فيما تتجه أنظار العالم الغربي، في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية على نحو خاص، نحو الأزمة الأوكرانية، اغتنمت قوات الاحتلال الإسرائيلي فترة الشهرين الأخيرين لاقتراف المزيد من الجرائم بحق المدنيين الفلسطيني، في ظل صمت دولي مطبق، يفضح ازدواجية المعايير في تطبيق القانون الدولي. ويتابع المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان بدهشة كبيرة كيف تحرك الفاعلون في الساحة الدولية بفرض عقوبات اقتصادية فورية على الاتحاد الروسي، وكيف ضخت المساعدات العسكرية والاقتصادية لأوكرانيا، وكيف تحركت الأجسام الدولية، بما في ذلك المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية للتحقيق في جرائم حرب مزعومة ضد المدنيين الأوكرانيين، بينما يلتزمون الصمت حيال جرائم مماثلة اقترفتها قوات الاحتلال الإسرائيلي وما تزال ضد المدنيين الفلسطينيين وممتلكاتهم على مدى عقود.
تهدف هذه الورقة إلى كشف حساب قوات الاحتلال الإسرائيلي وتسليط الضوء على جرائمها بحق المدنيين الفلسطينيين، وتوجيه رسالة إلى الفاعلين الدوليين بأن المعاناة الإنسانية واحدة، وأن الجرائم ضد المدنيين في أي مكان مدانة وتستدعي تدخل المجتمع الدولي لوقفها، واتخاذ واستنفاذ كل الوسائل التي يتيحها القانون الدولي لمواجهتها، سواء كانت في أوكرانيا أو فلسطين أو أينما فُقدت العدالة، وأينما وجد ضحايا يحرمون من حقهم في الوصول إليها. ويشدد المركز على أنه لا يجب أن تمر الجريمة بلا عقاب وأن غياب المحاسبة إنما يشجع على استمرار التنكر للقانون الدولي، وأن معيار العدالة ينبغي أن يكون واحداً في هذا العالم الذي يثبت مجدداً أنه تحكمه المصالح، وأن القانون الدولي تغلبه المصالح السياسية ويطوعه الساسة لخدمتها. كما تدعو الورقة المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية للتحرك الفوري والعمل على زيارة الأرض الفلسطينية المحتلة في أسرع وقت.
تشهد الضفة الغربية المحتلة، بما فيها مدينة القدس الشرقية، منذ بداية العام الجاري (2022) ارتفاعًا كبيرًا في وتيرة الجرائم والانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي والقانون الإنساني الدولي، التي تقترفها قوات الاحتلال الإسرائيلي. وخلال الشهرين الأخيرين صعدت تلك القوات من جرائم القتل ضد المدنيين الفلسطينيين، بما في ذلك الإعدامات الميدانية، وكثف المستوطنون أعمال العنف والاستفزازات، بحماية وتغطية كاملة من قبل قوات الاحتلال في كافة أنحاء الضفة الغربية. وتشكل المحاولات الحثيثة التي يقوم بها المستوطنون لاقتحام المسجد الأقصى خلال الأيام الأخيرة إنما أحد تجليات تلك الأعمال التي تستهدف تغيير الواقع القائم في المدينة، وتأتي ضمن جهود التطهير العرقي لسكانها الفلسطينيين فيها.
انتهاكات الحق في الحياة
منذ مطلع العام الجاري، قتلت قوات الاحتلال 37 مواطنًا فلسطينياً في الضفة الغربية، منهم 8 أطفال وامرأتان، وهو ما يمثل ارتفاعًا بنسبة 428 % مقارنة بالفترة نفسها من عام 2021 الذي شهد مقتل 7 مواطنين، منهم امرأة وطفل. وكان أغلب القتلى من المدنيين، والذين بلغ عددهم 27 مدنياً، أي بنسبة 73% من مجموع القتلى، منهم 20 مدنياً قتلوا في جرائم استخدام مفرط للقوة خلال مواجهات أو بالتزامن مع اقتحام قوات الاحتلال المدن والأحياء الفلسطينية، 5 قتلوا بادعاء محاولتهم تنفيذ عمليات طعن، وقتلوا دون أي ضرورة لذلك، ولم يقدم لهم أي إسعاف، وهي حالات يرقى بعضها لإعدام ميداني خارج القانون. وقتل مسنان اثنان أحدهما دهسًا وهو المواطن سليمان عيد الهذالين، 69 عاماً وهو أحد الشخصيات الفلسطينية النشطة في مواجهة سياسة الاستيطان ومحاولات التهجير الإسرائيلي للمواطنين الفلسطينيين، وفي يوم دهسه هربت الشاحنة الإسرائيلية، ولم تقدم له شرطة الاحتلال أي إسعافات، والآخر بعد عملية تنكيل واحتجاز.
بالمقابل، قتل 3 ناشطين فلسطينيون في جريمة إعدام خارج نطاق القانون (اغتيال)، فيما قتل 7 آخرون خلال تبادل إطلاق نار مع قوات الاحتلال خلال اقتحامها المدن الفلسطينية.
وعكست أغلب عمليات القتل تساهل قوات الاحتلال في تعليمات إطلاق النار ضد الفلسطينيين، دون وجود خطر أو تهديد جدي على حياة الجنود، في ظل دعم من المستوى السياسي الإسرائيلي، ما يؤكد وجود غطاء من أعلى مستوى سياسي في إسرائيل لجرائم قتل الفلسطينيين. وازدادت وتيرة القتل بعد إعلان رئيس الحكومة الإسرائيلية نفتالي بينيت بتاريخ 8/4/2022، أنه منح قوات الأمن كامل الحرية والدعم بعد هجوم تل أبيب·، وفق هيئة البث الإسرائيلية. ومنذ هذا الإعلان، قتل 11 مدنيًّا فلسطينيًّا، بينهم 3 أطفال وامرأتان قتلتا في يومٍ واحدٍ في حادثين منفصلين. ففي 10/4/2022، قتلت المواطنة غادة إبراهيم علي سباتين، 47 عاماً، بعد إصابتها برصاص قوات الاحتلال الإسرائيلي، قرب حاجز إسرائيلي في حوسان غربي بيت لحم جنوب الضفة الغربية، بعد استهدافها دون أي مبرر بدعوى اقترابها من الجنود وعدم استجابتها لندائهم لها بالتوقف. ومساءً، قتلت المواطنة مها كاظم عوض الزعتري، 26 عاماً، بعدما أن أطلق أحد أفراد حرس الحدود الإسرائيلي عيارين ناريين تجاهها أثناء تواجدها في الساحة الداخلية المغلقة للمسجد الإبراهيمي في الخليل، وأصابها بشكل مباشر، وأدى لسقوطها على الأرض، وبقيت تنزف حتى الساعة 6:30 مساءً، دون أن تقدم لها أية إسعافات. وادعت قوات الاحتلال أنها نفذت عملية طعن أدت لإصابة أحد جنود الاحتلال بجروح طفيفة، وأنه جرى تحييدها واحتجاز جثمانها، ولم يتوفر شهود عيان على الحادثة.
كما أن قوات الاحتلال أصابت المئات بجروح، منهم أطفال ونساء، بعضهم في حالة الخطر، وهناك 4 حالات على الأقل أصيبوا في أعينهم مباشرة، اثنان منهم فقدوا احدى العينين، أحدهما طفل.
القدس مسرحًا للانتهاكات المتكررة
ومنذ بداية شهر رمضان، شهدت القدس الشرقية انتهاكات متعددة وشبه يومية، تركزت في استخدام مفرط للقوة خلال فض تجمعات سلمية في منطقة باب العامود. وقد بلغت الانتهاكات ذروتها باستباحة قوات الاحتلال الحرم القدسي فجر الجمعة الثانية من شهر رمضان، وأصيب 158 مواطنًا، بينهم 6 إصابات خطيرة، و3 مسعفين و3 صحفيين، خلال عمليات قمع واسعة نفذتها تلك القوات لآلاف المصلين في المسجد الأقصى وباحاته ومصلياته. ونفذت تلك القوات واحدة من أوسع عمليات الاعتقال الجماعي في تاريخها بعد اقتحامها المصلي القبلي وانتهاك حرمته، واعتقلت 470 مواطنًا خلال أقل من 5 ساعات بعد أن اعتدت عليهم بعنف. وتكرر الاقتحام في اليوم التالي ما أدى إلى المزيد من الإصابات والاعتقالات، وسط مؤشرات على توجه إسرائيلي لفرض التقسيم الزماني والمكاني بين اليهود والمسلمين في المسجد الأقصى.
وما يجري في المدينة المحتلة، نموذج صارخ لنظام الابارتهايد الذي تمارسه إسرائيل، ففي الوقت الذي توفر فيه الحماية للمستوطنين، وتسهل اقتحامهم للمسجد الأقصى، يجري انتهاك حق الفلسطينيين في حرية الحركة والعبادة.
عمليات الهدم والتهجير القسري
شردت قوات الاحتلال الإسرائيلي منذ بداية العام 40 عائلة، قوامها 244 فردًا، منهم 47 امرأة، و113 طفلاً، جراء تدمير 50 منزلاً، و5 خيام سكنية في الضفة الغربي، بما فيها القدس الشرقية المحتلة. كما دمرت تلك القوات 29 منشأة مدنية أخرى، وجرفت 174 دونمًا، وسلمت 49 إخطارا بالهدم ووقف البناء والإخلاء.
ومقابل قرارات الهدم وإخطارات الهدم للفلسطينيين، أصدرت سلطات الاحتلال قرارات عدة ببناء آلاف الوحدات الاستيطانية، وصادرت أراضٍ فلسطينية، لإقامة مشاريع استيطانية، وكل ذلك بقرارات ودعم من المستوى السياسي الإسرائيلي. وفي 5 إبريل الجاري، جدد رئيس حكومة دولة الاحتلال الإسرائيلي نفتالي بينيت بدعم جرائم الاستيطان اليهودي في الأرض الفلسطينية المحتلة. وجاءت تصريحات بينيت خلال زيارته مقر قيادة قوات الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية، حيث قال رداً على اتهامات سابقة وجهها مجلس المستوطنات بتجميد خطط بناء وحدات استيطانية جديدة، قال بينيت: “نحن نواصل وسوف نواصل البناء في يهودا والسامرة. لن يكون تجميد هنا.”[1] ومن المستهجن أن تمر مثل هذه التصريحات من أعلى الهرم السياسي الإسرائيلي بدعم جرائم حرب، دون أن تحظى بأي رد فعل دولي!
إجراءات العقاب الجماعي، بما فيها القيود على حرية الحركة
استمرت سلطات الاحتلال الإسرائيلي في سياسة العقاب الجماعي ضد المدنيين الفلسطينيين، بذريعة تنفيذ أفراد من عائلات أو مناطق معينة عمليات ضد إسرائيليين. ففي 9/4/2022، أعلن منسق عمليات حكومة الاحتلال في الأراضي الفلسطينية اللواء غسان عليان، سلسلة إجراءات عقاب جماعي ضد جنين، شمال الضفة الغربية، بعد عملية إطلاق نار في تل أبيب نسبت لأحد سكانها.
ونفذت قوات الاحتلال ثلاث عمليات هدم وإغلاق منازل لعائلات معتقلين في سجونها، في إطار سياسة العقاب الجماعي التي تنتهجها تلك القوات ضد عائلات مواطنين فلسطينيين، تتهمهم بتنفيذ أعمال مقاومة ضدها، أو ضد المستوطنين.
إلى جانب أكثر من 100 حاجز ثابت، نصبت قوات الاحتلال منذ بداية العام ما لا يقل عن 1056 حاجزًا فجائيّاً على الأقل، اعتقلت عليها عشرات المواطنين. وهذه الحواجز والقيود عليها، نموذج لنظام التمييز العنصري (الأبارتهايد) الذي تفرضه إسرائيل، حيث تضع العراقيل أمام حركة الفلسطينيين، في المقابل تقدم الحماية والتسهيلات لحركة المستوطنين على طرق التفافية في الضفة الغربية. كما تحاصر المدن والتجمعات الفلسطينية وتحولها إلى كانتونات منعزلة.
عنف المستوطنين ضد المدنيين وممتلكاتهم
منذ بداية العام، نفذ المستوطنون 95 اعتداءً على المواطنين الفلسطينيين وممتلكاتهم في أرجاء الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، أسفرت عن إصابات عديدة أغلبها رضوض. وجاء جزء كبير من عنف المستوطنين كأعمال انتقامية شملت إطلاق النار ورشق مركبات ومنازل فلسطينية بالحجارة وكذلك الاعتداء على مواطنين والاعتداء على دور عبادة (مساجد وكنائس). كما شهدت القدس وعلى مدار أيام اعتداءات وأعمال عنف واسعة للمستوطنين بحماية من الجيش الإسرائيلي، خلال محاولة الاستيلاء على أراضٍ وممتلكات فلسطينية في حي الشيخ جراح.
وأمام هذه الانتهاكات الصارخة لقواعد القانون الدولي، والتي يمثل الكثير منها جرائم حرب، وتعكس في مجملها نظام التمييز العنصري (الأبارتهايد) والتطهير العرقي الذي تمارسه إسرائيل، يشدد المركز على أن استمرار صمت المجتمع الدولي عن جرائم الاحتلال الإسرائيلي ضد المدنيين الفلسطينيين، بما فيها جرائم القتل والتهجير القسري والاستيطان والتمييز العنصري (الأبارتهايد)، إنما يشجع قادة الاحتلال على استمرار التنكر للقانون الدولي والإمعان في ارتكاب المزيد من تلك الجرائم ومضاعفة معاناة الشعب الفلسطيني على مدى أكثر من سبعة عقود.
ويشير المركز إلى أن إعطاء رأس الهرم السياسي والتنفيذي (بينيت) لدولة احتلال عسكري عنصري للأرض الفلسطينية المحتلة الضوء الأخضر علناً لجيشه لتنفيذ جرائم القتل بلا هوادة، وحديثه جهاراً عن الاستيطان واستمراره في الضفة الغربية، بما فيها القدس، يمثل خرقًا واضحًا لاتفاقية جنيف الرابعة وميثاق روما المؤسس لمحكمة الجنايات الدولية، بما يشكل جريمة حرب متكاملة.
تمر هذه الانتهاكات الجسيمة وهذا الغطاء السياسي لها، دون تسجيل أية مواقف دولية جادة، ما يعكس ازدواجية المعايير التي يمارسها المجتمع الدولي في تطبيق القانون الدولي، في مقاربة مع ما يحدث في أوكرانيا.
ومع التأكيد على موقفنا المبدئي المناهض لكل احتلال كون المعاناة الإنسانية لا تتجزأ، يمكن بوضوح ملاحظة ازدواجية المعايير الصارخة التي تعامل فيها المجتمع الدولي مع أقدم احتلال في المنطقة (الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، وأحدث غزو في العالم، الغزو الروسي لأوكرانيا). ففي حين تحركت أوروبا وأميركا وآليات الأمم المتحدة سريعًا ضد الغزو الروسي لأوكرانيا، واتخذت إجراءات عديدة لوقفه وفتحت المحكمة الجنائية الدولية تحقيقاً سريعًا ووضعت آليات لاستقبال المعلومات حول مجمل الانتهاكات وجرائم الحرب؛ بقيت مؤامرة الصمت سيدة الموقف في التعامل مع جرائم الاحتلال الإسرائيلي ما شجعه عل اقتراف المزيد من الجرائم، وغلبت السياسة والمصالح صحيح القانون، في قرارات المجتمع الدولي التي حمت إسرائيل وقادتها من أي مساءلة حقيقية، على الرغم من عشرات القرارات الدولية، بما فيها قرارات صدرت عن مجلس الأمن والجمعية العامة في الأمم المتحدة التي تدين تلك الجرائم.
يجدد المركز مطالبته للمجتمع الدولي بالتعامل مع القضايا الدولية بمعيار واحد، وبتفعيل أدوات المحاسبة الدولية في مواجهة استمرار تنكر إسرائيل وتحديها السافر للقانون الدولي، بما في ذلك اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 وميثاق روما المؤسس للمحكمة الجنائية الدولية.
ويطالب المركز الأطراف السامية المتعاقدة على اتفاقيات جنيف، العمل على ضمان إلزام إسرائيل، كدولة عضو في هذه الاتفاقيات، بتطبيق اتفاقيات جنيف في الأرض الفلسطينية المحتلة. ويدعو المركز الدول الموقعة على اتفاقيات جنيف الإيفاء بالتزامها بالعمل على ضمان تطبيقها، والشروع في خطوات عملية لمحاسبة مجرمي الحرب الإسرائيليين، وإنهاء حالة الحصانة التي يتمتعون بها منذ عقود.
ويطالب المركز المجتمع الدولي بالضغط على إسرائيل للسماح بقيام لجنة التحقيق المنبثقة عن المحكمة الجنائية الدولية بالدخول إلى الأرض الفلسطينية المحتلة لمقابلة الضحايا والشهود وزيارة مسرح الجريمة.
كما يطالب المركز المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية بزيارة الأرض الفلسطينية المحتلة على وجه السرعة، بالذات مع تدهور الأوضاع وتصاعد الانتهاكات وجرائم الحرب والتطهير العرقي الذي تمارسه إسرائيل في الأرض الفلسطينية المحتلة. ويذكر المركز بأنه لم يمض عام على العدوان الأخير الذي شنته قوات الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة في مايو 2021، حيث كان المدنيون والأعيان المدنية في عين العاصفة، حيث قتل 151 مدنياً، بينهم 59 طفلاً 38 امرأة، وأصيب 1968 مدنياً، بينهم 630 طفلاً 397 امرأة، فيما طال الدمار المنشآت المدنية والبنى التحتية، بما فيها تدمير 7680 وحدة سكنية بشكل كلي.
———————————
Jerusalem Post, 05 April, 2022