يوم واحد يفصل بين الشهادة التي أدلى بها الطفل نافذ أحمد زكي أبو حمادة لطاقم المركز، روى فيها جانباً من معاناته اليومية مع التهجير والجوع، وعبر فيها عن حنينه لوالديه وشقيقيه الطفلين الذين قتلتهم قوات الاحتلال قبل نحو عام شمال قطاع غزة، وبين مقتله بقصف إسرائيلي بينما كان برفقة جدته يحاولان الحصول على كيس دقيق جنوب خانيونس.
نافذ، ابن العشر سنوات، وجد نفسه بعد شهر واحد من بدء الهجوم العسكري الإسرائيلي على قطاع غزة، يتيمًا بلا والدين، مع فقد شقيقين طفلين، ليبقى مع شقيقيه الطفلين المتبقيين رفقة جديه المسنين، اللذان اضطرا للنزوح قسرًا برفقة أحفادهم إلى جنوب قطاع غزة مع اشتداد وتيرة القصف الإسرائيلي على شمال قطاع غزة. لكن القصف والجوع والمرض بقي يطاردهم من مكان إلى آخر، حتى خطف القصف الإسرائيلي الطفل نافذ ليلحق بوالديه وشقيقيه؛ ليبقي جرح الفقد غائرًا لدى الأسرة التي تنتظر على قائمة القلق والخوف والمستقبل المجهول.
هذه إفادتي
“أنا الطالب نافذ أحمد زكي أبو حمادة، 11 عاماً، كنت أسكن بالقرب من أبراج القرية البدوية في محافظة شمال قطاع غزة. كنت في منزلي صباح يوم 7 أكتوبر 2023، أستعد للذهاب لمدرستي، حيث أدرس في الصف الرابع الابتدائي في مدرسة ذكور عزبة بيت حانون الابتدائية، كانت الساعة السادسة والنصف صباحاً عندما بدأت أسمع أصوات انفجارات في كل مكان وحينها منعتني أمي (أماني نافذ خضر أبو حمادة، 34 عاماً) من الخروج من المنزل أنا وإخوتي محمد، 16 عاما، وعمر، 13 عاما، وزياد، 12 عاماً، ومكثنا في المنزل حتى ساعات الظهر،” هكذا بدأ الطفل الراحل حكايته من بدايتها.
قررت أسرة نافذ الخروج من منزلها، ظهر ذلك اليوم، بسبب اشتداد القصف الإسرائيلي وسقوط بعض القذائف بالقرب من منزلهم. يتذكر ما حدث في ذلك اليوم: “توجهنا نحو بيت جدي والد أمي نافذ خضر أحمد حمدان، 59 عاما، الواقع بالقرب من مستشفى بيت حانون شمال قطاع غزة. مكثنا يومين فقط ومع ازدياد القصف خرجنا من منزل جدي تحت القصف الساعة السابعة صباح 9 أكتوبر 2023، وتوجهنا نحو مدرسة حفصة للبنات بمنطقة الفالوجا غرب مخيم جباليا، وهناك حصلنا على فصل (غرفة للإيواء) بصعوبة كبيرة، وكان عدد النازحين كبيرًا في المدرسة، ولم يكن لدينا أي أغطية أو فراش.”
أمضت الأسرة يومها الأول بصعوبة في المدرسة دون أي مقومات، وفي اليوم التالي ذهب شقيقا نافذ (محمد، 16عاماً وعمر، 13 عاماً) إلى منزلهم واستطاعا جلب بعض الفراش والأغطية من المنزل ولكن لم تكن تكفي الجميع.
منذ تلك اللحظات بدأت معاناة نافذ وأشقائه الأطفال، الذين بدلا من الدراسة وحمل حقائبهم المدرسية، بات عليهم مسؤوليات يومية، يقول: “كنت كل صباح أذهب مع إخوتي للحصول على المياه الصالحة للشرب، ومحاولة الحصول على بعض الحطب لإشعال النار للطهي بها، وكنت أمشي مسافات طويلة للحصول على ذلك.”
بعد مرور فترة من المعاناة على ذلك الحال، وتحت وطأة البرد الشديد وعدم توفر أغطية كافية، مع برودة الأجواء، قررت والدته الذهاب لمنزلهم برفقة والده، 40 عاماً، الذي يعاني من اضطرابات نفسية، للحصول على المزيد من الاغطية وغيرها من الاحتياجات اللازمة.
هكذا قتلوا والديّ وشقيقيّ
يتذكر الطفل نافذ بأسى، ذهاب والدته ووالده وشقيقيه عمر وزياد، الساعة التاسعة صباح يوم 6 نوفمبر 2023، إلى منزلهم الذي اضطروا لمغادرته قسرًا. مضت ساعات ولم تعد الأم ولا الأب ولا الشقيقان. وسرعان ما جاء الخبر المؤلم، قوات الاحتلال استهدفتهم عند وصولهم المنزل وقتلتهم هناك.
وقع النبأ على الصغير نافذ كان مفجعًا وصادمًا، فقد كانت أمه كل حياته، ووجد نفسه في المدرسة بدون والديه وشقيقيه الراحلين، ومكث مع جده وجدته، وشقيقيه: محمد، 16 عاما، وسجي، 8 أعوام، حتى 18 نوفمبر 2023، عندما استهدفت قوات الاحتلال المدرسة بعدد من القذائف الدخانية.
يقول نافذ: “لم نستطع الخروج من المدرسة ذلك اليوم بسبب شدة القصف في محيط المدرسة وسقوط بعض القذائف الدخانية داخل المدرسة. وفي اليوم التالي، قرر جدي وجدتي الخروج من المدرسة والنزوح إلى جنوب قطاع غزة، فخرجنا من المدرسة الساعة السادسة والنصف صباحاً مشياً على الأقدام مع عدد من النازحين الذين كانوا يتواجدون في المدرسة.”
النزوح إلى الجنوب
توجه الجدان وحفيداهما مع نازحين آخرين مشيًا على الأقدام إلى حاجز نتساريم الذي تقيمه قوات الاحتلال على طريق صلاح الدين وتفتش خلاله النازحين إلى جنوب القطاع. يقول الطفل: “وصلنا الحاجز الساعة التاسعة صباحاً. كان هناك عدد من النازحين يقفون أمام الحاجز وكانت هناك دبابة إسرائيلية تقف أمام الحاجز ويقف عليها عدد من الجنود، وكان هناك بعض الجنود يطلقون بعض الطلقات لإخافة النازحين. وبدأ الجنود بالمناداة على النازحين للدخول للحاجز وبالفعل بدأوا بالدخول. استمر وقوفنا حتى وصل دورنا وعبرنا الحاجز، وكان هناك عدد من الجنود يقفون على تلة رملية، يوجهون أسلحتهم نحو النازحين الذين يعبرون الحاجز، وكان هناك جندي ينادي عبر مكبر الصوت على النازحين وكان يأمر البعض منهم ترك ما يحمل والتوجه نحوه.”
بعد عبور الحاجز بسلام توجه الجدان والحفيدان إلى مدينة رفح، وهناك نصبوا خيمة في تل السلطان بالقرب من بركسات الوكالة ومكثوا في مدينة رفح 6 أشهر، كانت حافلة بالمعاناة والخوف والقصف والحنين إلى الشهداء الراحلين.
مسؤوليات وأعباء
فرض النزوح والظروف القاسية أعباءً على نافذ وشقيقه محمد. يقول نافذ: “كنت أساعد أخي محمد بالذهاب للتكية والوقوف بطابور تعبئة المياه الصالحة للشرب. واضطر أخي محمد للعمل مع بائع خضار بالقرب من بركسات الوكالة ليساعدنا ويساعد جدي وجدتي في الحصول على ما نحتاج إليه.” ويضيف: “كنت أذهب منذ الصباح للحصول على الحطب لإشعال النار، وأساعد جدي وجدتي بكل ما يحتاجانه. وكانت جدتي تلبي لنا كل ما نحتاج أنا وإخوتي، واستمرينا على هذا الحال في رفح ومازالت المعاناة اليومية كما هي حتى بدأ جيش الاحتلال الإسرائيلي يطالب الموجودين في رفح بإخلائها والذهاب إلى مناطق أخرى.”
مع نزوح جديد، كان الطفل نافذ وشقيقاه وجداهما في 28 مايو 202، وحملوا القليل من أمتعتهم، وتوجهوا إلى منطقة مواصي خانيونس. يقول نافذ: “مكثنا في مدرسة الحناوي مقابل سجن أصداء. كانت المدرسة مليئة بالركام، نظفنا أحد الفصول وجهزناه على قدر المستطاع للمكوث فيه.”
بعد النزوح إلى مدينة خانيونس، اضطر الطفل إلى تحمل مسؤوليات وأعباء جديدة، فقد بدأ في بيع الترمس الذي كانت جدته تعده وتجهزه له ويذهب لبيعه في المدارس التي تأوي نازحين، والخيام القريبة من مكان نزوحهم، واستمر على ذلك لفترة من الوقت، حتى بدأت أسعاره ترتفع فتوقف عن ذلك.
في ختام إفادته، فاضت مشاعر الطفل نافذ وهو يقول: “ما زلنا نمكث في المدرسة حتى اليوم، أنا أفتقد أمي وأبي وشقيقيّ عمر وزياد. كانت أمي قريبة منا وحنونة علينا. كثير من الأيام تروي لي جدتي أنني أنادي على أمي أثناء نومي وأنا لا أشعر بذلك ولكن أحن لأمي كثيراً وأفتقدها كثيرًا.”
تفاصيل استشهاد الطفل
صباح الجمعة 15 نوفمبر 2024، في اليوم التالي لأخذ باحث المركز شهادة الطفل نافذ، توجه الطفل رفقة جدته فاطمة اسماعيل محمد حمدان، 58 عاماً، إلى منطقة مفترق أبو حلاوة جنوب مدينة خانيونس في محاولة للحصول على كيس دقيق من التجار في طريق مرور شاحنات المساعدات، عندما قصفت طائرات الاحتلال تلك المنطقة ما أدى إلى مقتله.
وقع مقتل الطفل نافذ كان صادمًا ومؤلمًا ليس على جديه وشقيقيه فقط، بل على باحث المركز رامي رضوان الذي كان يدون قصته قبل ساعات، في مكان نزوحه في خان يونس جنوب قطاع غزة. قبل ساعات كان الطفل نافذ يجلس بجوار الباحث رضوان ويشاركهم الجلسة الجد نافذ حمدان، والجدة فاطمة حمدان، وشقيقه محمد. “كان الطفل نافذ شديد التعلق بجدته، كان يتحدث بعفوية ويروي عن معاناته وهو يؤكد على كلامه من جدته،” يقول رامي. “أخبرني والدي في صباح اليوم التالي لأخدي الإفادة باتصال هاتفي بخبر استشهاد الطفل، حيث إن عائلتي تنزح في المدرسة ذاتها التي يقيم بها الطفل نافذ وباقي عائلته. كان الخبر صدمة لي وشعرت بحزن شديد عليه،” يضيف باحث المركز.
يرحل نافذ بعد عام مليء بالتعب والنزوح والفقد والألم، وتبقى حكايته شاهدًا على المآسي التي يعيشها أطفال غزة بسبب احتلال لا يتوقف عن استهداف الأطفال وكل شيء في قطاع غزة ضمن جريمة الإبادة الجماعية.