مايو 9, 2025
من مقاعد الدراسة إلى خيمة النزوح: شهادة فتاة فقدت أحلامها في طريق النجاة وكبُرت قسرًا في زمن الحرب
مشاركة
من مقاعد الدراسة إلى خيمة النزوح: شهادة فتاة فقدت أحلامها في طريق النجاة وكبُرت قسرًا في زمن الحرب

تاريخ الإفادة: 20/4/2025

سجى عمران صالح أبو ليلة، 17 سنة، متزوجة من عيسى جبر صالح أبو ليلة، 23 سنة، حامل في الشهر السابع، كنت اسكن في بداية الحرب وقبل الزواج في منزلنا في بيت لاهيا حي الامل وحاليا بعد الزواج في منطقة العطاطرة.

سجى عمران صالح أبو ليلة، 17 سنة، متزوجة من عيسى جبر صالح أبو ليلة، 23 سنة، حامل في الشهر السابع، كنت اسكن في بداية الحرب وقبل الزواج في منزلنا في بيت لاهيا حي الامل وحاليا بعد الزواج في منطقة العطاطرة.

في السابع من أكتوبر، كنت أتهيأ كأي فتاة في مثل عمري للذهاب إلى المدرسة وتقديم الامتحانات. لم يخطر ببالي أن هذه التحضيرات ستكون آخر ما أقوم به في حياتي الدراسية. بعد ثلاثة أيام فقط من اندلاع الحرب، اضطررنا للنزوح من منزلنا البسيط، وهو بيت زينقو صغير تحيط به الأشجار، بعد أن أصبح البقاء فيه يشكل خطرًا على حياتنا.

توجهنا إلى مدرسة الفاخورة في مخيم جباليا، حيث اعتقدنا أنها قد تكون أكثر أمانًا، رغم شدة القصف. وبعد يومين فقط من مغادرتنا، قصفت قوات الاحتلال الإسرائيلي منزلنا. لو بقينا هناك، لما كنا على قيد الحياة الآن.

خرجنا من المنزل في ساعات العصر، نحمل القليل من الطعام، دون أن نأخذ معنا أي من ملابسنا أو مقتنياتنا. بقينا في مدرسة الفاخورة ما بين 20 إلى 25 يومًا، نعتمد على المساعدات المحدودة التي توفّرها المدرسة. لكن الاحتلال ألقى مناشير تطالب السكان بالنزوح جنوبًا، مدعيًا أن المنطقة هناك أكثر أمانًا، معلنًا أن قطاع غزة بالكامل أصبح “منطقة حمراء”.

بعد صدور أوامر الاحتلال بالإخلاء، غادرتُ برفقة شقيقي محمد، 22 عامًا، من معسكر جباليا متجهين جنوبًا نحو منطقة دير البلح، مشيًا على الأقدام، بسبب غياب وسائل النقل. لم تكن والدتي، ولا والدي، ولا شقيقاتي الأربع، إحداهن حامل، قادرات على تحمّل مشقة الطريق، فذهبنا نحن فقط، أنا ومحمد، على أمل أن نؤمّن لهم مكانًا أفضل.

وصلنا إلى مدرسة دير البلح الإعدادية، حيث مكثنا لأيام وسط ظروف قاسية ونقص في كل شيء. ضيق الحال وشعور محمد بالمسؤولية دفعاه لاتخاذ قرار العودة إلى الشمال، رغم توسلات والدي له بعدم المغادرة لخطورة الوضع. بعد ساعات، غادر محمد برفقة ابن عمي وأحد الجيران… ولم نعد نسمع عنهما شيئًا.

بدأت رحلة البحث المؤلمة. والدي ووالدتي زارا المستشفيات وكل الأماكن الممكنة، وأبلغا الصليب الأحمر، وكررا السؤال يوميًا… لكن بلا جدوى. كان محمد هو من يعيلنا، ومع غيابه خيم الحزن والقلق على أيامنا. كل يوم كنا نعيش على أمل تلقي خبر يؤكد أنه بخير.

بعد أسبوع ونصف، ومع تداول بعض النازحين أنهم رأوا شابًا يشبهه قرب منطقة البيدر، قررتُ التوجه شمالًا مع والدي وابن عمي الأكبر. وصلنا إلى منطقة الزهرة، وسط خطر شديد. أثناء السير، دُمر مبنى أمام أعيننا. والدي توقف من هول المشهد، لكنني تابعت السير مع ابن عمي حتى وصلنا إلى محطة البيدر.

هناك، أخبرونا أن محمد كان هنا. لكني لم أجد إلا رعبًا مطلقًا: عظام وجماجم صغيرة على الطريق، ربما لأطفال تحللت أجسادهم، وأشلاء مبعثرة، وكلاب حراسة تابعة للاحتلال بثت الرعب في قلبي. مشهد لن أنساه ما حييت.

في الرابع من فبراير 2024، تم إبلاغنا رسميًا من قبل الصليب الأحمر بأن شقيقي قد استشهد، بعد أن فُقد أثره لأيام طويلة، وتم استخراج شهادة وفاته في ذات اليوم.

في شهر يونيو 2024، تقدم ابن عمي لخطبتي، وبعد أسبوع واحد فقط تزوجنا. لم يكن هناك أي مظهر من مظاهر الفرح. كنت أنا ووالدتي ووالدي نبكي. لم تُوزّع الحلوى، ولم تُرفع الزغاريد، ولم يكن هناك عناق ولا تهاني… فقط وجع صامت يرافقنا.

تم عقد قراني بمهر قدره 500 دينار، استخدمت جزءًا منه لشراء دبلة، وجهزت نفسي بطقمين للصلاة وعباءة وشال وبعض أدوات التجميل بقيمة 100 شيكل فقط. لم يكن لدينا مكان نقيم فيه، فأعطانا أحد الجيران مخزنًا صغيرًا لمدة 10 أيام نسكن فيه بعد الزواج. ومن المدرسة حصلنا على فرشتين، وحرامين، وبعض المعلبات لنعيش بها أول أيام زواجنا.

استعرت فستانًا بسيطًا من صديقة لي لأرتديه يوم زفافي، وساعدتني إحدى النازحات بوضع مكياج خفيف على وجهي. كنت أبكي في هذا اليوم، لم تكن هذه أحلامي، ولم يكن هذا هو “الفرح” الذي انتظرته. كنت أحلم بفستان أبيض… حلم كل فتاة، لكن حلمي لم يكتمل.

كنت أتمنى أن تكون عائلتي كاملة إلى جانبي، أحبائي، شقيقي الشهيد.. كنت أحتاج لوجوده معي. زُففت إلى زوجي وسط الحزن والدموع، دون فرحة، ودون تجهيز، ودون حتى حقيبة مليئة بفساتين أو أدوات تجميل. لم أملك شيئًا. كنت أشعر أنني ما زلت طفلة، لكن الحرب والفقر أجبراني على الانتقال من كنف والدي إلى مسؤولية زوجي، فقط لتخفيف الأعباء عن والدي.

كان لدي شيء من الخصوصية لمدة عشرة أيام فقط بعد الزواج، ثم انتقلنا إلى خيمة صغيرة نصبناها بجانب المخزن. خيمة تشتعل نارًا من شدة الحر، لا حمام فيها ولا مرافق، وعندما كنت أحتاج للاستحمام أو قضاء الحاجة، كنت أتوجه إلى حمامات المدرسة.

تحولت من طفلة لا تعرف شيئًا عن الحياة، إلى سيدة منزل، مسؤولة عن إعداد الطعام، وإشعال النار، والغسيل، وتدبير كل تفاصيل الحياة. صرت مسؤولة عن رجل، بينما في داخلي ما زلت فتاة صغيرة تحاول فهم ما جرى.

تغيرت حياتي بالكامل، وتبدلت أولوياتي واهتماماتي. كبرتُ بسرعة، ليس بمرور الوقت، بل بثقل التجربة، وقسوة الواقع.

في الخامس من أكتوبر 2024، علمت أنني حامل. كانت فرحتي كبيرة رغم أنني ما زلت طفلة في نظر الكثيرين، لكن هذه الفرحة جاءت بعد ستة أشهر من الانتظار، ستة أشهر قضيتها تحت ضغط اللوم والتعليقات القاسية لأن حملي تأخر. كنت أبكي كل ليلة، أشعر بأنني غير كافية، وكأن تأخر الحمل ذنب أحاسب عليه. وعندما تأكد حملي، شعرت لأول مرة ببعض الراحة… شعرت أني لن أُعاتب بعد الآن.

للأسف، أنا لست الوحيدة التي مرت بهذه التجربة. شقيقتي تزوجت في عمر 15 سنة، ونشأنا في بيئة تُعلّم الفتاة على تحمّل المسؤولية مبكرًا. كبرنا على فكرة أن الزواج والأمومة هما المصير الحتمي، حتى وإن كنا ما زلنا في عمر الأحلام.

كنت من الطالبات المجتهدات في المدرسة. كنت أحلم بأن أكمل دراستي الجامعية، وأن أصبح حكيمة، أساعد النساء وأكون مستقلة. لكن الحرب والزواج غيرا كل شيء. تحطمت أهدافي، وتبددت أحلامي، وصارت أولويتي الآن كيف أُوفّر لطفلي القادم ما يحتاجه: الحليب، الحفاضات، والملابس.

صرت أفكر في موعد الولادة، وأشعر بالخوف، الخوف من الألم، من العجز، من عدم الجاهزية، من المستقبل المجهول. لم أعد أفكر كطالبة تحلم بالمستقبل، بل كأم صغيرة تحاول فقط أن تنجو وتوفر الحياة لطفل لم يولد بعد.

عُدنا إلى مدينة غزة مع أول قوافل العائدين، وكنت حينها في شهري الثالث من الحمل. انطلقنا من جنوب القطاع باتجاه بيت لاهيا مشيًا على الأقدام. كان الطريق طويلًا ومرهقًا، تكدّس فيه الناس، وانتشرت فيه رائحة الجثث المتحللة. مشيت ببطء شديد، أشعر بثقل الحمل والإنهاك، مرتدية فقط ثوب صلاة وغطاء رأس بسيط، نتحرك قليلًا ثم نتوقف لأستريح. خرجنا من المنزل الساعة التاسعة صباحًا، ولم نصل حتى الساعة العاشرة مساءً.

كلما اقتربنا من شمال غزة، زادت علامات الدمار: بيوت مهدمة، شوارع مجرّفة، لا شيء كما كان. ومع ذلك، شعرت بفرحة غامضة لمجرد أنني عدت إلى غزة. سكنت في شقة زوجي الواقعة في منطقة العطاطرة، لكنها لم تكن شقة بالمعنى الحقيقي، بل مجرد هيكل إسمنتي بلا شبابيك ولا بلاط ولا تجهيزات. وضعت ستارة على الباب كوسيلة بسيطة للستر، لكنها لم تكن تحمينا. حين رأتني والدة زوجي بلا ملابس مناسبة، اشترت لي ثوب صلاة. وكنت أقول لزوجي دومًا: “نفسي بشقة مبلطة، مدهونة، فيها مطبخ وحمام وطقم للنوم”.

كنت أشعر بالغربة في المكان، وبوحدة مؤلمة بعيدًا عن أهلي. اعتدت أن أشعل النار داخل الشقة لطهو الطعام، وأنقل المياه والخبز على النار، أعيش حياة بدائية تمامًا. وبعد فترة قصيرة، اندلعت الحرب من جديد، واضطررنا للنزوح إلى منطقة أبو خضرة قرب ملعب اليرموك، حيث نصبنا خيمتنا في الشارع لعدم وجود مأوى آخر.

صرنا نعيش بلا خصوصية. نطهو ونغسل ونأكل أمام أعين المارة. أستحم داخل الخيمة بعد إغلاق النوافذ القماشية، مع علمي أن المكان غير آمن، لكن لا خيار أمامنا. إنه أمر مؤلم، أن أعيش في وسط الشارع تحت خيمة، أراقب الناس من خلال شباكها وأتمنى فقط العودة إلى منزل يوفر لي بعض الأمان والهدوء.

اعتدت الضجيج، اعتدت الشارع، واعتدت وجود هذا الطفل يتحرك في داخلي. كل أحلامي في التعليم والدراسة تلاشت. لم يعد لي هدف سوى تأمين حياة كريمة لطفلي القادم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *