مارس 2, 2024
لم يسلم الأطباء من التعذيب
مشاركة
لم يسلم الأطباء من التعذيب

سعيد عبد الرحمن محمود معروف، 57 عاماً، أسكن في حي الأمل في بلدة بيت لاهيا، شمال قطاع غزة، متزوج وأب لخمسة أبناء أربعة منهم أطفال، طبيب في قسم الأطفال في مستشفى كمال عدوان في بلدة بيت لاهيا.

يوم السبت الموافق7/10/2023، ومع بداية التطورات الميدانية على الحدود الشرقية لقطاع غزة وسماع أصوات إطلاق الصواريخ من الفصائل الفلسطينية، ورد قوات الاحتلال بقصف من الطائرات الحربية والقذائف المدفعية، توقعت أن يكون ذلك بدايةً لعدوان جديد وتصعيد كبير فقررت نقل زوجتي و4 من أطفالي للإقامة في بيت والد زوجتي في مدينة غزة، وبقيت أنا وابني ضياء نقيم في منزلنا في حي الأمل في بلدة بيت لاهيا، شمال القطاع، والتزمت بالذهاب إلى عملي في قسم الأطفال في مستشفى كمال عدوان في بيت لاهيا.

مع تصاعد العدوان واشتداد وتيرة القصف واستهداف المنازل السكنية فوق رؤوس ساكنيها وسقوط الشهداء والجرحى لم أعد قادراً أنا وابني ضياء على الإقامة في منزلنا فقررنا اللجوء إلى المستشفى بالإضافة لعملي فيها. وفي هذا التوقيت في منتصف شهر نوفمبر 2023 تقريباً، وبعد حصار قوات الاحتلال لمستشفى كمال عدوان، تدهورت أوضاعها وانخفض عدد الطاقم الطبي بشكل كبير وساد الخوف والقلق في نفوس الطاقم الطبي والمرضى والجرحى ومرافقيهم، والنازحين، وأصبح الحصول على الأدوية والمستلزمات الطبية والطعام والماء غايةً في الصعوبة.

في ظل هذه الظروف وقبلها كان الطاقم الطبي في قسم الأطفال يعالج عددًا كبيرًا من الأطفال بعد إصابتهم بالتلوث، والنزلات المعوية والالتهاب الرئوي والحمى الشوكية بالرغم من النقص الحاد في الأدوية والمستلزمات الطبية.

كما كنت شاهداً على قصف قوات الاحتلال غرفة مبيت للأطفال المرضى داخل المستشفى واستشهاد أحدهم وإصابة والدته بجروح، وقصف ثانٍ استهدف بوابة المستشفى الغربية ودمر عدة سيارات، وقصف ثالث استهدف بوابة المستشفى الشمالية وأسفر عن استشهاد ما بين 4 إلى 6 مواطنين داخل سيارة، فضلاً عن الشظايا التي كانت تصيب أسطح مباني المستشفى.

في الأسبوع الأخير من شهر نوفمبر 2023 تقريباً، وبعد محاولات عدة من قبل قوات الاحتلال لإخلاء المستشفى وعن طريق إجراء تنسيق لا أعرف تفاصيله خرجت، برفقة طبيب آخر و3 ممرضين وابني ضياء من مستشفى كمال عدوان في بلدة بيت لاهيا شمال قطاع غزة في سيارة إسعاف كانت تقف على بعد حوالي 300 متر من المستشفى وتوجهت بنا إلى المستشفى الأهلي العربي (المعمداني) في مدينة غزة.

فور وصولي إلى المستشفى الأهلي العربي (المعمداني) وعلى مدار حوالي 3 أسابيع عالجت عدداً كبيراً من الأطفال الذين أصيبوا بأمراض النزلات المعوية وانسداد الأمعاء والالتهاب الرئوي والحمى الشوكية وأمراض الدم.

وفي أحد الأيام استقبلنا حالة إنسانية معقدة للغاية حيث وصلت سيدة حامل في الشهر السابع ومصابة بعيار ناري في رأسها، حسب ما ذكر زوجها. وتم استدعائي مع طبيب النساء والولادة وطبيب المخ والأعصاب لقسم الاستقبال والطوارئ للتعامل مع المرأة المصابة. وكنا في حيرة وتردد في كيفية علاجها ثم اقترحت على زملائي الأطباء أن يقوم طبيب النساء والولادة بإجراء عملية قيصرية لإخراج الجنين، وكانت أنثى. ولم يتمكن طبيب المخ والأعصاب من إنقاذ حياة المرأة، وتوفيت بسبب إصابتها البالغة. ثم أخذت المولودة إلي غرفة العمليات في إجراء مخالف لبرتوكول دخول غرف العمليات، حيث كانت تجرى عملية جراحة عظام لأحد المصابين، وقمت بذلك لتوفر أجهزة خاصة في غرفة العمليات مكنتني من التعامل مع المولودة والتي استقرت حالتها بعد حوالي ساعتين (أجهزة تنفس وشفط ونبض وغيرها). وبسبب عدم توفر قسم حضانة داخل المستشفى استلم زوج المرأة مولودته ذات السبعة أشهر وهي بحالة جيدة.

كما استقبلت المستشفى أثناء وجودي فيها حالات كثيرة لمصابين، كان الأطباء يفاضلون أي الحالات يعالجون ويمكن أن تنجو وأي الحالات ميؤوس من شفائها أو يؤجل التعامل معها. كانت مواقف إنسانية صعبة ومحبطة في نفس الوقت، حيث تواجد في المستشفى حوالي 200 مريض وجريح كانوا بحاجة لإجراء عمليات جراحية، ومعهم مرافقين وعدد من النازحين.

في حوالي الساعة 01:00 مساء يوم الاثنين الموافق 18/12/2023، وأثناء حصار قوات الاحتلال الإسرائيلي المستشفى الأهلي العربي (المعمداني) في مدينة غزة، سمعت جنود الاحتلال ينادون عبر مكبرات الصوت على المتواجدين من طواقم طبية ومرضى ونازحين داخل المستشفى تطالبهم بالخروج منها. توجهت مع ابني ضياء وأحد الأطباء وآخرين من المتواجدين داخل المستشفى نحو البوابة الخارجية. وفور وصولنا أمرنا الجنود بخلع ملابسنا باستثناء الملابس الداخلية (البوكسر)، وقيدوا أيدينا خلف ظهورنا بقيود بلاستيكية وعصبوا أعيننا وألقوا بنا في الشاحنات المتوقفة أمام بوابة المستشفى وفي كل شاحنة حوالي 150 معتقلاً.

سارت بنا الشاحنات لمدة ساعة تقريباً وأنزلنا الجنود في مكان مجهول أرضيته غير مستوية وفيها حفر وحصمة. تم استجواب غالبية المعتقلين من محققي الجيش وتخلل ذلك اعتداءات بالضرب وسب وشتم، ثم نقلت مع معتقلين آخرين في شاحنة أخرى. وفي تلك اللحظة افترقت عن ابني ضياء، ومكثنا لوقت قصير في مكان مجهول، وتكرر ما حدث معنا من ضرب وشتم. ثم نقلت مع عدد من المعتقلين في عدة حافلات حتى وصلنا إلي معتقل غير معروف ومكانه مجهول بالنسبة لي، وسلموني بيجامة رمادية اللون ارتديتها لمدة 45 يوماً متواصلاً طوال فترة اعتقالي. وتعرف علي في هذا القسم من المعتقل شاويش القسم وهو طبيب فلسطيني معتقل، وأعطاني فرشة وحرام ووجبة عشاء صغيرة حيث كان الوقت متأخراً.

في هذا القسم (القسم الأول) من المعتقل والذي هو عبارة عن مكان محاط بالأسلاك الشائكة وله سقف وأرضيته من الأسفلت مكثت فيه حوالي 30 يوماً، اليوم الواحد يعادل سنة بسبب التعذيب الشديد و”التجويع”. كنت طوال الوقت مثل كل المعتقلين مقيد اليدين بقيود بلاستيكية للأمام وعصبة على عينيي وأجلس على ركبي على أرضية من الأسفلت من الساعة 05:00 صباحاً، وحتى الساعة 11:00 مساءً، ويتم عد المعتقلين (أسفراه) 4 مرات يومياً ( 06:00 صباحاً و 12:00 ظهراً، و 06:00 مساءً و 10:00 مساءً)، وكان البرد شديداً خاصةً في الليل والفرشة رقيقة وبطانية واحدة لا تكفي، والملابس أيضاً لا تقي من البرد.

خلال الثلاثين يوماً خضعت لجلسة تحقيق بعد 15 يوماً، ثم جلسة تحقيق كل أسبوع تخللها اعتداء بالضرب وشتائم ولا أريد الحديث عنها لأسباب خاصة. وخلال تواجدي في القسم الأول من السجن منعنا الجنود من التحدث مع بعضنا البعض ومنعونا الصلاة بالرغم من السماح لنا بالذهاب إلى دورة المياه. وتقريباً في آخر جلسة تحقيق وقبل نقلي لقسم لآخر تم شبحي بالوقوف ورفع يديً للأعلى لعدة ساعات. وكما ذكرت فقد تعرضت كغيري من المعتقلين “للتجويع” طوال فترة الاعتقال حيث قدم لنا الجنود طعاماً قليلاً جداً في الوجبات الثلاث ولا تكفي أي معتقل، وكانت وجبة الفطور عبارة عن قطعتي خبز صغيرتين مع القليل من المربى وقطعة صغيرة من الخضار أو الفواكه، ووجبة الغداء عبارة عن قطعتي خبز صغيرتين مع القليل من التونة وقطعة صغيرة من الخضار أو الفواكه، ووجبة العشاء عبارة عن قطعتي خبز صغيرتين مع القليل من الجبنة (لبنة) وقطعة صغيرة من الخضار أو الفواكه.

في القسم الثاني من المعتقل الذي نقلت إليه سمح لنا الجنود بالصلاة ولم يسمحوا لنا بالوضوء على الرغم أنهم سمحوا باستخدام دورة المياه فكنا نقوم بالتيمم (نستخدم التراب بدلاً من الماء للوضوء) ثم نصلي، ويقدر عدد المعتقلين في القسم الأول والثاني بحوالي 100 معتقلاً في كل قسم. في القسم الثالث تواجدت مع حوالي 70 معتقلاً وسمح لنا الجنود بالوضوء وبالصلاة.

أما في القسم الرابع من المعتقل ومكثت فيه حوالي 6 أيام فقد كانت أياماً قاسيةً للغاية حيث وضع الجنود قيودا حديدية في أقدام المعتقلين وأجلسونا على ركبنا على أرضية من الحصمة دون السماح لنا بالنوم أو الاستلقاء وتشغيل أصوات مرتفعة للغاية ومنعونا من التحدث ولو بكلمات قليلة ومنعونا من الوضوء ومن الصلاة. وطوال فترة الاعتقال لم يقدم جنود الاحتلال العلاج أو الخدمة الصحية للمرضى وكنت شاهداً على سقوط أحد الجرحى عدة مرات على الأرض. وفي إحدى المرات جازفت من احتمال تعرضي للعقاب وتوجهت نحوه بعد سقوطه وأخبرني أنه أصيب في كتفه في بداية العدوان وأجريت له عملية جراحية وتم تركيب شريحة معدنية (بلاتين) لتثبيت العظام في غزة ولكن بعد اعتقاله وتعرضه للتعذيب ساءت جراحه، ولم يكن يتلقى العلاج اللازم أو المناسب في المعتقل. وتحدثت مع طبيب المعتقل الذي وصل بعد فترة من الوقت بأنه يحتاج للعلاج وتم نقله من القسم إلى مكان مجهول ولم أعلم ماذا حدث معه بعد ذلك.

يوم الخميس الموافق/1/2/2024، وفي ساعات الصباح الباكر أفرجت قوات الاحتلال عنى بعد اعتقال دام 45 يوماً. وقبل الإفراج عني وخلال الأيام الأخيرة من الاعتقال ظهرت علىً ملامح التعب والاجهاد والنحول وظهر جلياً أن وزني قد نقص كثيراً، وبسبب حالتي الصحية هذه نقلت مع 5 معتقلين آخرين مرضى في سيارة إسعاف من المعتقل حتى معبر كرم أبو سالم في مدينة رفح، ورافق الإفراج عني مع المعتقلين الخمسة المرضى الإفراج عن حوالي 114 معتقلاً آخر أحدهم الطبيب الذي اعتقلت معه من المستشفى الأهلي العربي (المعمداني).

بعد الإفراج عني لا زلت أجهل مصير إخواني وزوجتي وأطفالي وأنا الآن على رأس عملي في قسم الأطفال في مستشفى أبو يوسف النجار في مدينة رفح وهذا واجب إنساني يجب أن نقوم به.

ملاحظة: بعد الانتهاء من تسجيل الإفادة وصل إلى مركز صحي العودة في مخيم الشابورة في مدينة رفح الذي تحول طابقه الثالث إلى قسم الأطفال في مستشفى النجار الشاب ضياء ابن الطبيب سعيد معروف والتقى بوالده لأول مرة بعد الإفراج عنهما وتبين أن قوات الاحتلال أفرجت عنه بعد يوم واحد من الاعتقال قرب دوار الكويت في مدينة غزة وانقطع التواصل بينهما بسبب استمرار اعتقال والده.