أغسطس 10, 2024
هكذا عايشت أيام القصف والجوع شمال غزة
مشاركة
هكذا عايشت أيام القصف والجوع شمال غزة

عبور ناصر مخيمر حمادين، 38 عاماً، متزوجة، ولدي طفل، سكان شمال غزة، ونازحة في دير البلح.

في السابع من أكتوبر 2023، استيقظنا على أصوات الصواريخ والصراخ في الشوارع، كانت الساعة السابعة صباحا وكان الوضع يزداد سوءاً مع مرور الوقت. وعند الساعة 12 ظهراً، بدأ القصف من الاحتلال يشتد والأحزمة النارية تنفذ وكنت أشعر بنيرانها داخل منزلنا. طال القصف جميع شوارع بيت حانون (شارع النعايمة – شارع المصريين – شارع الشبات- شارع حمد)، وأصوات القصف كانت عالية ومرعبة.  وعند الساعة 2 فجر اليوم التالي، بدأ اهالي المنطقة بالهرب من المكان. حملت ما استطعت من أوراق ثبوتية شخصية، ولم أستطع حمل ملابس كافية معي، فقط غيار واحد لكل منا أنا وزوجي وابني محمد (13 عاما) الذي جاءنا بعد معاناة عن طريق (الانابيب). خرجنا راكضين  إلى مدارس الإيواء في منطقة الشيخ زايد (مدرسة النخيل)، ونحن بطريق الهرب من القصف الذي يشنه جيش الاحتلال على المنطقة في شارع البنات الواقع في بيت حانون تم قصف عمارة سكنية مأهولة دون سابق إنذار أو تحذير. حوالي 40 شخصاً راحوا ضحية لهذا الاستهداف المفاجئ في ذلك الوقت، جميعهم استشهدوا وإلى الآن لم يتم إخراج جميع الجثث من تحت الركام. كانت الشظايا تتطاير في كل مكان، الناس تهرب، كان الناس يفرون وكأنها أهوال يوم القيامة. كانت الشظايا تتطاير في الشارع وكانت النساء تركض بدون حجاب أو حتى حذاء مع أطفالهم يصرخون بالشوارع. لم اتخيل يوماً أن أعيش في مثل هذه الاحداث، حالة من الرعب والهلع لا يمكن للعقل تصورها.

نزحنا إلى مدرسة لإيوائنا في منطقة الشيخ زايد (مدرسة النخيل). النازحون داخل المدرسة كانوا من سكان منطقة بيت حانون لأنها أكثر منطقة تم تهديدها وتم نزوح سكانها منها.

عند وصولنا، كانت المدرسة تعج بالنازحين وجميعهم من سكان بيت حانون في ذلك الوقت. مكثنا في المدرسة مدة طويلة. لم نكن ندري من أين يأتي القصف مكثت في المدرسة مدة 6 أشهر نزحت منها وعدت 4 مرات خلال هذه الأشهر. 

كان الطعام والشراب إلى ما قبل الهدنة (في الأسبوع الأخير من شهر نوفمبر 2023) متوفر في شمال القطاع وكان ما يزال يوجد دعم يصل لمنطقة الشمال. قبل الهدنة بعدة أيام زاد الوضع صعوبة وكان القصف في كل مكان والشهداء على الأرض، منهم مقطوعي الأيدي ومنهم مقطوعي الأرجل.

قررنا الخروج من المدرسة إلى مدرسة أخرى وكان إطلاق النار فوق رؤوسنا. كان هذا قبل الهدنة بـ 4 أيام، مع تزامن دخول جيش الاحتلال الإسرائيلي لمنطقة مستشفى الإندونيسي. في ذلك الوقت تم قصف المدرسة التي كنا فيها بقذائف مدفعية جيش الاحتلال فهربنا من مدرسة النخيل إلى مدرسة حلب وهي المدرسة المجاورة لمدرسة النخيل. كان عدد الشهداء كبيرا لدرجة أنه كان يتم نقل المصابين عن طريق عربات الكارو، الأم كانت تغطي ابنها الشهيد وتهرب من هول المنظر، وتم دفن الشهداء في ساحة المدرسة نفسها. كان الاحتلال يستهدف كل من يتحرك في ممرات المدرسة عن طريق قناص الاحتلال الموجه صوب المدرسة التي تأوينا، وتم محاصرة منطقة الاندونيسي مع منطقة الشيخ زايد. مكثت مدة 4 أيام في مدرسة حلب وتم قصف مدرسة الكويت المقابلة لمدرسة حلب بجانب الأبراج وطالتنا الشظايا. 

عند الساعة السابعة صباح اليوم التالي، أخبرت زوجي بأن بقاءنا في داخل المدرسة سيعرضنا للموت لا محالة. فانتقلنا إلى مدارس أبو زيتون في معسكر جباليا. خرجنا من الباب الخلفي للمدرسة الساعة الثامنة صباحا وخرجنا للطريق ننتظر سيارة لتقلنا، ولكن لم نجد، فمضينا سيرا على الأقدام باتجاه المعسكر. ونحن بطريقنا لمعسكر جباليا تم قصف عمارة الخلفاء في منطقة المعسكر تبعد عنا بضعة أمتار، كنا نمشي والقذائف تتساقط حولنا وقربنا، ابني وحيدي هو من أجبرني على النزوح لحمايته والحفاظ على حياته، ولكني رأيت الموت أنا وطفلي ألف مرة في الطريق.

مكثنا في مدرسة أبو زيتون في معسكر جباليا مدة 4 أيام، وتم اعلان الهدنة. وعدنا إلى مدرسة النخيل فوجدناها قد دمرت، فتوجهنا إلى مدرسة حلب بجانبها لتأوينا وكانت المدارس مقصوفة، ولكن استصلحنا صفا للمكوث فيه كنت انا وزوجي وطفلي بالإضافة إلى والد ووالدة زوجي وأخوته وزوجات أخوته وأبناؤهم. كنا ما يقارب الـ 30 شخصا كلنا في صف واحد طوال هذه المدة ونحن ننام على الأرض تحت أقدام بعضنا بدون فراش أو غطاء وكان الجو شديد البرودة.

عندما أعلنت الهدنة، حاولنا العودة إلى منطقة بيت حانون ولكن وجدنا الدبابات في بيت حانون عند الكراج (شارع النعايمة). كنت أريد الذهاب لمنزل أهلي لجلب أي شي من غطاء او ملابس او حتى طعام او طحين ولكني لم أستطع بسبب وجود دبابات الاحتلال والقناصة في المكان. 

حاولنا أن نسلك طرقاً التفافية ومختصرة حتى نبتعد عن جنود الاحتلال، الا ان القنص والقصف كان لا يزال مستمراً، وكانت الدبابات تتواجد في شارع حمد امام منزلي مباشرة ولم أستطع حتى الاقتراب منه.

بعد انتهاء الهدنة مطلع شهر ديسمبر 2023، عاد جيش الاحتلال للتوغل مرة أخرى في المناطق كما كان قبل الهدنة، وكان القنص والقصف مستمر علينا في المدرسة، من يخرج من المكان يتم قنصه. ابنة شقيق زوجي تم اطلاق النار عليها وهي في داخل الصف من قناصة جيش الاحتلال الإسرائيلي وتمت إصابتها الساعة 12 ليلا، وقام زوجي ووالده بنقلها للطبيب المتواجد في المدرسة ولكن أخبرهم بان وضعها يحتاج لمستشفى وبأقرب وقت. كانت الإصابة في بطنها وتسببت بتقطيع امعائها وقام والد زوجي بنقلها لمستشفى العودة من بوابة خلفية حاولنا الخروج من المدرسة لم نستطع بسبب القصف الشديد. في اليوم التالي عندما أراد والد زوجي العودة لجلب العلاج تم إطلاق النار عليه من قناص جيش الاحتلال على بوابة المدرسة وكان وضعه حرجا، فقام زوجي وشقيقته بوضعه على كروسة وحمل الراية البيضاء والخروج لمستشفى العودة والقصف حولهم ونجحوا بنقله لمستشفى العودة. وتمت محاصرتهم في المستشفى ونحن تمت محاصرتنا في المدرسة حتى تمكنا من الهرب من مدرسة حلب إلى المدرسة المجاورة لها، مدرسة النخيل، وبقيت مدة 4 أيام في مدرسة النخيل حتى هدأ القصف نوعا ما الساعة 12 ليلا وعدنا إلى مدرسة حلب في ذلك الوقت لأن المدرسة من كثرة عدد النازحين لم نكن نستطيع الجلوس حتى، فتوجهنا ثانية لمدرسة حلب لننام ولو قليلا. واستمر إطلاق النار على المدرسة مدة 4  أيام متواصلة إلى أن تمت المناداة علينا من قوات الاحتلال عن طريق مكبرات الصوت، تمت المناداة علينا مدارس حلب والكويت والنخيل بأن نخلي المكان ونتوجه لشارع النفق أو معسكر جباليا.

الناس من شدة الخوف أصبحت تركض للإخلاء. خرجنا من المدرسة والمناظر حولنا تقشعر لها الأبدان، من النازحين من يصرخ، ومنهم من يمشون حفاة الأقدام من الخوف، نسير والقذائف فوق رؤوسنا وإطلاق النار علينا. استشهدت أمامي امرأة وتركتها بناتها وهربن من هول المنظر والخوف تم إطلاق النار على والدتهم بسبب انها ارادت حمل ابن ابنها الصغير الذي وقع على الأرض فأطلقوا النار عليها واستشهدت فورا وبقيت ملقاة في الشارع.

من استشهد في ذلك اليوم بقي مدة شهر ملقى على الأرض. كان يمنع علينا حتى تحريك الرأس والنظر للخلف. وتفرق النازحون في عدة مناطق. توجهت إلى أقرب منطقة لي، خاصة وأن زوجي كان محاصراً في مستشفى العودة، فنزحت إلى مدرسة ابو زيتون في المعسكر أنا وابني وسلفاتي. وبقينا مدة شهر كامل في مدرسة أبو زيتون إلى أن تمت محاصرتنا أيضا في المدرسة والأحزمة النارية تنفذ بكثافة، كان صوت الاحزمة النارية مرتفع جدا، كانت كل 3 ساعات أو ساعتين تنفذ أحزمة نارية في نفس المنطقة مدة كل حزام ناري ما يقارب النصف ساعة مستمرة في مناطق السكة وجباليا البلد مع استمرار وصول القذائف إلى المدرسة التي تأوي النازحين ووقوع شهداء ويتم دفنهم في المدرسة. ثم تمت محاصرتنا لمدة شهر كامل في مدرسة أبو زيتون. 

عندما تم اعلان انسحاب الاحتلال من المناطق التي تمت محاصرتها، عدنا إلى مدرسة حلب ولم نجد الطعام أو الملابس التي تركناها فيها حيث قام جيش الاحتلال برمي الملابس وإتلاف الطعام الموجود في كل المدارس، حتى الطحين لم نجده كانت المدرسة مدمرة بشكل كبير وقمنا باستصلاح مكان وقمنا بتغطيته بالشوادر والحرامات حتى نستر أنفسنا وبقينا فيه.

أستطيع وصف هذه الأشهر الثلاثة بأنها أيام الموت، أصعب أيام مررنا بها، بدأت منطقة شمال قطاع غزة في مرحلة نفاد الطعام بالكامل. بدأ الجوع يشتد، فقد نفد الطحين من القطاع، كنا لا نأكل او نشرب لمدة أيام. صار أهل شمال غزة يحاولون تدبر الطعام باصطناع شيء من اللاشيء حتى نأكل، أكلنا علف ارانب وردة حمام والشعير قمنا بطحنه حتى نأكله بدلاً من الطحين ونقوم بقليه حتى نستطيع أكله. وبقينا لمدة شهرين على هذا الحال نعاني الجوع الشديد ولهذا السبب خرجت من شمال قطاع غزة مع ابني خوفاً من فقدانه. وعدا عن القصف واطلاق القذائف المستمر بالإضافة إلى الجوع يوميا كانت تحدث مجازر في شمال القطاع الشهداء يوميا، في كل مكان مقطعين الايدي والارجل.

ولولا وجود الخبيزة والحمصيص في أراضي بيت حانون، كنا نخاطر بحياتنا للحصول على الخبيزة لسد جوعنا، كنا نأكلها بدون خبز لعدم توافره، صغارنا تبكي من الجوع وقلة الشبع، حتى لو توفرت الخبيزة او الحمصيص مما يدفعنا للبكاء لأننا لا نستطيع سد جوعنا او حتى سد جوع أطفالنا. كنت أقوم بشراء علبة الصلصة لأسد جوعي انا وطفلي لأكلها مع الخبز المقلي المصنوع من الشعير وردة الحمام وعلف الارانب والتي كانت نادرا ما تتوفر لي. ولاحقا بدأت الطائرات تلقي المساعدات عبر المظلات فصارت تنزل في مناطق المعسكر والناس من شدة الجوع جميعهم يركضون للحصول عليها بعضهم يعود ميتا والبعض الاخر يعود مع شيء من هذه المساعدات. كان الحصول على الطعام عبارة عن مخاطرة وعند التجمع كانوا يتعرضون للقصف. في ِشمال قطاع غزة في ذلك الوقت إما ان تموت من الجوع او تموت من القصف على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي.

وباعتباري مريضة قلب وجلطة رئوية لي ادوية معينة وغذاء منتظم في هذه الحرب والمجاعة اثرت عليّ سلبا وزادت حالتي سوءا فكنت أتعرض لحالات إغماء متكررة وضيق وصعوبة في التنفس ولم أكن أملك علاجا ولم يكن متوفرا. 

كان وزني قبل الحرب 60 كجم ولكن في الحرب أصبحت 45 من انعدام الطعام والتجويع. وابني كان يزن 55، ولكن مع الحرب أصبح يزن 40 كيلو. مع سوء وضعي الصحي، توجهت للطبيب الذي أخبرني بأني إذا بقيت على هذا الحال سيؤثر سلبا على صحتي، وكتب لي علاجاً لشرائه من صيدلية خاصة. ولكني لم أكن أملك المال حتى لشراء العلاج، فتواصلت مع أهلي في الجنوب بعد عودة الاتصالات في شمال القطاع وقاموا بإرسال المال لي لشراء العلاج. كل شهر أقوم بشراء كيلو طحين بـ 140ش وكيلو ردة وعلف بـ 40 ش.

ما أجبرني على النزوح هو الجوع والدمار والقصف فقمت بالنزوح لجنوب غزة لتوفر الطعام فيه.

بتاريخ 8/3/2024 توجهت للجنوب عن طريق الحاجز. دفعت مبلغ 200 ش لسيارة خاصة لتقلنا حتى منطقة دوار الكويت جنوب مدينة غزة، وأكملنا مشيا على الاقدام حتى وصلنا إلى حاجز الاحتلال الإسرائيلي. كنا ما يقارب الـ 100 شخص، وكان الجنود على التبة. عند الحاجز دب الرعب في قلبي، وكان همي الوحيد هو الخروج مع ابني سالمين، فتم المناداة علينا للدخول مجموعات عبارة عن 5 أشخاص من البوابة رافعين الهوية الشخصية وكان ابن خالتي برفقتي يحمل أغراضا تعود لي ولكنه تمت المناداة عليه بترك الأغراض على الأرض والتوجه إليهم، أغراضي امامي لم أستطع التقاطها خوفا من قيامهم بأذيتي. أكملت الطريق سيرا على الاقدام والدبابات محيطة بنا وقناصة جيش الاحتلال تملأ المكان، يمنع تحريك الرأس يمينا أو يسارا أو حتى الانخفاض لحمل شيء، إلى أن وصلنا لنقطة بعد الحاجز الإسرائيلي تقوم بتقديم الطعام من شبان فلسطينيين. كنت جدا متعبة وخائفة فوجدني أخي على الطريق وأوصلني للمدرسة. ومنذ ذلك الوقت إلى الآن وأنا في المدرسة، علاجي غير متوفر، أهلي يقومون بمساعدتي بالمصاريف لأن زوجي لا يستطيع العمل في شمال القطاع لا يوجد له مصدر رزق أعيش على المساعدات التي تقدمها المدرسة.

آمل بالعودة العاجلة لشمال قطاع غزة وانتهاء الحرب.