فبراير 2, 2024
هكذا عذبوني واستجوبوني عن عملي الصحفي
مشاركة
هكذا عذبوني واستجوبوني عن عملي الصحفي

ضياء خليل أحمد الكحلوت، 38 عامًا، متزوج وأب لخمسة أطفال، مدير ومراسل صحيفة العربي الجديد في قطاع غزة، سكان حي الكرامة في جباليا.

يوم السبت الموافق/7/10/2023، بدأت قوات الاحتلال الإسرائيلي عدوانها على قطاع غزة بغارات جوية عنيفة من الطائرات الحربية والتي أسفرت عن تدمير منازل وسقوط شهداء وجرحى من المواطنين، وذلك في أعقاب قيام كتائب القسام وبعض فصائل المقاومة الفلسطينية باقتحام السياج الأمني مع إسرائيل وبلدات الغلاف في عملية أطلقت عليها كتائب القسام “طوفان الأقصى”، وهي عملية فاجأت الجميع. ومع بداية العدوان شرعتُ في متابعة التطورات الميدانية بحكم عملي الصحفي (مدير ومراسل صحيفة العربي الجديد في قطاع غزة).

ولاحقاً، أرسلت قوات الاحتلال رسائل صوتية ورسائل نصية على أجهزة الاتصال الخليوية مثل شبكتي “جوال، وأوريدو” وشبكة الاتصال الثابت “بالتل” وطالبت من خلالها السكان في عدد من الأحياء السكنية في مدينة غزة وشمال القطاع بإخلاء منازلهم. وكان من بين تلك الأحياء حي الكرامة الذي أسكن فيه، والذي يقع شمال غرب مدينة غزة. وقد اضطررت إلى إخلاء منزلي بسبب قصف طائرات الاحتلال العديد من المنازل السكنية وهو ما أدى إلى تدميرها وسقوط شهداء وجرحى، وبسبب أيضاً تهديدات قوات الاحتلال بقصف المنازل في الأحياء التي طالبت سكانها بإخلائها.

في أعقاب إخلاء منزلي مع زوجتي وأطفالي الخمسة، توجهت إلى منزل عائلتي في مشروع بيت لاهيا، شمال قطاع غزة ومكثت فيه حتى يوم الخميس/7/12/2023. وبعد قيام قوات الاحتلال بالتوغل برياً في مناطق شمال غرب قطاع غزة، وصلت الدبابات الإسرائيلية والآليات الأخرى إلى مشروع بيت لاهيا وهو المكان الذي نزحت إليه بعد إخلاء منزلي.

في حوالي الساعة 09:00 صباح يوم الخميس/7/12/2023، وأثناء تواجدي في منزل عائلتي سمعنا أصوات مرتفعة بواسطة مكبرات صوت يحملها جنود الاحتلال تطالب السكان بالخروج من منازلهم، فخرجنا من المنزل وكنا حوالي 40 شخصاً (عدة عائلات) غالبيتهم من النساء والأطفال وكبار السن.

بعد خروجنا من المنزل، أمر الجنود النساء وكبار السن والأطفال تحت سن 18 عاماً بالتوجه نحو مستشفى كمال عدوان في مشروع بيت لاهيا، وبقيت أنا وأخاي طاهر، 40 عاماً، ومحمد، 36 عاماً، و9 من أصهارنا وعدد من الجيران في الشارع. وأمرنا الجنود بخلع ملابسنا باستثناء الملابس الداخلية (البوكسر والشباح) وأجلسونا على الأرض، ثم دخل جنود الاحتلال إلى منزلنا وحرقوه وحرقوا عددا من منازل جيراننا بالكامل قبل أن يخرجوا منها.

بعد مرور نصف ساعة، أمرنا الجنود بالسير نحو شارع السوق حيث تواجد جنود آخرون كانوا يحتجزون عدداً من المواطنين وأجبروهم على الجلوس على الأرض، وجلسنا بجانبهم. كان عددنا حوالي 200 مواطن، وأجبرونا كلنا على خلع الشباح ولم نعد نرتدي سوى البوكسر فقط، وكان الجو باردا جداً، ووجه الجنود لنا شتائم وسباب ثم أحضروا أسلحة (رشاشات كلاشينكوف وقذائف) ووضعوها أمام بعض المواطنين وقاموا بتصويرهم.

ثم قام الجنود بتقييد أيدينا بقيود بلاستيكية إلى الخلف ووضعوا عصبة على أعيننا وأحضروا عدة شاحنات، وصعدنا بصعوبة إلى تلك الشاحنات، في كل شاحنة حوالي 50 معتقلاً. وأثناء سير الشاحنات لمدة ساعة تقريباً كان الجنود يطلقون النار من فوق رؤوسنا ويصورون فيديوهات بواسطة كاميرات جوالاتهم ويسخرون ويسبوننا ويشتموننا، ثم توقفت الشاحنات حسب تقديري في مكان بجوار موقع زيكيم شمال غرب بيت لاهيا.

أنزلنا الجنود من الشاحنات في وقت غروب الشمس تقريباً وقاموا بتصويرنا وتشخيص هوياتنا عن طريق بصمة العين وكنا نسمع صوت جرافة والمكان مُضاء بالكامل. وطوال الفترة السابقة لم يقدم الجنود لنا الطعام أو الماء وكان الجو بارداً فملأ الخوف قلوبنا واعتقدنا أن يقدم الجنود على دفننا ونحن أحياء أو بعد إطلاق النار علينا وقتلنا. ولكن بعد مرور عدة ساعات، تبين أن الجنود يقومون بعملية فرز للمعتقلين قبل إطلاق سراح بعضهم، ومن تبقى تم تحويلهم إلى التحقيق بشكل فردي.

أثناء استجوابي من محقق في استخبارات الجيش أطلق على نفسه لقب “كابتن أبوعلي”، وأنا أجلس على ركبي على الرمل وهو يقف أمامي، وسألني عن عملي فأخبرته بأنني صحفي في صحيفة العربي الجديد. فبدأ المحقق يبحث في جهاز يبدو أنه موصول بشبكة الإنترنت عن بياناتي وعن عملي فوجد تقريراً صحفياً أعددته في صحيفة العربي الجديد في عام 2017 حول فرقة “سيرت متكال” في الجيش الاسرائيلي والتي قتل أحد ضباطها بعد اكتشافها من المقاومة الفلسطينية في بلدة بني سهيلة شرق مدينة خان يونس، كما عثر علي تقارير صحفية كنت أعددتها عندما كنت أعمل سابقاً في موقع الجزيرة نت حول حركة حماس وشعاراتها التاريخية وتقارير متنوعة أخرى في جريدة السفير اللبنانية. وقد لاحظ المحقق أنني مرهق والقيود تؤلمني والعصبة على عيناي مشدودة كثيراً، وطلبت منه تخفيف القيود والعصبة ولكنه رفض ودفعني باتجاه الأرض ما أدى إلى دخول الرمل في فمي.

بعد انتهاء الاستجواب الذي استمر حوالي 20 دقيقة، أخذني الجنود نحو مكان تجمع المعتقلين وسخروا مني ومن عملي الصحفي. وتحدث معي أحدهم باللغة الإنجليزية ثم أغلق فمي بشريط لاصق وسار بي الجنود مع بقية المعتقلين بعد تقييد أيدينا للخلف ووضع عصابات على أعيننا نحو مكان مرتفع قليلاً تقف عنده شاحنات وهم يشتمونا ويضربونا بأيديهم. وصعدنا بصعوبة إلى الشاحنات ورموا فوقنا بطانيات رقيقة وكان الجو بارداً جداً. ثم سارت الشاحنة دقائق معدودة وأعتقد أنها دخلت إلى موقع زيكيم المجاور للمكان الذي كنا فيه. ومنذ تلك اللحظة افترقت عن شقيقي طاهر ومحمد، ثم أنزلنا الجنود من الشاحنات ومشينا دون أن نرتدي أحذية على حصمة، وقام أحد الجنود بصدم رأسي بجسم صلب بذريعة أنني لا أرى أمامي. وبعد مرور 10 دقائق تقريباً وصلت حافلات وصعدنا فيها، وفي الحافلة كحيت (عطست) فضربني جندي عدة لكمات بيديه. وأثناء سير الحافلة لمدة ساعتين تقريباً، تعرضت للضرب عدة مرات بسبب عدم خفض رأسي للأسفل وأنا جالس على الكرسي.

في حوالي الساعة 11:00 ليلاً تقريباً، وصلنا إلى موقع مجهول بالنسبة لي وعرضت على طبيب وسألني إن كنت أعاني من أمراض مزمنة (ضغط أو سكر) فقلت له بأنني مريض بغضروف في الظهر(ديسك) وأعاني من آلام شديدة، وبالرغم من ذلك لم يعطني دواء. وبعد فحص الطبيب الشكلي، أعطاني الجنود رقماً (059889) وملابس رمادية اللون (بيجامة) ثم أدخلوني إلي عنبر (بركس) مسقوف على الأغلب بالأسبستوس وأرضيته أسفلت، وبينما كنت أسير تعرضت ضربني الجنود عدة لكمات بأيديهم. وبعد دخولي العنبر استلمني معتقل فلسطيني (شاويش) وأعطاني فرشة رقيقة وبطانية ونمت عدة ساعات. وأثناء اعتقالي في العنبر الذي تحيط به الأسلاك كأنه قفص، لاحظت وجود عنابر أخرى وداخل كل عنبر حوالي 100 معتقل مقيدين بقيود حديدة للأمام وقيود حديدية أيضاً في القدمين وعصبة على الأعين ويمنعون من التحدث مع بعضهم.

وطوال 25 يوماً متتالياً، كنا نجلس على ركبنا على الأرض (الاسفلت) من الساعة 04:00 فجراً وحتى الساعة 11:00 ليلاً تقريباً ويتم عدنا عدة مرات (اسفراه). وكان الطعام قليلاً جداً وهو عبارة عن شرائح خبز ومربى وجبن سائل وتونة والماء أيضاً قليلاً، ونذهب مرة واحدة في اليوم لدورة المياه. وقد تسبب الجلوس الطويل علي ركبي على الأرض بإصابتي بالتهابات جلدية ودمل في الفخذين ولم يقدم لي العلاج عندما طلبته من الجنود.

كنا نعد الأيام حسب شروق وغروب الشمس. وبعد مرور 9 أيام من تواجدي في المعتقل، خضعت لجلسة تحقيق من محقق يرتدي زياً عسكرياً وسألني عن أحداث 7 أكتوبر وإن كنت قد فكرت بالذهاب إلي بلدات الغلاف الإسرائيلية، وعن شهداء سقطوا في ذلك اليوم وعن قيادات حماس في مشروع بيت لاهيا. فأخبرته بأنني لا أسكن في بيت لاهيا ولا أعرف شخصيات قيادية من حماس هناك، وبأنني علقت على منشور على الفيس بوك لشهيد من عائلة لبد كونه من جيران أهلي ولم أكن أعرف مكان وظروف استشهاده. وكان التحقيق في مكان مفتوح وأنا واقف والمحقق يجلس على كرسي وفوقه شمسية تقيه من الشمس واستمر التحقيق حوالي 20 دقيقة.

وبعد عدة أيام خضعت لجلسة تحقيق ثانية لمدة 30 دقيقة تقريباً من محقق يرتدي زياً عسكرياً. ووجه لي المحقق أسئلة حول عملي الصحفي في موقع الجزيرة نت من عام 2007 إلى عام 2014، وفي صحيفة العربي الجديد التي لا أزال أعمل فيها حتى الآن وحول مصادري الصحفية ومن هم القادة الذين أتواصل معهم فأجبته باسم أحدهم كونه يرد على اتصالاتي دون غيره.

وفي اليوم 25 لاعتقالي، نقلت في سيارة عسكرية سارت بي حوالي 15 دقيقة، ثم توقفت ونزلت منها وسار بي الجنود وأنا مقيد ومعصوب العينين وألقوا بي على الأرض في مكان لا أعرفه. وجلست على ركبي على حصمة ( لمدة 10 دقائق)، ثم أدخلني الجنود إلى غرفة وأمروني بخلع ملابسي كلها وأعطاني جندي حفاظة (بمبرز). وبعد ارتدائها ارتديت ملابسي واعتقدت أنها مقدمة لجلسة تحقيق مع محقق من جهاز الشاباك. ثم وضعني الجنود في زاوية ممر بعد تقييد يداي خلف ظهري بقيود حديدية وقيود في قدماي، وشبحني الجنود على زاوية الممر والشمس فوق رأسي وكان بجواري معتقلين آخرين تم شبحهم عرفت أن أحدهم قريبي (محسن الكحلوت). واستمر شبحي حوالي 6 ساعات متواصلة وهو ما زاد من آلامي خاصة الكتفين والديسك الذي أعاني منه. وقد سقط أحد المعتقلين المشبوحين على الأرض، وفك الجنود قيوده وقدموا له الماء، ثم نقلت معه بعد انتهاء شبحي ومعتقل آخر وعرفت أنه د. أحمد مهنا مدير مستشفى العودة في جباليا شمال قطاع غزة إلى عنبر جديد ولم يتم التحقيق معي من الشباك حسب ما كنت أعتقد بعد 6 ساعات من الشبح.

وفي العنبر الجديد فك الجنود القيود الحديدية من يداي وقدماي وضعوا قيوداً بلاستيكية في يداي من الأمام. شاهدت قريبي علاء الكحلوت ود. محمد الرن وهو طبيب جراح في المستشفى الإندونيسي في جباليا شمال قطاع غزة. وتعرضنا في هذا العنبر للقمع من الجنود بحجة ارتفاع صوت المعتقلين، وكان القمع عبارة عن اقتحام من وحدة خاصة أمر أفرادها المعتقلين بالانبطاح على بطونهم ووجهوا لنا سباب وشتائم نابية ونادوا على المعتقلين الذين اتهموا بإثارة الشغب بأرقامهم وقام الجنود بنقلهم من العنبر إلى عنبر آخر.

مكثت في هذا القسم حوالي 8 أيام اشتدت خلالها آلام الغضروف في ظهري وفي كتفاي وزاد تنميل القدمين وفي إحدى المرات سقطت على الأرض أثناء عد المعتقلين (اسفراه). واقترب مني د. محمد الرن وهو معتقل معنا وطلب من الجنود نقلي إلى مقر عيادة المعتقل. ونقلت على حمالة وفحصني طبيب العيادة وأعطاني حبة دواء (مرخي عضلات) خففت قليلاَ من آلامي. وفي نفس هذا اليوم وفي ساعات الليل أقام الجنود حفلة شواء سبوا خلالها المعتقلين وأجبروا بعضهم على الهتاف “شعب إسرائيل حي”.

وفي اليوم 33 لاعتقالي، تم نقلي مع حوالي 120 معتقلاً من مكان اعتقالنا إلى حافلة. وكان من بين المعتقلين رجل مسن ومريض بالزهايمر من عائلة مسلم، ولا أعرف كيف قام جنود الاحتلال باعتقاله وهو بهذه الحالة. وخلال سير الحافلة بنا، تعرضت للضرب من قبل مجندة عدة مرات بسبب عدم خفض رأسي للأسفل وأنا جالس على الكرسي وبسبب تحركي. وبعد مرور 3 ساعات توقفت الحافلة وأنزلنا الجنود منها في معبر كرم أبو سالم جنوب شرق مدينة رفح، وأمرونا بالجري تجاه الجانب الفلسطيني، وكان من بين المفرج عنهم امرأة رفضت الحديث مع المعتقلين الآخرين ولم نعرف اسمها.

وعندما وصلنا إلى الجانب الفلسطيني شاهدت خيمة للأونروا واستقبلتنا موظفة في الأونروا من جنسية أجنبية، وقُدم للمعتقلين طعام ومشروبات مختلفة، ثم جلست مع موظفين من الصليب الأحمر الدولي وتحدثت معهم حول ظروف اعتقالي، وعرفت أن اليوم هو يوم الثلاثاء/9/1/2024. وقمت بإجراء عدة اتصالات للاطمئنان على عائلتي وعلمت أن بيتي قصفته طائرات الاحتلال ودمرته بالكامل كما استشهد والد زوجتي “رفيق الكحلوت” وأصيب والدي وزوجتي في قصف منزل أحد أقاربنا في مشروع بيت لاهيا. وبعد خروجنا من الخيمة باتجاه معبر رفح قابلنا شرطي فلسطيني وسجل جميع أسماء المعتقلين، وغادرت المكان بعد ذلك باتجاه مدينة رفح في سيارة تابعة للأونروا، وأقيم حالياً في خيم الصحفيين بجوار مستشفى الكويت التخصصي في مدينة رفح.