مخفضة بسبب محدودية المتوفر في مخازنه داخل قطاع غزة، ونتيجة لذلك توصف عمليات توزيع المساعدات بأنها غير آمنة، ما يجعل وصولها لمستحقيها أمراً صعب المنال. وبعد اعلان بعض المنظمات الدولية كالمطبخ العالمي ووكالة الأونروا توقف عمليات توزيع المساعدات تتعرض الأسر الفقيرة للخطر خصوصاً تلك التي تعيلها النساء، والأطفال الذين فقدوا أسرهم، والمرضى والجرحى والمصابون بالأمراض المزمنة، وذوي الإعاقة، كونهم فئات هشة أضحت أكثر عرضة للإهمال والتهميش.
وخلال الأسابيع القليلة الماضية، شهدت مناطق وسط وجنوب قطاع غزة أزمة خانقة ناتجة عن عدم توفر دقيق القمح ووصول اسعاره لمستويات قياسية، ما أدى إلى توقف عمل المخابز لعدة أيام، ومع تلف الكميات المتوفرة اضطر عدد كبير من السكان استخدام دقيق فاسد لتأمين حاجتهم الأساسية من الخبز. وقد أجبر غلاء أسعار دقيق الخبز آلاف المدنيين على الوقوف لساعات طويلة أمام المخابز الرئيسية قبل توقفها عن العمل للحصول على كمية محدودة منه، وفي سبيل ذلك فقد عدد منهم حياتهم خلال التزاحم للحصول على الخبز كان آخرهم 3 سيدات أمام أحد مخابز وسط قطاع غزة. كذلك تقلصت كمية الوقود والحصص الممنوحة من الغاز الطبيعي لأصحاب نحو20 مخبزاً بلدياً في مدينة دير البلح مما جعلها تغلق أبوابها، وتتفاقم بذلك أزمات النازحين والمقيمين في المدينة الذين يتجاوز تعدادهم 700 ألف وفق آخر الاحصائيات التي نشرها مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية.
بعد عام وشهرين من العدوان، انخفضت قدرة المدنيين على التأقلم مع أي نزوحٍ جديد، فمعظمهم تنقل عدة مرات، وكثير منهم قلل استهلاكه من الطعام، ويضطر معظمهم لاستخدام مياه غير مأمونة، حيث يقضي السكان وقتاً لا بئس به يومياً في محاولة تأمين المياه، والقيام بجهد شاق في جلبها من أماكن بعيده مع تزايد ندرة المياه النظيفة، وقد علقت بلديات وسط وجنوب قطاع غزة عملها نتيجة عدم سماح الاحتلال إدخال الكميات اللازمة لتشغيل آلياتها ومولدات ضخ المياه لمنازل المواطنين ومخيمات النازحين، وفي إفادة قدمها صائب اللقان، الناطق باسم بلدية خانيونس، لباحث المركز: “منذ نحو أسبوعين توقف توريد السولار إلى أقسام المياه والصرف الصحي في بلدية خانيونس، وعلى أثر ذلك توقف ضخ المياه إلى أحياء كاملة في المدينة، بما في ذلك منطقة المواصي المكتظة في بالنازحين، بحيث يضطرون إلى السير مسافات طويلة للحصول على المياه الصالحة للاستخدام المتعدد. كما توقفت مضخات الصرف الصحي عن العمل، انتشرت برك مياه الصرف الصحي في الشوارع بين خيام النازحين، إضافة إلى توقف آلية جمع وترحيل النفايات، ما أدى إلى تراكم أطنان من النفايات، ما يتسبب بتداعيات كارثية على الصحة العامة”.
ومع بداية موسم الأمطار والمنخفضات الجوية الباردة، يعاني أكثر من 1.9 مليون شخص يعيشون في مراكز الإيواء المؤقتة ظروفاً قاسية، منهم نحو نصف مليون نازحين في مناطق معرضة لخطر الفيضانات، وهم بحاجة ماسّة إلى المأوى الآمن، وبحسب ما أعلن عنه الهلال الأحمر الفلسطيني فإن نحو 10 آلاف خيمة تدمرت بفعل المنخفض الجوي الأخير نهاية نوفمبر2024، وكذلك تواجه الأسر التي نزحت من محافظة شمال غزة إلى مدينة غزة نقصاً حاداً في الإمدادات والخدمات وغرقت خيامهم مع الهطول الأخير للأمطار ما فاقم من معاناتهم الناتجة عن الاكتظاظ الشديد والظروف الصحية المزرية.
بذلك أفادت السيدة سعدية عاطف سويلم، 40 عاماً، نازحة في منطقة مواصي خانيونس، لباحث المركز: ” نزحت مع أطفالي الثلاثة عدة مرات خلال عام من الحرب وذلك بدون زوجي الذي سافر قبل اندلاعها. ومع عدم وجود مصدر دخل تحملت مع أطفالي الكثير من الصعاب في الحصول على المأكل والمشرب وحتى العيش داخل خيمة مهترئة. مع دخول موسم الشتاء الحالي، عانيت مع أطفالي من عدم توفر ملابس تلائم الأجواء الباردة، وكوننا نعيش في خيمة قريبة من شاطئ البحر عملت على تمكينها بما توفر لي من امكانيات إلا أن الخيمة طارت مع أول رياح للمنخفض الجوي مساء يوم الثلاثاء 26/11/2024، كذلك غرقت ملابسنا وفراشنا بعدما غمرتها مياه البحر والأمطار الغزيرة. حالياً لجأت لخيمة إحدى شقيقاتي بعدما فقدت المأوى، أتمنى أن تنتهي الحرب فأوضاعنا المعيشية أصبحت لا تحتمل، وبصعوبة أوفر لأطفال قوت يومهم مع غلاء دقيق الخبز”.
وتؤكد التقارير الأممية أن الوضع الاقتصادي في قطاع غزة يشهد انهياراً تاماً، حيث يعاني جميع السكان من الفقر بمستويات قياسية، سببه انخفاض الناتج المحلي الاجمالي بنحو 85% وهو الأعلى تاريخياً في الأرض الفلسطينية المحتلة، لاسيما مع تجاوز التضخم كل المعدلات بـنسبة 250%، وارتفاع كبير في نسبة البطالة إلى 80%. كما يضاعف استمرار الوضع الحالي أعباء السكان الناتجة عن ارتفاع أسعار المتوفر من السلع لمستويات قياسية، إضافة إلى المعاناة المتزايدة من ارتفاع نسب العمولة على السحب النقدي، والتربح الذي يمارسه التجار مع استمرار عدم استقرار السوق المحلية وأزمة نقص السيولة التي فرضتها إجراءات القوات المحتلة بتشديد الحصار المالي والاقتصادي، وعدم السماح للبنوك الفلسطينية بمعالجة المشكلة واجبارها على اغلاق فروعها في كامل قطاع غزة، وترك سكان القطاع مستنزفين، ويزيد من تدهور الحالة الإنسانية فعلى مدى أشهر يواجه المدنيون محدودية شديدة في الحصول على الغذاء الكافي والمياه ومنتجات النظافة الصحية.
يرى المركز أن التفاقم غير المسبوق للأوضاع الإنسانية في قطاع غزة هو نتيجة طبيعة لسياسة الإفلات من العقاب التي تحظى بها دولة الاحتلال الإسرائيلي، ونتيجة لازدواجية المعايير التي يتعامل بها المجتمع الدولي معها كدولة احتلال من خلال التغاضي عن الجريمة الأخطر التي ترتكبها بشكل فاضح بما لا يدع للشك مكان بكونها إبادة ًجماعيةً مكتملة الأركان. لذا فإنه: